اخر الاخبار

تخارج آسيوي كبير ومليارات الدولارات تغادر الأسواق الأميركية

اعتمدت الدول الآسيوية المصدّرة على مر عقود استراتيجيةً ماليةً واضحةً تقوم على تصدير منتجات إلى الولايات المتحدة، ثم استثمار عائدات ذلك في أصول أميركية.

لكن هذا النمط يواجه اليوم أكبر تهديد له منذ أزمة 2008 المالية العالمية، في ظل سعي الرئيس دونالد ترمب لإعادة رسم ملامح التجارة العالمية والاقتصاد الأميركي، وهذا تحوّل قد يهزّ الأسس التي قامت عليها استثمارات آسيوية تُقدّر بنحو 7.5 تريليون دولار. ويعتقد عدد من كبار مديري الأصول العالميين أن هذه ما هي إلا بداية تقهقر هذا النموذج.

من باغتهم هذا التحوّل، تكبّدوا خسائر فادحة. إذ إن التخارج من الدولار، بعدما فرض ترمب رسوماً جمركية على معظم شركاء الولايات المتحدة التجاريين، أسفر عن خسائر بلغت 620 مليون دولار لدى شركات التأمين التايوانية في أبريل وحده. ثم جاء ارتفاع الدولار التايواني بما يصل إلى 8.5% خلال يومين في مطلع مايو، ليهدد هذه الشركات بخسائر في العملة قد تصل إلى 18 مليار دولار على استثماراتها الأميركية غير المحوطة.

حتى قبل عودة ترمب إلى الرئاسة، كانت تدفقات رؤوس الأموال من آسيا إلى الولايات المتحدة قد تراجعت عن ذروتها التاريخية. واليوم تلوح مؤشرات على تسارع هذا الاتجاه. فأكبر شركة تأمين على الحياة في اليابان تبحث عن بدائل للسندات السيادية الأميركية، في حين بدأت مكاتب العائلات الثرية تقلص استثماراتها أو تجمدها.

كما أعلن صندوق التقاعد الأسترالي، الذي يدير أصولاً قدرها 96 مليار دولار، عن بلوغ مخصصاته للأصول الأميركية ذروتها. وتشير أحدث البيانات إلى أن الصين خفّضت حيازاتها من سندات الخزانة الأميركية في مارس.

قالت فيرجيني ميزونوف، الرئيسة العالمية للاستثمار في الأسهم لدى شركة “أليانز غلوبال إنفستورز” (Allianz Global Investors) في لندن، التي تدير أصولاً بقيمة 571 مليار يورو (649 مليار دولار): “نحن نشهد تحولاً في النظام العالمي، ولا أعتقد أننا سنعود إلى ما كان عليه الوضع سابقاً. ما نشهده هو تطوّر للنظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وقد تأجّج جزئياً مع بروز الصين كمنافس اقتصادي وتقني للولايات المتحدة”.

اقرأ أيضاً: تراجع الصادرات والإنتاج الصناعي في آسيا جراء الحرب التجارية

انقلاب الاستراتيجية 

لدى المستثمرين الآسيويين اليوم قائمة طويلة من الأسباب التي تدفعهم للبحث عن بديل للأصول الأميركية، من تفاقم عجز الموازنة وتعاظم التباعد السياسي، إلى القلق إزاء هشاشة البنية التحتية المتقادمة في البلاد. كما أن استخدام الدولار، بصفته العملة الاحتياطية العالمية، كسلاح في العقوبات المفروضة على روسيا، أثار تساؤلات حول مدى أمان الأصول المقوّمة بالدولار التي تحتفظ بها آسيا.

 لقد فاقم سعي ترمب لخفض الضرائب مخاوف تهور التوسع المالي، ما أسفر في 16 مايو عن فقدان الولايات المتحدة آخر تصنيفاتها الائتمانية من الدرجة الممتازة، بعدما خفّضت “موديز” (Moody’s Ratings) تصنيفها، لتنضم بذلك إلى وكالات تصنيف أخرى.

في هذا السياق، رأى ستيفن جين، الرئيس التنفيذي لشركة “يوريزون إس إل جيه كابيتال” (Eurizon SLJ Capital)، أن التحوّل من السعي للاستكثار من الأصول المقوّمة بالدولار إلى التشكيك في كون الولايات المتحدة حالة استثنائية، قد يحول تدفقات تُقدّر بنحو 2.5 تريليون دولار أو أكثر عبر الأسواق العالمية.

في هذا السيناريو، يُتوقع أن تقفز عملات الأسواق الناشئة أمام الدولار، وأن تستفيد الأسهم الأوروبية واليابانية من تدفقات رؤوس الأموال، فيما تنتعش أسواق الدين في دول مثل أستراليا وكندا مع تدفّق رساميل جديدة، وفقاً لما أفاد به مديرو أصول ومحلّلون.

بالنسبة إلى آسيا، فإن إعادة هيكلة روابطها المالية تشكل انقلاباً على استراتيجية نشأت في عمق أزمة 1997 المالية. آنذاك، أدّى الإفراط في الاعتماد على الاقتراض قصير الأجل، بلا غطاء كافٍ من الأصول المقوّمة بالدولار إلى أزمة ديون تلاها انهيار حادّ في العملات والأسهم.

استخلصت الدول الآسيوية عبراً من تلك التجربة، ما قادها إلى اعتماد استراتيجية تركّز على تحقيق إيرادات دولارية من صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبناء فوائض مالية ضخمة أُعيد ضخّها في الولايات المتحدة.

بيّن تحليل من بلومبرغ يستند إلى بيانات تدفقات رؤوس الأموال الصادرة عن وزارة الخزانة الأميركية أن مجمل استثمارات أكبر 11 اقتصاد آسيوي في الأسهم والسندات الأميركية منذ عام 1997 بلغ 4.7 تريليون دولار، ما رفع إجمالي استثماراتها إلى 7.5 تريليون دولار.

بلغت هذه التدفقات السنوية إلى الولايات المتحدة ذروتها في 2004، إذ وصلت إلى 354 مليار دولار، بالتزامن مع صعود الصين بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، ما أعاد رسم مشهد التجارة والاستثمار في المنطقة. في تلك الحقبة، كان كبار المصدّرين الآسيويين يعيدون استثمار كل دولار تقريباً من عائدات صادراتهم لأميركا في أسواق الأسهم والسندات الأميركية، مدفوعين بالعوائد المجزية والنمو القوي لأكبر اقتصاد عالمي.

قال ديفيد غيبسون-مور، رئيس وكبير تنفيذيي شركة “غلف أناليتيكا” (Gulf Analytica) المتخصصة في الاستشارات المالية إن الأزمة المالية العالمية في 2008 دقت “جرس إنذار”، بعدما كشفت هشاشة الأسواق الأميركية وما تنطوي عليه من مخاطر.

أضاف رئيس الشركة، التي تتخذ في دبي مقراً لها ولها عملاء آسيويون، أنه على مدى العقد الماضي “عمدت الصناديق السيادية ومكاتب العائلات الثرية والمؤسسات الاستثمارية في آسيا إلى إعادة موازنة محافظها تدريجياً لتقلص انكشافها المفرط على الأصول الأميركية”.

بحلول 2024، كانت تدفقات رؤوس الأموال الآسيوية إلى الولايات المتحدة قد انخفضت إلى 68 مليار دولار فقط، أي ما يعادل 11% فحسب من الفوائض التجارية مع الولايات المتحدة التي واصلت اتساعها. وقد شهدت الصادرات الآسيوية نمواً قوياً في الأعوام الأخيرة، مدعومة بقوة الدولار وانتعاش الاستهلاك الأميركي بعد جائحة كوفيد.

اقرأ أيضاً: ضبابية رسوم ترمب تفاقم رهانات المستثمرين على ضعف عملات آسيا

الاعتماد على انخفاض الفائدة اليابانية

رغم تباطؤ تدفقات رؤوس الأموال، ظلّت آسيا تعوّل بشكل كبير على قوة الدولار كمرتكز لنموها ونموذجها الاستثماري. غير أن المخاطر الكامنة في هذا الاعتماد ظهرت العام الماضي، حين شرع “بنك اليابان” في رفع أسعار الفائدة بعد سنوات من سياسة نقدية بالغة التيسير، بالتوازي مع تدخّل السلطات لدعم الين.

ارتفع الين 14% مقابل الدولار بين مطلع يوليو وأغسطس. وفجأة، أصبحت صفقات الكاري تريد العالمية —حيث يقترض المستثمرون الين بتكلفة منخفضة للاستثمار في أصول ذات عوائد أعلى في الولايات المتحدة وسواها— عرضة للخطر. وتشير تقديرات بلومبرغ إيكونوميكس إلى أن المستثمرين سارعوا إلى تقليص مراكزهم بأسرع وتيرة منذ عام 2007.

