المركبات ذاتية القيادة.. نجاح في المناجم وإخفاق على الطرقات

تدأب شاحنات مؤتمتة على طريق ترابية في مقلع حجارة قرب دالاس بولاية تكساس على السير يومياً في منحدر لتحمل حجارة من حفرة تعدين عمقها نحو 40 متراً وتنقلها مسافة كيلومترين ونصف نحو كسارة صخور، وحين تبلغها تجدها ترفع طرف سطح التحميل لتفرغ حمولتها قبل أن تعود إلى حفرة التعدين لتلقي حمل آخر. يتسم هذا العمل بتكرار ورتابة وينطوي على قدر من المخاطر بسبب التعامل مع كميات ضخمة من المواد الثقيلة.
قال أنتوني ليفاندوفسكي، الرئيس التنفيذي لشركة “برونتو” في سان فرانسيسكو، إن هذا العمل مثالي للروبوتات “فالقيادة في المسار ذاته ذهاباً وإياباً مرة بعد مرة يضني العقل، ولا يحب الناس توليه”. شركته الناشئة تزوّد شاحنات ثقيلة بكاميرات وأجهزة استشعار متصلة بنظام تحديد موقع عبر الأقمار الإصطناعية وحواسيب مدمجة تتيح لها القيادة بلا سائق.
توسع إضافي
تعمل سبع من شاحنات ليفاندوفسكي في مقلع بحيرة بريدجبورت منذ عام، ما أتاح للعمّال التركيز على مهام أخرى، مثل تشغيل الحفارات التي تحمّل الصخور على متن الشاحنات.
أبدت شركة “هايدلبرغ ماتيريالز” (Heidelberg Materials)، مالكة مقلع بحيرة بريدجبورت، إعجابها بالتجربة. وأعلنت في 24 فبراير توسيع استخدام شاحنات ليفاندوفسكي المعدلة لتشمل 12 من مناجمها حول العالم. ولم تفصح الشركة عن التفاصيل المالية للصفقة مسبقاً، لكن ليفاندوفسكي أوضح أن الاتفاق يقضي بتولي “برونتو” تحديث وتشغيل ما لا يقل عن 100 شاحنة إضافية خلال السنوات الثلاث المقبلة.
اقرأ أيضاً: بعد استثمار 100 مليار دولار لم تنطلق السيارة ذاتية القيادة
أشاد أكسل كونرادس، المدير التقني لـ”هايدلبرغ” في بيان بنظام “برونتو” لدوره في تعزيز السلامة والكفاءة التشغيلية.
ستجعل هذه الصفقة “برونتو” واحدة من أكبر مشغّلي أساطيل الشاحنات ذاتية القيادة. (تقدم شركتا “كوماتسو” (Komatsu) و”كاتربيلر” (Caterpillar) المتخصصتان بصناعة معدات البناء الثقيلة أنظمة شاحنات تفريغ ذاتية القيادة خاصة بهما، وأعلنت “كوماتسو” العام الماضي أن أسطولها تجاوز 750 شاحنة).
قال ليفاندوفسكي: “كل ما يسير على عجلات سيصبح مؤتمتاً، والمسألة مجرد وقت وتحديد الجهة التي ستنفّذ ذلك.. نحن نبدأ من التطبيقات البديهية جداً”.
نقد ثاقب
يتحدث ليفاندوفسكي بثقة عن الموضوع. فالرجل الذي بلغ من العمر 44 عاماً، يعمل في قطاع المركبات ذاتية القيادة منذ انطلاقة هذه التقنية قبل عشرين عاماً. وفي أواخر العقد الأول من الألفية، ابتكر نموذجاً أولياً لمركبة ذاتية القيادة وباعه لشركة “جوجل”، ما مهّد لإنشاء قسمها الخاص بتقنية المركبات ذاتية القيادة، الذي يُعرف اليوم باسم “وايمو” (Waymo) ويشغّل خدمة سيارات الأجرة ذاتية القيادة (روبوتاكسي) في فينيكس وسان فرانسيسكو ولوس أنجلوس.
إلا أن ليفاندوفسكي اعتبر في السنوات الماضية أنه سيكون صعباً جداً إن لم يكن مستحيلاً إثبات تفوق أنظمة سيارات الأجرة ذاتية القيادة على السائقين البشر من حيث السلامة على معظم الطرق. كما لفت إلى أن تشغيل مركبات أجرة ذاتية القيادة سيكلف أكثر بكثير من الاستعانة ببضعة أشخاص من سائقي “أوبر” يقودون سيارات تقليدية.
وقال لمجلة بلومبرغ بزنيسويك في 2022: “صعب جداً إيجاد قطاع آخر استثمر هذا القدر من الدولارات في البحوث والتطوير ولم يتقدم إلا قدراً يسيراً”.
