اخر الاخبار

لماذا ما يزال اتفاق بلازا معياراً ذهبياً؟

لقد كانت السنوات مواتية لاتفاق بلازا أيام الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ريغان. فقد سعى هذا الاتفاق، الذي مثّل ذروة الدبلوماسية المالية بعد الحرب العالمية الثانية، إلى إحداث هزة في أسواق الصرف الأجنبي وإضعاف الدولار ضمن حدود.

رغم كثرة ما تظاهر بالتشبه به في السنوات التي تلت ذلك، إلا أن قليلاً من الاتفاقات ارتقت إلى مكانته. ورغم الانتقادات المشروعة للعالم المعاصر الذي يركز على الدولار، فإن الايحاء بإمكانية تكرار مثل هذه الصفقة الكبرى اليوم بعيد عن الواقع، فقد كان اتفاق بلازا من مستوى يتفرّد به.

كان الاتفاق بين وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية في 22 سبتمبر 1985، في فندق بلازا الشهير في مانهاتن، الذي اشتراه دونالد ترمب بعد بضع سنوات، مميزاً بصراحته، وبالتزام الأطراف المشاركة. وقد تحملت اليابان وطأة التعديلات المؤلمة التي تلت ذلك، لتصبح الوثيقة نقطة خلاف بين فينة وأخرى في لعبة تبادل اللوم بشأن تضييع عقود من الزمن.

صعود الدولار الصاروخي هل يعيد إحياء اتفاق “بلازا” للسيطرة على توحّش العملة الأمريكية؟

ارتفع الين من حوالي 240 يناً للدولار في الأسابيع التي سبقت الاجتماع إلى ما يقارب 145 يناً خلال عامين، وهو ارتفاع هائل كان له أثر سلبي على شركات اليابان الصناعية.

استغلت الصين، التي لم تشارك في الاجتماع نظراً لصغر اقتصادها آنذاك، شبح بلازا كمبرر للحفاظ على سيطرتها على اليوان ومقاومة المناشدات الغربية لفتح قطاعات رئيسية من اقتصادها. بعد عقدين من التخلي عن ربط عملتها بالدولار، لا تسمح بكين إلا بقدر ضئيل من المرونة، ويُرجح أن تخوض مفاوضات عسيرة مع الرئيس ترمب في محادثات التجارة.

أعلنت مجموعة الدول الخمس -التي لم تحضرها كندا وإيطاليا، العضوان الحاليان في مجموعة الدول السبع- أن “مزيداً من الارتفاع المنظم للعملات الرئيسية غير الدولارية أمر مرغوب فيه”. تعهدت اليابان بالسماح للين بأن يعكس “بشكل كامل” القوة الكامنة لاقتصادها، الذي كان يشهد ازدهاراً آنذاك.

كان هذا تعبيراً مُلطفاً عن سماح اليابان -أو تشجيعها- للين على أن يصبح أقوى بقدر ملحوظ. فيما تستمر طوكيو بالتدخل عندما تُعتبر التحركات أو المستويات متطرفة، فإن التدخل المتكرر أصبح شيئاً من الماضي. سيكون صعباً جداً إقناع الصين، الغيورة على سيادتها، بالتوقيع على أي شيء ملزم اليوم أثناء وجودها على الأراضي الأميركية- بغض النظر عن مدى جاذبية فكرة “اتفاق مارالاغو”.

هل كان فخاً لليابان تتجنبه الصين اليوم؟ 

تنظر الصين إلى إتفاق بلازا كما لو كان فخاً نصبته واشنطن لاحتواء صعود اليابان. لكن طوكيو عموماً لا تتبنى هذا الرأي. الإجماع السائد أكثر انتقاداً للذات؛ قد يلوم البعض الاتفاق، لكن التركيز الأكبر ينصب على كيفية تعامل السلطات معه آنذاك. وصف تاكاتوشي إيتو، أستاذ بجامعة كولومبيا ومسؤول سابق في وزارة المالية، بوجود قدر من “تأثير راشومون” يحيط باتفاق بلازا في إشارة إلى فيلم أكيرا كوروساوا لعام 1950 الذي يدور حول روايات مختلفة لحدث واحد.

في الواقع، كانت طوكيو سعيدة جداً بالمشاركة، فقد منحها مقعداً على الطاولة، على العكس من نظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة، الذي وُضع في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية لتأتي “صدمة نيكسون” وتقوضه بعد ثلاثة عقود.

وإن بدا اتفاق بلازا مُرهقاً بعض الشيء، فإن مطالبة اليابان بأكثر من الدول الأخرى لم تكن سوى انعكاس لتنامي مكانة طوكيو الدولية.

ترمب: أفضل الدولار القوي.. لكن انخفاضه مفيد

يكمن الفرق الشاسع بين اليابان في ثمانينيات القرن الماضي والصين اليوم في أن طوكيو لم تكن ترغب فقط في الالتزام بالقواعد، بل في أن تكون جزءاً من النظام الذي شكّلها. أما الصين فقد كانت أكثر تكتيكية- إذ تتظاهر بالولاء للقواعد، لكنها في الواقع تبذل قصارى جهدها للالتفاف عليها. كلا الدافعين يحملان في جوهرهما مظالم في التعامل مع الغرب تعود إلى قرون مضت. ولا أحد منا في نهاية المطاف يستطيع الفرار من تاريخه.

بدلاً من لعن اتفاق بلازا، ينظر معظم اليابانيين داخلياً إلى مزيج من أخطاء السياسة والهيجان الوطني الذي ضخّم فقاعة الأصول التي تلت ذلك. في سعيه لتعويض التداعيات المفاجئة التي شعر بها المصدرون نتيجة ارتفاع قيمة الين بما يتجاوز بكثير ما استهدفته طوكيو، دفع بنك اليابان المركزي قبل الاستقلال أسعار الفائدة إلى مستويات منخفضة جداً. ثم بالغ في رد فعله لاحقاً، ففجر الفقاعة عام 1989 عبر سلسلة زيادات.

محاولات تكرار أيقونة الاتفاقات

قد تفسر السياسة النقدية في الولايات المتحدة أيضاً تراجع قيمة الدولار بعد اتفاق بلازا. في مقال في صحيفة فايننشال تايمز هذا العام، أشار نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق ريتشارد كلاريدا إلى أن أسعار الفائدة الأميركية خُفِّضت بشكل كبير مع انحسار التضخم.

كان اتفاق باريس عام 1987 الذي سعى لكبح جماح القوى التي أطلقها اتفاق بلازا شهادةً على قوته. وباءت محاولات تصوير التصريحات الوزارية اللاحقة على أنها تؤشر أو تبشر بحلقة ثانية لم تبلغ مداها. وبعضها، بالنظر إليها بعد زمن، كان مُحرجاً. منها أحاديث عن ”اتفاقية هيونداي“، التي سُميت تيمناً بفندق كوري جنوبي كان مقرراً أن يجتمع فيه وزراء مجموعة العشرين عام 2010. وقد رأيتُ بياناتٍ تُصنف من منطلق التشابه على أنها ابن أو ابنة أو ابن عم بلازا، ولم يتمخض أي منها عن نتائج مشابهة.

اليابان تسعى لاستئناف محادثات العملة مع أميركا

يكمن مفتاح آخر لفهم بلازا، ولماذا قد لا يتكرر أبداً، في إدراك تفرد اللحظة. استعرت الحرب الباردة، واعتمدت اليابان وألمانيا الغربية على راعيهما الأميركي. كانت الأسواق ضخمة، لكنها لم تكن تداني حجمها الحالي. لم تستطع الحكومات مقاومة الأسواق، لكن قدرتها على توجيهها كانت كبيرة، أكثر بكثير مما هي عليه الآن.

هناك ثلاثة عناصر أخرى يصعب عليك إيجادها اليوم: السرية، وكذلك الثقة عبر وجود شخصية محورية يعلم المحاورون أنها تتحدث باسم المكتب البيضاوي. قليل ممن قادوا وزارة الخزانة الأميركية كان لهم مكانة جيمس بيكر، رئيس موظفي رونالد ريغان السابق الذي غدا وزيراً للخارجية لاحقاً. لقد وصفته سيرة ذاتية نُشرت عام 2021 بأنه “الرجل الذي أدار واشنطن”. ولا يتمتع سكوت بيسنت، وزير الخزانة في عهد ترمب، بنفس السطوة.

مقاومة الحمائية أم تشجيعها؟

كان إحباط المشاعر الحمائية المتنامية في الكونغرس جزءاً من دافع بيكر. آنذاك، كما هو الحال الآن، كان العجز التجاري هدفاً مشروعاً، وكانت إحدى الصور الأيقونية لتلك الحقبة يظهر فيها مشرعون فيما يهشمون راديو من إنتاج شركة ”توشيبا“ اليابانية. لكن على عكس ترمب، الذي تخلى عن الفندق عام 1995 ويحب الرسوم الجمركية، سعى ريغان إلى الحد من الحمائية.

بدلاً من التأسي من اتفاقية بلازا حيوها، فقد عكست التقاءً بين المصلحة الوطنية والذكاء الدبلوماسي والشعور بأن المصالح المشتركة تُملي التعاون. فُضلت التعددية بدل أن تُتجنب، كما ركزت الاتفاقية على ما يمكن تحقيقه وعلى من يمكن الاعتماد عليه.

لا شك أن جهود إعادة صياغة الدوافع والنتائج ستستمر، فلا شيء ذو أهمية يفر من هذا المصير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *