اخر الاخبار

الاستثمار الثقافي.. رهان قديم يغازل اقتصادات المنطقة والعالم مجدداً

يشكّل الاستثمار الثقافي أحد المسارات الصاعدة في الاقتصاد العالمي، حيث تتحول الفنون والسينما والمتاحف والموسيقى إلى أدوات للتنمية وتنوع لمصادر الدخل. وتبرز في هذا السياق مبادرات عربية متسارعة تسعى إلى تحويل الثقافة إلى قطاع اقتصادي منتج ورافعة للقوة الناعمة. وفي السعودية، تستضيف الرياض حالياً المؤتمر الأول للاستثمار الثقافي، في خطوة تعكس طموح المملكة لزيادة مساهمة القطاع الثقافي في الناتج المحلي ضمن إطار رؤية 2030.

ما هو الاستثمار الثقافي؟

الاستثمار الثقافي هو توجيه الأموال والموارد نحو مشاريع ومؤسسات تعزز الإنتاج الثقافي والإبداعي مثل الفنون، والسينما، والمتاحف، والموسيقى. يهدف هذا الاستثمار إلى تحقيق عوائد مزدوجة سواء اقتصادية عبر خلق وظائف وتنويع مصادر الدخل أو اجتماعية من خلال ترسيخ الهوية وتعزيز القوة الناعمة. ويُنظر إليه كأداة تنموية تسهم في تحسين جودة الحياة وبناء مكانة دولية، حيث تتحول الثقافة إلى أصل استراتيجي يدرّ عائداً مادياً ورمزياً في آن واحد.

ما أهم المحاور والاتجاهات التي يركز عليها الاستثمار الثقافي؟

في البعد الاقتصادي والتنموي، يركّز الاستثمار الثقافي على تطوير الصناعات الإبداعية مثل الفنون، والموسيقى، والسينما، والنشر، والألعاب الرقمية باعتبارها محركات للنمو وتوليد الوظائف. حسب تقرير صدر في 2022 عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية “OECD”، ساهمت القطاعات الثقافية والإبداعية بنحو 2% من القيمة المضافة للاقتصاد التجاري في الدول الأعضاء. كما أنها تولّد فرصاً للابتكار وريادة الأعمال.

من الناحية الاجتماعية والبيئية، يُنظر للاستثمار في الثقافة كوسيلة لتعزيز الهوية، والتماسك المجتمعي، والمشاركة الشعبية، وربط التراث بالاستدامة الحضرية. اليونسكو تؤكد أن الثقافة يجب أن تُدمج كجزء من السياسات الوطنية للتنمية، لا تُعزل في مساحة منفصلة، لأنها تساهم في القضاء على الفقر، تحسين التعليم والجودة الحضرية. 

أخيراً، في الاتجاه المؤسسي والتنموي الوطني، يركّز الاستثمار على بناء الأُطر التنظيمية، الشراكات العامة-الخاصّة، البنى التحتية الرقمية، وتمويل المشاريع الثقافية. على سبيل المثال، يعرض تقرير بعنوان “المدن، الثقافة، الإبداع: تسخير الثقافة والإبداع من أجل تنمية حضرية مستدامة ونمو شامل”، الصادر عن البنك الدولي واليونسكو إطاراً يُمكّن المدن من دمج الثقافة في تخطيط الحضر من خلال بنى تحتية، ورأس مال بشري، وشراكات مجتمعية.

من أكبر المستثمرين عالمياً في الثقافة، وما العوائد منها؟

تتصدر أميركا الشمالية قائمة أكبر المستثمرين في الثقافة عالمياً، حيث تستحوذ على نحو 48% من المشاريع الكبرى، تليها أوروبا بنسبة 27%. وتبرز دول مثل الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة كمراكز رئيسية لضخ الاستثمارات في المتاحف، ودور الأوبرا، والمراكز الفنية، بحسب شركة “إيه أي إيه كونسلتنغ” (AEA Consulting)، وهي شركة استشارات عالمية متخصصة في الاستراتيجيات الثقافية والإبداعية وتصدر سنوياً مؤشر “البنية التحتية الثقافية” (Cultural Infrastructure Index).

قد يهمك: قفزة فلكية في أسعار إبداعات سكان أميركا الأصليين الفنية

وفي أحدث إصدارات المؤشر لعام 2024، بلغت قيمة المشاريع الثقافية المكتملة نحو 6.1 مليارات دولار، فيما سجّلت المشاريع المعلنة قيد التنفيذ حوالي 8.3 مليارات دولار، بزيادة تقارب 48% مقارنة بالعام السابق.

كما أظهر تقرير “آفاق الاقتصاد الإبداعي 2024” الصادر عن الأونكتاد، أن الصناعات الثقافية والإبداعية تدر إيرادات سنوية تقارب 2.3 تريليون دولار على مستوى العالم، بما يعادل نحو 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

من يقود الاتجاه عربياً؟

يشير تقرير “الترفيه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: بناء المنظومة” الصادر عن شركة إرنست آند يونغ (EY) إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي تُعد الأكثر نشاطاً في استثمارات الترفيه والثقافة، مدفوعة بدعم حكومي قوي وتطوير للبنى التحتية وتنمية المحتوى المحلي. 

