المغرب في 2026.. استثمارات كأس العالم محرك للنمو الاقتصادي

ستبقى 2025 عالقة في أذهان المغاربة، ففيها حققت المملكة إنجازات رياضية عديدة، آخرها “كأس العرب فيفا” في قطر. وهي أيضاً السنة التي كسرت حلقة سنوات من الجفاف. أما اقتصادياً، فشهدت تدفقاً غير مسبوق من قِبل المستثمرين إلى بورصة الدار البيضاء.
الناتج المحلي في المغرب هذا العام يتجه لتحقيق نمو بنحو 5%، وهو الأعلى منذ أربع سنوات، بدعم من انتعاش القطاع الزراعي والصناعة والخدمات، مُقابل 3.8% المحققة العام الماضي.
كانت نهاية السنة الجارية ممطرة، وهو ما يُبشر بأن الموسم الفلاحي سيكون جيداً لكن ثماره ستُجنى السنة المقبلة، بما قد يُرجح مراجعة توقعات النمو نحو الارتفاع. كما تستفيد البلاد من أداء استثنائي لقطاع السياحة مدعوماً بتدفق الجماهير لمتابعة مباريات كأس أمم أفريقيا 2025 التي تستضيفها مدن المملكة خلال شهري ديسمبر ويناير.
استثمار حكومي غير مسبوق
لاستضافة كأس أمم أفريقيا واستعداداً لكأس العالم نهاية العقد الجاري، تنفذ المملكة مشاريع بنية تحتية ضخمة تقدر قيمتها بأكثر من 100 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة. ويشمل ذلك تأهيل الملاعب وتوسعة المطارات وتمديد خطوط السكك الحديدية والطرق السريعة. يشيّد المغرب ملعباً في ضواحي مدينة الدار البيضاء سيكون الأكبر في العالم بطاقة استيعابية تناهز 115 ألف متفرج.
اقرأ التفاصيل: تحالف مغربي ينجز أكبر ملعب بالعالم بـ370 مليون دولار
سيكون هذا الاستثمار الرياضي داعماً للنمو خلال العام المقبل، حيث أشار بنك المغرب المركزي بتقريره في ديسمبر الجاري إلى أن اقتصاد المملكة سيُسجل نمواً بمقدار 4.5% خلال السنتين القادمتين مدفوعاً بالأساس بدينامية مهمة للاستثمار.
الاستثمار الحكومي سيكون قاطرة من خلال إنفاق أكثر من 380 مليار درهم (حوالي 41.5 مليار دولار)، بزيادة قدرها 12% مُقارنةً بالعام السابق، بما يُمثل 21% من الناتج المحلي الإجمالي وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البلاد. ستُضخ هذه الأموال عن طريق القطاعات الحكومية والشركات التابعة لها وأيضاً الصندوق السيادي محمد السادس للاستثمار.
اقرأ أيضاً: المغرب يتوقع انخفاض العجز 23% في ميزانية 2026 رغم زيادة الإنفاق
وأعلنت نادية فتاح العلوي، وزيرة الاقتصاد والمالية للمشرعين في أكتوبر الماضي، أن الحكومة ستُوجه هذه الاستثمارات لمشاريع البنية التحتية والتي تشمل قطاع النقل بالأساس، من ضمنها توسعة المطارات وتمديد خطوط السكك الحديدية وتسريع إنجاز ميناءين شمال وجنوب المملكة.
يُخطط المغرب لمضاعفة الطاقة الاستيعابية لمطاراته إلى 80 مليون مسافر بحلول 2030 ضمن خطة إنفاق تقدر بـ4.2 مليار دولار، ويتماشى ذلك أيضاً مع نمو لافت في قطاع السياحة حيث احتلت البلاد المرتبة الأولى في القارة الأفريقية العام الماضي باستقبال 17.4 مليون سائح، وتتوقع رفع الرقم إلى 26 مليوناً بنهاية العقد.
أكبر المستفيدين من هذه الدينامية هي شركات البناء المحلية التي باتت تحصد أغلب صفقات البنية التحتية رغم المنافسة المحتدمة من قِبل شركات دولية. من أبرز اللاعبين في هذا القطاع شركة “الأشغال العامة للبناء بالدار البيضاء” (TGCC)، و”الشركة العامة للأشغال بالمغرب” (SGTM)، و”جيت كونتراكترز”، وهي كلها مُدرَجة في سوق الأسهم وشهدت أسعارها ارتفاعاً لافتاً هذه السنة.
اقرأ التفاصيل: 17 مليار دولار مشاريع بنية تحتية تنعش قطاع البناء المغربي
تحدي بطالة الشباب في المغرب
إذا كانت 2026 سنة جني ثمار الاستثمار وانتعاش الزراعة بعد سنوات عجاف، فإن المملكة لا تزال تواجه عدة تحديات، على رأسها تحفيز النمو لمستوى أعلى لخلق فرص العمل وكبح جماح البطالة التي تجاوزت 13%، خصوصاً وسط الشباب حيث ارتفعت في صفوفهم إلى 38% بالربع الثالث، وفقاً لبيانات المندوبية السامية للتخطيط، الجهاز الحكومي المعني بالإحصاءات.
يرى يوسف كراوي، الخبير الاقتصادي ورئيس المركز المغربي للحكامة والتسيير، أن “أكبر تحدٍ يواجهه اقتصاد المغرب هو الرفع من مستوى النمو الاقتصادي، وإحداث تحول في القيمة المضافة لقطاعي الصناعة والخدمات، وتقليل الاعتماد على قطاع الزراعة المتأثر بمواسم الجفاف”.
اقرأ أيضاً: المغرب يستهدف خفض البطالة إلى 9% بحلول 2030
واجه المغرب في السنوات الست الماضية أطول موجة جفاف في تاريخه المعاصر، وهو ما أثر على النمو الاقتصادي نظراً لارتباط 40% من سكانه بأنشطة فلاحية في القرى أغلبها عائلية تتأثر بقلة التساقطات المطرية.
كراوي اعتبر في حديث لـ”الشرق” أن “التحدي الأكبر هو الانتقال من 4% التي نحققها في ظل موسم فلاحي متوسط إلى 8% من خلال تحفيز إنتاج قيمة مضافة مهمة في القطاعات غير الزراعية لكي نتمكن من امتصاص البطالة، لذلك التركيز يجب أن ينصب على الصناعات ذات التكنولوجيا العالية”.
تسببت سنوات الجفاف الأخيرة في رفع مستوى البطالة ليعود إلى المستوى الذي كان عليه قبل ربع قرن، وتحاول الحكومة خفضه إلى 9% بنهاية العقد الجاري، حيث أعلنت في فبراير الماضي عن خارطة الطريق لسوق العمل، تتضمن هدف خلق 1.45 مليون وظيفة.
اقرأ أيضاً: لماذا لا يخلق اقتصاد المغرب ما يكفي من فرص العمل؟
ورغم تحقيق البلاد لمستويات نمو مرتفعة نسبياً فإن ذلك لا ينعكس على سوق العمل، فبعدما كانت كل نقطة نمو واحدة للناتج الداخلي الخام توفر نحو 30 ألف وظيفة في العقد الأول من الألفية، باتت اليوم لا توفر سوى نصف هذا العدد، ما يجعل التحدي أمام السلطات صعباً للغاية، لأن تنويع الاقتصاد بعيداً عن الزراعة يحتاج إلى سنوات لكون القطاع هو أكبر مُشغل لليد العاملة ويساهم بنحو 14% في الناتج المحلي.
وترجع محدودية قدرة النمو على خلق فرص العمل بشكل كافٍ إلى ضعف التنويع الاقتصادي، وتبعية النشاط الفلاحي للأمطار، وغياب الارتباط بين التعليم وسوق العمل، ناهيك عن استفحال ظاهرة القطاع غير الرسمي، بحسب تقرير صدر في نوفمبر عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، وهو مؤسسة أسست بدعم ملكي عام 2007 لتولي دراسة القضايا الاستراتيجية في البلاد.
تمويل مشاريع مونديال 2030
لطالما كان تمويل مشاريع الاستعداد لكأس العالم 2030 تحدياً بالنظر لإمكانية تحميل الميزانية أعباء إضافية وبالتالي مفاقمة العجز. لكن فوزي لقجع، الوزير المكلف بالميزانية، قال خلال ندوة في يوليو الماضي في العاصمة الرباط إن البنية التحتية التي تعتمد عليها البلاد لاستضافة كأس أمم أفريقيا 2025 ستدعم بشكل مباشر استعدادات البلاد لكأس العالم بنهاية العقد الجاري.
وأشار الوزير إلى أن الحكومة تعتمد آليات تمويل مبتكرة تعتمد على الشراكات مع القطاع الخاص. كما أوضح خلال حديث أمام المشرعين في نوفمبر خلال مناقشة مشروع موازنة 2026 أن مختلف “المشاريع لا ترتبط حصراً بتنظيم التظاهرة الكروية، مثل تمديد خطوط السكك الحديدية وتأهيل المطارات التي تأتي استجابة لنمو الطلب في قطاعات عدة على رأسها السياحة”.
اقرأ أيضاً: كأس أفريقيا باكورة جني المغرب لاستثمار 16 مليار دولار بالمونديال
رغم زيادة وتيرة الاستثمارات الحكومية، فإن ميزانية العام المقبل تستهدف خفض العجز إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي بانخفاض 0.5 نقطة على أساس سنوي. وتعول الحكومة بشكل رئيسي على نمو الإيرادات الضريبية بنسبة تصل إلى 17%، لتمثل حصة الأسد من الإيرادات الإجمالية.
وبنظر كراوي فإن “تمويل مشاريع المونديال يبرز كأحد أهم التحديات أمام الحكومة”، معتبراً أن “ذلك يحتاج إلى مصادر ضريبية جديدة دون تحميل الطبقة المتوسطة أعباء إضافية”.
لجأت الحكومة في السنوات الماضية لآلية “التمويلات المبتكرة” لدعم إيرادات الميزانية، حيث قامت ببيع أصول عقارية تابعة للدولة إلى مؤسسات ثم تقوم بتوقيع عقد استئجار طويل لها ينتهي بالتملك أي استعادة الأصل بعد انتهاء مدة العقد، وهي آلية مكنتها من جمع أكثر من 13 مليار دولار خلال السنوات الست الماضية. ويُتوقع استمرار اللجوء إلى هذه الآلية خلال السنتين المقبلتين.
اقرأ أيضاً: المغرب يخصص ملياري دولار لتأهيل ملاعب كرة قدم استعداداً لكأس العالم
حاول المغرب استضافة كأس العالم لكرة القدم ست مرات طيلة عقود، ويرى فوزي لقجع أن سعي المملكة المستمر لا يتعلق باستضافة مباريات تدوم تسعين دقيقة، وأضاف أمام المُشرعين الشهر الماضي: “تنظيم كأس العالم يُجسد منظوراً استراتيجياً لبلادنا، فهو خارطة عمل تتشابك فيها كل مظاهر التنمية، وأول التزام قدمناه للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) يهم القطاع الصحي.. والملاعب تُشيّدها شركات مغربية وتشغل يداً عاملة محلية”.
تضخم تحت السيطرة وبنك مركزي حذر
رغم تسجيل انكماش في أسعار المستهلكين للمرة الأولى منذ ديسمبر 2020، بفضل تراجع أسعار المواد الغذائية، لم يلجأ بنك المغرب المركزي لخفض الفائدة، مع أن ذلك قد يكون داعماً للنشاط الاستثماري غير المسبوق الذي تشهده البلاد.
ويبدو أن المركزي اختار نهج الحذر والتريث في ظل استمرار عدم اليقين على المستوى الدولي ما يجعل من الصعوبة توقع ما تحمله سنة 2026، لذلك أبقى سعر الفائدة دون تغيير عند 2.25% للمرة الثالثة على التوالي.
اقرأ أيضاً: لأول مرة منذ ديسمبر 2020.. انكماش أسعار المستهلكين في المغرب خلال نوفمبر
في نوفمبر الماضي، انخفضت أسعار المستهلكين بنسبة 0.3% على أساس سنوي، مقابل ارتفاع قدره 0.1% في أكتوبر، ما يعني انتقال التضخم إلى المنطقة السالبة.
ويُعدّ الانكماش الوجه الآخر للتضخم، إذ يشير إلى تراجع عام في الأسعار، وهي ظاهرة أقل شيوعاً لكنها تُعدّ أكثر خطورة، نظراً لاحتمال أن تدفع المستهلكين إلى تأجيل قرارات الشراء، وهو ما قد يفرض ضغوطاً على أرباح الشركات، وقد يقود في نهاية المطاف إلى تباطؤ اقتصادي وربما ركود عميق، لكن ما دام أقل من 1% فإن تأثيره يبقى محدوداً.
يُتوقع أن يسجل التضخم بنهاية العام 0.8%، على أن يرتفع قليلاً إلى 1.3% العام المقبل، وهي نسب منخفضة نسبياً مقارنة بالسنوات الماضية.
اقرأ أيضاً: المغرب يبقي سعر الفائدة دون تغيير عند 2.25% للمرة الثالثة
أشارت مذكرة بحثية صادرة عن “التجاري وفا بنك”، أكبر مصارف البلاد، أن قرار المركزي “يعكس اعتماد سياسة نقدية حذرة رغم السيطرة الواضحة على التضخم ورغم وجود متطلبات دعم دورة الاستثمار في المغرب”.
مع ذلك يرى محللو البنك أن المركزي لديه مجال كبير للمناورة لمواصلة التيسير النقدي مع هدف أولي لسعر فائدة عند 2% في عام 2026، وهو مستهدف يتفق معه محللو “بنك أفريقيا”، ثالث أكبر المصارف في المملكة، حيث يرون أن الخفض المرتقب سيزيد من دعم تمويل القطاع البنكي لمشاريع المونديال.



