نفط البرازيل عالق بين مطرقة السوق وسندان تعهداتها البيئية

منذ خمسينيات القرن الماضي، بدأت البرازيل رحلتها مع النفط، ونجحت بترسيخ مكانتها ضمن أكبر 7 منتجين في العالم. لكن الآفاق المستقبلية تواجه تحديات داخلية وخارجية تضغط على القطاع والاقتصاد.
يرصد التقرير التالي أبرز المحطات في مسيرة البلاد النفطية، وكيف تحولت إلى واحدة من أبرز منتجي النفط في العالم، بالإضافة إلى التحديات التي تواجه البلاد في هذا القطاع، وأهمها الموازنة بين زيادة الإنتاج والتعهدات البيئية التي أطلقتها البلاد.
الطفرة النفطية بقيادة حوض “سانتوس”
انطلقت رحلة البلاد النفطية مع تأسيس “بتروبراس” عام 1953 واحتكارها للقطاع حتى 1997، عندما أقرت البلاد قوانين تسمح للشركات الخاصة والأجنبية بالدخول إلى القطاع.
شهدت البلاد الطفرة النفطية بعد اكتشاف الحقول البحرية العملاقة مثل “مارلي” و”رونكادور” و”ألباكورا” و”باراكودا كاراتينغا”، في حوض “كامبوس” قُبالة سواحل ريو دي جانيرو، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. بلغ إنتاج الحوض ذروته عام 2011 عند 1.8 مليون برميل يومياً، قبل أن يبدأ بالانخفاض بسبب النضوب الطبيعي.
توالت بعدها الاكتشافات، ولكن في حوض “سانتوس”. وأعلنت البلاد عن اكتشاف حقل “توبي” العملاق في 2006، ثم حقل “بوزيوس” في 2010، والذي يعد أحد أهم اكتشافات المياه العميقة في العالم خلال العقد الماضي، بالإضافة إلى حقل “ميرو” في طبقات ، والذي يتوقع أن يصبح من أبرز مصادر الإنتاج بحلول عام 2030، وحقل “سابينيوا”.
جذبت هذه الحقول شركات نفطية عالمية مثل “شل” البريطانية و”غالب” البرتغالية و”إكسون” الأميركية، بالإضافة إلى “شركة البترول الوطنية الصينية” و”شركة الصين الوطنية للنفط البحري” و”إكوينور” النرويجية.
اللافت أن الإنتاج من الحقول البرية والبحرية الضحلة، لا يتجاوز 7%، وتتوقع خطة الطاقة الصادرة عام 2022، أن يبقى الإنتاج عند هذا المستوى حتى عام 2030.
اقرأ أيضاً: زيادة إنتاج النفط في البرازيل مهددة وسط عراقيل تنظيمية
معدلات إنتاج النفط وخطط الزيادة
يتراوح إنتاج البرازيل من الخام حالياً بين 3 إلى 4 ملايين برميل يومياً، فيما تصدّر نحو 1.5 مليون برميل يومياً، وفق غليرمي إيستريلا المدير السابق للاستكشاف والإنتاج في شركة “بتروبراس” في تصريحات لـ”الشرق”. أما الاحتياطات المؤكدة فتقدر بنحو 16.8 مليار برميل، ما يجعل البلاد في المرتبة الثانية في أميركا اللاتينية بعد فنزويلا.
وبحسب خطة الطاقة العشرية، تهدف البلاد لبلوغ الإنتاج قرابة 5 ملايين برميل يومياً بحلول 2030، كما تُخطط لأن تصبح خامس أكبر مصدر للخام في العالم بحلول نهاية العقد الحالي.
لدعم هذا الهدف، ركزت السياسات في السنوات الأخيرة على جذب الاستثمارات، من خلال تنظيم عمليات طرح التراخيص، وتنفيذ إصلاحات ضريبية وتنظيمية لتحسين الجدوى الاقتصادية للمشاريع. وعلى سبيل المثال، خففت البرازيل من متطلبات المحتوى المحلي الصارمة، وقدّمت تخفيضات ضريبية على بعض مشاريع استخراج النفط، وسهلت عملية الحصول على التراخيص البيئية.
تركز البرازيل لتحقيق هذا الهدف على الحقول البحرية العميقة واحتياطيات النفط الخفيف والغاز قبالة سواحل سيرجيبي في الشمال الشرقي، إضافة إلى منطقة “الهامش الاستوائي” شمال البلاد والمطلة على المحيط الأطلسي، التي يُعتقد أن جيولوجيتها تشبه غيانا وفنزويلا، وفق إيستريلا.
تعهدات بيئية جريئة
رغم أن البلاد من أكبر 10 منتجين للنفط في العالم، إلا أنها رائدة أيضاً في مسيرة الطاقة النظيفة.
التزمت البرازيل بسياسات داعمة للطاقة المتجددة، وتعهدت بخفض الانبعاثات بنسبة 43% بحلول 2030، واضعة عام 2005 كسنة أساس، بالإضافة إلى تعهدها بتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2050، كما تستضيف هذه السنة مؤتمر “كوب 30” المناخي.