اقرأ أيضاً: مصر تراهن على القطاع الخاص لإنعاش صناعة السينما

ففي السعودية، خُصصت استثمارات تقارب 50 مليار ريال (13.3 مليار دولار) لتطوير 21 وجهة ترفيهية متكاملة تضم أكثر من 150معلماً جاذباً مبتكراً.

بينما تخطط أبوظبي لإنفاق نحو 6 مليارات دولار بحلول 2026 على البنية التحتية الثقافية والترفيهية. أما في دبي، فتستهدف الخطط رفع مساهمة الصناعات الإبداعية من 2.6% في 2020 إلى 5% العام الجاري، وزيادة عدد الشركات من 8 آلاف إلى 15 ألف شركة، مع نمو الوظائف من 70 ألف إلى 150 ألف وظيفة.

أما في مصر، فيُشير تقرير “إيه أي إيه كونسلتنغ” إلى أن المتحف المصري الكبير بالجيزة يمثل واحداً من أضخم الاستثمارات الثقافية عربياً، بتكلفة تقارب مليار دولار، ما يعكس توجه المنطقة نحو تحويل الثقافة إلى قطاع اقتصادي وتنموي ذي ثقل عالمي.

الاستثمار الثقافي في السعودية كجزء من رؤية 2030

تستضيف الرياض حالياً أول مؤتمر للاستثمار الثقافي في مركز الملك فهد الثقافي والذي بدء بالأمس، ويمتد حتى اليوم 30 سبتمبر، بمشاركة نخبة من صانعي القرار والمستثمرين لبحث فرص الشراكات وتمويل المشاريع الثقافية. وذلك في إطار مساعي السعودية لرفع مساهمة القطاع الثقافي في الناتج المحلي إلى نحو 3% بحلول 2030، أي ما يعادل قرابة 180 مليار ريال (48 مليار دولار)، مقارنة بأقل من 1% في السنوات الماضية، بحسب تصريحات وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان لصحيفة “عرب نيوز”.

اقرأ المزيد: السعودية تستهدف حصة من سوق الاستثمارات الثقافية العالمية البالغة 4.3 تريليون دولار

ويشهد المؤتمر الإعلان عن صندوق استثمار سينمائي جديد بالشراكة بين الصندوق الثقافي والقطاع الخاص لدعم صناعة الأفلام، إلى جانب إطلاق مشروع رقمنة جدة التاريخية بالتعاون مع “غوغل آرتس آند كالتشر” (Google Arts & Culture) لإبراز التراث السعودي عالمياً. كما يتناول المؤتمر خطط تطوير سوق الموسيقى السعودية ليبلغ حجمها نحو 500 مليون دولار بحلول 2034، فضلاً عن تعزيز الاستثمار في الموضة باعتبارها قطاعاً ثقافياً واقتصادياً ناشئاً، وتوسيع الاستثمار في المتاحف والمهرجانات والتجارب الغامرة التي تمزج بين الثقافة والتكنولوجيا، وذلك إلى جانب المشاريع الكبرى القائمة مثل الدرعية والعلا والقدية ومشروع البحر الأحمر التي تستهدف تطوير السياحة الثقافية والتراثية.

ما التحديات التي تواجه الاستثمار الثقافي عربياً وعالمياً؟

رغم صعود الاستثمار الثقافي كقطاع واعد، إلا أن الطريق أمامه ليس سهلاً. أول التحديات يتمثل في التمويل المستدام، إذ غالباً ما تعتمد المشاريع الثقافية على دعم حكومي أو تبرعات خاصة، ما يجعلها عرضة للتأثر بالأزمات الاقتصادية أو الأولويات السياسية المتغيرة. كما أن محدودية قنوات التمويل المبتكر مثل صناديق رأس المال الثقافي أو الشراكات مع القطاع الخاص تُبطئ من نمو هذا القطاع.

التحدي الثاني يتعلق بـ البنية التحتية والتشريعات، حيث لا تزال بعض الدول تفتقر إلى الأطر القانونية والتنظيمية التي تشجع الاستثمار في الصناعات الإبداعية، مثل حماية حقوق الملكية الفكرية أو توفير حوافز ضريبية للمستثمرين. إضافة إلى ذلك، تواجه العديد من المدن صعوبات في دمج الثقافة في تخطيطها الحضري والاقتصادي، ما يحد من قدرتها على تحويل الثقافة إلى رافعة للتنمية المستدامة.

أما التحدي الثالث فهو العولمة والتحول الرقمي، إذ يتطلب الاستثمار الثقافي مواكبة سريعة للتغيرات في التكنولوجيا وسلوك المستهلكين، خصوصاً مع صعود المنصات الرقمية التي أعادت تشكيل صناعة الموسيقى والسينما والفنون. هذا التغير يفرض ضغوطاً على المؤسسات التقليدية لمواءمة نماذج أعمالها مع بيئة تنافسية شديدة، حيث لم تعد المنافسة محلية بل عالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *