الاحتياطي الفيدرالي مصمم بطريقة تتصدى لتدخلات ترمب

لم يُخف الرئيس دونالد ترمب رأيه في السياسة النقدية، وينوي استبدال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بشخص آخر يخفض أسعار الفائدة فور توليه المنصب العام المقبل، إن لم يكن قبلها.
من حسن الحظ أن البنك المركزي الأميركي تأسس بطريقة تمنع قيام السلطة التنفيذية بانقلاب من هذا القبيل. لذلك تتعامل الأسواق المالية مع تصرفات ترمب بهدوء، مهما حاول تقويض تقاليد الاستقلالية والتكنوقراطية في الاحتياطي الفيدرالي.
موافقة مجلس الشيوخ واجبة
أولاً؛ سيتعيّن على ترمب أن يحصل على موافقة مجلس الشيوخ على مرشحه، وستعقد لجنة البنوك والإسكان والشؤون الحضرية جلسات استماع مع مرشح ترمب، وسيقيّم المشرعون جدية المرشح، قبل التفكير في إجراء تصويت في المجلس بأكمله.
صحيح أنني شعرت بخيبة أمل في الآونة الأخيرة من طريقة خضوع “صقور المالية العامة” من الجمهوريين بلا اعتراض أمام موازنة ترمب هذا الشهر، لكن لا يزال هناك احتمال أن حلفاء الرئيس أنفسهم سيضعون خطاً أحمراً عند نزاهة البنك المركزي.
على سبيل المثال، تذكّر فشل ترشيح جودي شلتون لعضوية مجلس الاحتياطي الفيدرالي في 2020، خلال ولاية ترمب الرئاسية الأولى. تُعد شلتون أحد مؤيدي العودة إلى معيار الذهب، وكان عدم صلاحيتها لتولي المنصب واضحاً، وقد أثارت موجة اعتراضات حادة بين الاقتصاديين والموظفين السابقين في الاحتياطي الفيدرالي. وقد تدخل كبار أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين ورفضوا دعمها، ما شكل انتقاداً للرئيس في فترة سيطر فيها حزبه على الأغلبية في الهيئة التشريعية.
تحديد أسعار الفائدة مسؤولية لجنة الأسواق المفتوحة
ثانياً؛ الاحتياطي الفيدرالي ليس دكتاتورية، وسلطة رئيسه ليست مطلقة، مهما كان الإطار الذي يضع فيه ترمب انتقاداته لباول. فاللجنة الفيدرالية للأسواق المفتوحة- الجهة المنوطة بتحديد أسعار الفائدة في الاحتياطي الفيدرالي- تضم 12 عضواً لهم حق التصويت، ثمانية أعضاء دائمين وأربعة متناوبين من نظام بنوك الاحتياطي الإقليمي.
وفي تشريعات مختلفة صدرت بين 1913 و1935، صمم المشرعون الأميركيون لجنة الأسواق المفتوحة بهدف تحقيق التوازن بين المصالح الإقليمية والوطنية، وحماية السياسة النقدية من الضغط السياسي.
أصحاب حق التصويت الدائم والمتناوب
يضم أصحاب حق التصويت الدائم سبعة أعضاء من مجلس محافظي البنك، يتولون مناصبهم على فترات متداخلة لمدة 14 عاماً، وقد حُددت هذه المدة عمداً لضمان عدم التزامن مع الدورة السياسية. وإلى جانب السبعة، يحصل رئيس الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك وحده على حق التصويت الدائم.
أما الأربعة أعضاء الآخرون أصحاب حق التصويت، فيتناوبون سنوياً من بين مجموعة تضم 11 رئيساً لبنوك الاحتياطي الإقليمية، يجري اختيارهم من قبل لجنة لتقييم وتعيين المرشحين تشكلها مجالس إدارات بنوكهم، وليس الرئيس. (لم يمنع هذا النظام ريتشارد نيكسون من التأثير على رئيس الاحتياطي الفيدرالي أرثر برنز في السبعينيات، لكن نيكسون كان في وضع استثنائي حينها، إذ عيّن خمسة من أعضاء مجلس المحافظين. الأكثر أهمية، أن ما حدث في عهد نيكسون أدى إلى تبني الاحتياطي الفيدرالي استقلالية وشفافية أوسع نطاقاً يصعب تقويضهما لاحقاً).
يُعد تحديد عدد الأعضاء الجمهوريين الذين يملكون حق التصويت في الفترة الحالية أمراً صعباً إلى حد ما، ويرجع ذلك إلى أن العديد من رؤساء بنوك الاحتياط يتكتمون على انتماءاتهم السياسية، ضمن أسباب أخرى.
من بين أعضاء مجلس المحافظين السبعة، عيّن الرئيس السابق جو بايدن أربعة، فيما بقي اثنان منذ ولاية ترمب الرئاسية الأولى، أما السابع فهو باول، وقد رشحه الرئيس الأسبق باراك أوباما لعضوية المجلس، ورقاه ترمب إلى منصب رئيس البنك المركزي. وستنتهي فترة أدريانا كوغلر، إحدى من عينهم بايدن، خلال ولاية إدارة ترمب.
تراجع المعارضة في لجنة الأسواق المفتوحة
باختصار، حتى لو عيّن ترمب شخصاً يعميه الولاء لدرجة تدفعه إلى توجيه الاقتصاد إلى اتجاه خاطئ عمداً، فلن يمكنه أن يدبر لتغيير للنظام في اللجنة. كما قد يحتفظ رئيس الاحتياطي الفيدرالي الحالي باول بمقعده في المجلس بعد انتهاء ولايته إذا رأى أن بديله مرشحاً متهوراً، رغم أنها ستكون أول مرة يفعل فيها رئيس سابق للبنك هذا منذ مارينر إيكلز في 1948.
يُجدر الاعتراف بأنماط التصويت في لجنة الأسواق الفيدرالية خلال الآونة الأخيرة، إذ أعطت للبعض في الأسواق المالية انطباعاً خاطئاً بأن رئيسها يملك سلطة مطلقة. منذ منتصف التسعينيات تقريباً، أصبحت معارضة قرارات السياسة النقدية أقل شيوعاً بكثير، بالأخص بين أعضاء مجلس المحافظين.
المؤسف أن لدى العامة انطباعاً بأن المعارضة تتلاشى، وألوم الاحتياطي الفيدرالي على أن سوء تواصله، وتقاليده الداخلية قد سمحت بترسخ هذه الفكرة. رغم ذلك، فهي فكرة خاطئة.
النقاشات داخل اللجنة لا تنقطع
لا يزال هناك الكثير من النقاش المحتدم الدائر في لجنة الأسواق المفتوحة، ويدور معظم هذا النقاش قبل اجتماع صناع السياسة لاتخاذ قراراتهم بشأن أسعار الفائدة.
خلافاً لما كان يجري في الفترات السابقة، يمضي أعضاء مجلس المحافظين ورؤساء بنوك الاحتياط ساعات عديدة خلال الفترات بين الاجتماعات في تقديم الحجج التي تدعم آرائهم إلى العامة من خلال الخطب والمقابلات. الواقع أن قرار السياسة النقدية يُناقش على شبكتي “سي إن بي سي” و”بلومبرغ”، ثم يجتمع الكل ويحاولون إظهار إجماع الآراء.
هل هذا إجماع زائف؟ على الأرجح، ولدي الكثير من التحفظات على هذا التقليد. لكن إنصافاً للاحتياطي الفيدرالي، فإن الإجماع المصطنع له غرضه.
تزامنت حقبة الإجماع مع حقبة التوجيه المستقبلي، عندما قرر صناع السياسة استخدام بيانات التوقعات المستقبلية بشكل أكثر فاعلية للتأثير على أوضاع السوق، وتحقيق أهداف أقصى مستوى للتوظيف، واستقرار الأسعار. وشكّل الاتساق الداخلي عنصراً جوهرياً في نجاح التوجيه المستقبلي. أما وجهة نظري، فإن المعارضة داخل اللجنة لا تزال موجودة، حتى لو أشار سجل التصويت إلى غير ذلك.
السندات تعكس التوقعات طويل الأمد
هناك أمر أخير بشأن خطط ترمب للسياسة النقدية؛ فمهما حدث، سيتعيّن عليه تحمل العواقب أمام الأسواق المالية. فإذا نجح الرئيس بشكل ما في تعيين شخص يوافقه دوماً في الاحتياطي الفيدرالي، وتمكن ذلك الشخص بطريقة ما من التأثير على أعضاء لجنة الأسواق المفتوحة وإقناعهم بخفض أسعار الفائدة متذرعاً بمبررات خاطئة، فإن تكاليف الاقتراض طويلة الأجل، التي تشكل المسألة الأشد أهمية على المستوى السياسي، سترتفع حتماً، لا تنخفض.
تعكس عائدات سندات الخزانة لأجل 10 سنوات- التي تعد معياراً رئيسياً للقروض العقارية ثابتة الفائدة لمدة 30 عاماً وغيرها من قروض المستهلكين والشركات- التوقعات حول الاقتصاد على المدى الطويل، وسترتفع إذا ظن المستثمرون أن البنك المركزي يتخلى عن مسؤوليته في السيطرة على التضخم. وتشير العبرة من التراجع عما حدث “يوم التحرير” في الآونة الأخيرة أن ترمب قد يدرك ذلك، ويخفف من نزعاته المتهورة الأشد سوءاً.
المرشح الأفضل لخلافة باول
بشكل عام، لا أزال آمل ألا يصل الوضع إلى هذا أبداً. وكما أشرت في مقالي الأسبوع الماضي، إن أفضل خيار أمام الرئيس لمنصب رئيس الاحتياطي الفيدرالي هو المحافظ الحالي كريستوفر والر، المسؤول الذي عينه ترمب في 2020، وتميّز ببديهة في فهم الاقتصاد الكلي ومهارات تواصل استثنائية. كما يحظى والر باحترام الأسواق وزملائه، وسيتخذ قراراته على أساس أدلة الاقتصاد الكلي السليمة. لكن يجب أن يعد ترشيحاً مقبولاً من ترمب، إذ قدم مبرراته لخفض أسعار الفائدة، استناداً إلى البيانات، وليس السياسة.
حتى لو تجاهل ترمب هذه النصيحة وسعى إلى تعيين شخص يسيطر عليه تماماً، فالنبأ السار أن لجنة تحديد أسعار الفائدة في الاحتياطي الفيدرالي صُممت بشكل جيد لمنعه من التسبب في ضرر أكبر ممن اللازم.