الدولة | حجم الإنتاج (مليون برميل يومياً) | نسبة الإنتاج من الإنتاج العالمي |
الولايات المتحدة | 21.91 | 22% |
السعودية | 11.13 | 11% |
روسيا | 10.75 | 11% |
كندا | 5.76 | 6% |
الصين | 5.26 | 5% |
العراق | 4.42 | 4% |
البرازيل | 4.28 | 4% |
الإمارات | 4.16 | 4% |
إيران | 3.99 | 4% |
الكويت | 2.91 | 3% |
المصدر: بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية لعام 2023
كما وجه الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا شركة النفط الحكومية بتكثيف استثماراتها في مجال الطاقة المتجددة، ما دفعها إلى تخصيص نحو 15% من إجمالي إنفاقها الرأسمالي البالغ 78 مليار دولار لمبادرات منخفضة الكربون، ضمن خطتها الاستراتيجية للطاقة 2024–2028، وفق تقرير صادر عن “التحالف العالمي للمقاييس المعيارية” وهي منظمة غير ربحية تقيس تأثير أكبر الشركات على الناس والكوكب.
الطاقة المتجددة تدعم الطلب الداخلي
استخدمت البرازيل الطاقات المتجددة لتغطية الطلب المحلي على الطاقة، ففي عام 2023، شكّلت الطاقة المتجددة 93% من إنتاج الكهرباء في البلاد (معظمها من الطاقة الكهرومائية، إلى جانب نمو في طاقتي الرياح والشمس)، ما أوصل معدلات استهلاك الخام إلى نحو 2.5 مليون برميل يومياً فقط، وهو “رقم منخفض مقارنة بحجم اقتصادها”، وفق إيستريلا. كما تعمل معظم السيارات في البرازيل اليوم بوقود من الإيثانول المستخرج من قصب السكر أو البنزين.
أدى ذلك إلى استقرار الطلب المحلي على الطاقة، فبين عامي 2011 و2021 سجل الطلب نمواً بنحو 0.5% سنوياً، مقارنة بـ3.3% بين 2000 و2010، وفق إدارة معلومات الطاقة الأميركية.
تضارب بين الالتزامات البيئية وزيادة الإنتاج
تحقيق أهداف الإنتاج قد يرتب على البلاد الاختيار بين تنفيذ أي من التعهدين، خصوصاً أن “بتروبراس” تخطط لإنتاج ما يقرب من 4 مليارات برميل من النفط “الجديد” بحلول منتصف القرن، رغم تعهدها بتحقيق صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2050. بالإضافة لذلك، فإن “الهامش الاستوائي” يقع قرب منطقة الأمازون، التي توصف بأنها “رئة الكرة الأرضية”.
وكمثال على التحديات البيئية، رفضت الهيئة التنظيمية البيئية في 2023 منح الشركة ترخيصاً لحفر بئر استكشافية في حوض “فوز دو أمازوناس” عند مصب نهر الأمازون، مشيرةً إلى عدم كفاية الدراسات البيئية. استأنفت الشركة القرار. وبحلول مايو 2025، منح رئيس الهيئة تصريحاً جزئياً للشركة، بعدما تعهدت بحماية الحياة البرية، وفق “رويترز”.
سوق الخام أمام مشهد معقد ومتشابك
قد يكون الاختيار بين زيادة الإنتاج أو المحافظة على التعهدات البيئية، أقل التحديات تعقيداً، خصوصاً في ظل واقع السوقين المحلية والعالمية.
تواجه سوق النفط العالمية في المدى القريب مخاوف من إمكانية حدوث فائض في المعروض، مع ارتفاع الإمدادات من دول “منظمة الدول المصدرة للنفط” (أوبك) وخارجها، في حين تهدد الحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب على غالبية دول العالم ومنها البرازيل، الطلب على الخام. هذه الظروف التي تطال جانبي السوق، أي الطلب والعرض، باتت تضغط على الأسعار العالمية.
ونظراً إلى أن الطلب الداخلي على الطاقة شبه مستقر عند 0.3% سنوياً، فقد تلجأ البلاد إلى تصدير الكميات الإضافية، أو تحويلها إلى الصناعات البتروكيماوية. ولكن في ظل بيئة عالمية معقدة، فإن أي زيادة للإمدادات إلى سوق الخام العالمية، قد تزيد من الضغوطات على الأسعار العالمية.
قد لا تتضرر قدرة الشركات البرازيلية على استخراج النفط في حال تراجعت أسعار النفط؛ إذ يشير إيستريلا إلى أن تكلفة الإنتاج في مناطق تقارب 29 دولاراً للبرميل، وهو مستوى منخفض جداً، وفق رؤيته.
اقرأ أيضاً: لماذا تتماسك أسعار النفط رغم ارتفاع المخزونات؟ “مورغان ستانلي” يجيب
أما الحقول البرية، فتكلفة الإنتاج فيها أعلى، ولكنها لن تتأثر “إلا إذا انخفضت الأسعار بشكل كبير جداً”، وفق المصدر ذاته.
رغم ذلك، فإن أي تأثير على أسعار النفط، سينعكس سلباً على إيرادات هذه الشركات، ما يضغط على الإيرادات الحكومية بطبيعة الحال.
ميثاق التعاون مع تحالف “أوبك+”
تدرك البلاد هذا التحدي، لذلك سرعت في الفترة الماضية التنسيق مع كبار المنتجين من حول العالم. ففي فبراير الماضي، أعلنت انضمامها إلى “ميثاق تعاون أوبك+”، بالإضافة إلى وكالة الطاقة الدولية، والوكالة الدولية للطاقة المتجددة.
ورغم أن الانضمام لا يلزمها بقرارات “أوبك+” بشأن الإمدادات، إلا أن الميثاق بصفته “منصة حوار” كما عرّفته “أوبك”، يكرس انخراط برازيليا في النقاش بشأن واقع السوق، ويمنحها فرصة التشاور المباشر مع صناع القرار في المنظمة، بشأن الخطوات التي يتخذونها، وكيفية رؤيتهم لمستقبل سوق النفط.
صعوبات مالية أمام الحكومة
هذه التحديات تترافق مع صعوبات أخرى تواجهها الحكومة للوفاء بالأهداف المالية التي وعدت بها، في ظل إيرادات أقل من المتوقع وزيادة في الإنفاق الحكومي.
ظهرت هذه التحديات في قرار “موديز” خلال يونيو الماضي، بخفض النظرة المستقبلية للاقتصاد البرازيلي من “إيجابية” إلى “مستقرة”، متوقعة عجزاً مالياً أكبر في الفترة المقبلة.
وفي محاولة لجمع إيرادات، اقترحت وزارة النفط سلسلة إجراءات تهدف إلى جمع نحو 6.2 مليار دولار من قطاع النفط خلال عامين. وتتضمن هذه الإجراءات بيع تراخيص للتنقيب، ومراجعة الأسعار المرجعية المستخدمة في احتساب الضرائب على النفط.
أضاف ترمب تحدياً جديداً من خلال تصعيده معركته ضد البرازيل، وهدد بفرض رسوم بنسبة 30% مستنداً إلى خلفية سياسية، تتمثل في طريقة تعامل البلاد مع الرئيس السابق جاير بولسينارو الذي يخضع للمحاكمة، وهو ما قد يضغط على الاقتصاد. ردت برازيليا على تهديدات ترمب معتبرة أنها “ابتزاز غير مقبول”.
أزمات داخلية في قطاع الطاقة المتجددة
في ظل السوق العالمية المعقدة، قد يكون خيار برازيليا تحويل بعض الزيادات إلى السوق الداخلية. ولكن هناك تحديات أخرى أمام هذا الأمر، إذ يتطلب من السلطات الاعتراف بتراجعها عن أهدافها المناخية، في وقت يواجه قطاع الطاقة المتجددة عاصفة إفلاسات.
يمكن وصف قطاع الطاقة المتجددة بأنه ضحية نجاحه. فبحسب “بلومبرغ”، أدت زيادة الإنتاج من المشاريع الجديدة إلى فائض كهربائي خلال ساعات النهار، في ظل نقص حاد في خطوط النقل القادرة على استيعاب هذا الإمداد، ما اضطر مُشغلي الشبكة لتقليص إنتاج بعض المشاريع.
ورغم أن البرازيل نجحت في جذب استثمارات بمليارات الدولارات لتوسيع شبكات النقل وربط الطاقة بالأسواق، إلا أن تنفيذ هذه المشاريع قد يستغرق نحو عقد قبل بدء تشغيلها.
تراجع إيرادات شركات الطاقة النظيفة
ظهرت الأزمة جلياً، مع دخول جمعيتي “أبيوليكا” و”أبسولار” (Absolar)، الممثلة لقطاع الطاقة الشمسية في البرازيل، في محادثات مع المصارف والمستثمرين لبحث تمديد آجال استحقاق الديون، بهدف إنقاذ الشركات التي تكبّدت تراجعاً في الإيرادات قد يصل إلى 60%، ومنحها فرصةً لتجاوز الأزمة على المدى القصير.
وفي الوقت نفسه، لا تزال انبعاثات الكربون في البرازيل المرتبطة بالطاقة بحاجة إلى انخفاض كبير لتحقيق هدف الحياد الكربوني بحلول عام 2050، بحسب “بلومبرغ إن إي إف”، وهو هدف بات مهدّداً بفعل الأزمات التي تلمّ بالقطاع.
والحال، أن البرازيل تعيش اليوم واقعاً معقداً في قطاع الطاقة. فمن جهة تمتلك تكلفة إنتاج منخفضة نسبياً ما يعني أنها مُحصنة ضد تراجع الأسعار، من جهة أخرى، فإن سوق الخام العالمية تواجه عدم يقين بسبب التحديات التي تواجهها، في حين السوق المحلية شبه مكتفية.
الزيادات في الإنتاج في ظل هذه الظروف، قد توصل البلاد إلى مرحلة تختار فيها بين دعم شركات الطاقة النظيفة لحماية تعهداتها ولعشرات آلاف الوظائف القائمة بالفعل، أو التضحية به في سبيل زيادة إنتاج الخام.