اقرأ أيضاً: ماذا يحول دون صنع سيارة ذاتية القيادة يعتمد عليها؟
يتأثر موقف ليفاندوفسكي هذا بتاريخه الشخصي. في 2017، عندما كان ما يزال مؤمناً بتقنية السيارات ذاتية القيادة، اتهمته “جوجل” بسرقة ملكيتها الفكرية، واضطر للاعتراف بالذنب في قضية سرقة أسرار تجارية وحكم عليه بالسجن. (أعفى عنه الرئيس دونالد ترمب في نهاية ولايته الأولى، وسوّى ليفاندوفسكي نزاعه مع “جوجل”).
مع ذلك، نقده للمركبات ذاتية القيادة في وقتها يبدو اليوم ناجماً عن بصيرة ثاقبة. في ديسمبر، أعلنت شركة “جنرال موتورز” عن إغلاق أعمالها في مجال سيارات الأجرة ذاتية القيادة المعروفة باسم “كروز”، بعد خسارتها ما يقارب 11 مليار دولار في هذا المشروع. كما تكبدت شركة “ألفابيت”، مالكة “وايمو”، خسائر بلغت 38 مليار دولار منذ عام 2016.
حرصت “برونتو” في المنهج الذي اتبعته في تطوير القيادة الذاتية على تجنب المشاكل التي تعيق سيارات الأجرة ذاتية القيادة، ومنها صعوبة التعامل مع المخاطر على الطرقات وعشوائية شوارع المدن. فلا توجد سيارات شرطة أو عربات إطفاء أو دراجات هوائية أو عربات أطفال أو حيوانات أليفة في مقالع الحجارة. وبما أن شاحنات “برونتو” تعمل فقط ضمن ممتلكات خاصة، فلن تجابه أخطاراً من قبيل التتسبب باختناقات مرورية أو إلحاق إصابات بالمشاة أو مخالفة قوانين المرور.
لن تنتشر هذه المركبات قريباً
في غضون ذلك، تواصل “وايمو” مساعيها في مجال المركبات ذاتية القيادة، وهي تستعد لتوسيع خدمة السيارات تحت الطلب لتشمل عملاء في أتلانتا وأوستن، كما لديها خطط للتوسع نحو ميامي في عام 2026.
قال رئيس شركة “تسلا” التنفيذي إيلون ماسك إن شركته ستطلق خدمة سيارات أجرة ذاتية القيادة في أوستن في وقت لاحق من هذا العام. وأضاف ماسك خلال مكالمة مناقشة أرباح “تسلا” الأحدث: “أعلم أن الناس قالوا إن إيلون هو الولد الذي صاح لينذر بوجود ذئب لم يره حقاً” في إشارة إلى وعوده المتكررة بشأن السيارات ذاتية القيادة منذ عام 2016، “لكنني أخبركم أن هناك ذئب حقيقي هذه المرة”.
زعم ماسك أن السبب الوحيد الذي قد يبطء إطلاق خدمة روبوتاكسي من “تسلا” هو القيود الناظمة المشددة على السيارات ذاتية القيادة. وقد ذكر سابقاً أنه سيستخدم منصبه على رأس وزارة الكفاءة الحكومية لإقناع البيت الأبيض بإنشاء إجراءات إتحادية لإصدار موافقات على هذه التقنية.
بدا أن معظم المستثمرين صدقوا وعده، ما قاد لارتفاع سعر سهم الشركة بنسبة تقارب 40% منذ الانتخابات في بداية نوفمبر.
اقرأ أيضاً: فريق ترمب يرغب بتخفيف القواعد على السيارات ذاتية القيادة
من جهته، يعتبر ليفاندوفسكي النقاش حول اللوائح التنظيمية مجرد تشتيت للانتباه، وقال: “إنه عذر لتبرير عدم جاهزيتك لطرح تقنينك. لا يوجد عائق تنظيمي، لكن ثمة عائق تقني بلا شك فهذه المركبات لا تعمل في كل مكان”. أشار إلى أن ذلك السبب هو ما يجعل شاحنات “برونتو” ذاتية القيادة تعمل في مواقع مغلقة بدل أن تخوض فوضى المرور في المدن، مضيفاً “إنها عودة إلى الأساسيات”.
قال إن الشركة تركز حالياً على “الحاضر، فيما تتطلع إلى ما سيحمله المستقبل” الذي قد نجد فيه المركبات ذاتية القيادة منتشرة في كل شارع ومدينة، لكن راهناً على الأقل، المشهد الأساسي هو لشاحنات بحمولات أحجار ضخمة.