أطلق ذلك دوّامةً عنيفةً، إذ ساهم تقليص استراتيجية قدّرت “غلوبال داتا تي إس لومبارد” (GlobalData TS Lombard) حجمها بنحو 1.1 تريليون دولار في تعزيز قوة الين أكثر، ما قاد إلى مزيد من تصفية المراكز. وقد تضرّرت أصول متنوعة حول العالم، من أسهم “إنفيديا” إلى سندات الأسواق الناشئة، مروراً بـ”بتكوين”. وفي اليابان، مُنيت أكبر ثلاثة مصارف بخسائر سوقية تجاوزت 85 مليار دولار خلال يومي تداول فقط.

دفع هذا الحدث المستثمرين إلى إعادة النظر في استراتيجياتهم طويلة الأجل، بحسب أوديث سيكند، كبير محللي الأسواق الناشئة لدى “غافيكال ريسيرتش” (Gavekal Research) في هونغ كونغ، الذي قال: “مثل هذه الصفقات لا تكون مجدية إلّا عندما تتحرّك أسعار الصرف على النحو الذي تتوقّعه، أي حين تواصل العملة المحلية التراجع ويواصل الدولار الارتفاع”.
ثم جاء انتخاب ترمب لولاية رئاسية ثانية.

لقد تعهّد الرئيس بإعادة الصناعات إلى الداخل الأميركي، ولم يتوقف عن انتقاد ما يعتبره تلاعباً من دول أخرى في خفض قيمة عملاتها لتحقيق ميزة تنافسية، وهو نهج يتصادم مباشرة مع نموذج النمو القائم على التصدير الذي تعتمد عليه اقتصادات آسيا.

دفعت إعلانات ترمب المفاجئة عن فرض رسوم جمركية مرتفعة، خصوصاً على المصدّرين الآسيويين، كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية للمسارعة إلى طاولة المفاوضات. في هذه الأثناء، بدأ المتعاملون في الأسواق يتساءلون عمّا إذا كانت قضية أسعار الصرف ستُدرَج ضمن محادثات التجارة، لا سيما أن الصين واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وفيتنام وسنغافورة مدرجة على قائمة مراقبة العملات التي تصدرها وزارة الخزانة الأميركية. وتُراجع الوزارة هذه القائمة مرّتين سنوياً، لتحدد ما إذا كان الشركاء التجاريون الرئيسيون للولايات المتحدة يعمدون إلى التلاعب بقيمة عملاتهم مقابل الدولار لتحقيق ميزة تنافسية.

اقرأ أيضاً: آسيا تدفع ثمن الرسوم وتوقعات النمو عند أدنى مستوى منذ كورونا

ارتفاع الدولار التايواني

في مطلع مايو، تصاعدت تكهّنات بأن الولايات المتحدة قد تطلب من تايوان تعزيز قيمة عملتها خلال محادثات التجارة الثنائية. وكان ارتفاع الدولار التايواني خلال يومين أحدث صدمة في أوساط المتعاملين والشركات.

جاءت وتيرة هذا الصعود التي لم تشهدها السوق منذ ثمانينات القرن الماضي، لتهدّد بتآكل قيمة حيازات تايوان من سندات الخزانة الأميركية وقدرها 294 مليار دولار، وتحتفظ بجزء منها شركات التأمين على الحياة في الجزيرة دون تحوّط مسبق لمثل هذا السيناريو. علماً أن العملة كانت قد تراجعت أمام الدولار خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وذكرت الحكومة لاحقاً أن أكثر من 90% من استثمارات الشركات التايوانية الخارجية مقوّمة بالدولار.

حتى قبل هذه الصدمة، كانت شركات التأمين التايوانية التي تعيد عملياً تدوير الفائض التجاري الناجم عن صادرات أشباه الموصلات إلى الولايات المتحدة ، قد تكبّدت خسائر بلغت 620 مليون دولار في أبريل، نتيجة تقلبات السوق التي أثارتها الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب.

وقدّر محلّلو “غولدمان ساكس” أن ارتفاع الدولار التايواني بنسبة 10% قد يفضي إلى خسائر محاسبية نتيجة تغيّرات سعر الصرف تقدر بنحو 18 مليار دولار لشركات التأمين، كفيلة بمحو احتياطياتها الرأسمالية.

ثمّ في 14 مايو، قفز وون كوريا الجنوبية بنحو 2% بعدما أفادت بلومبرغ نيوز أن سياسات أسعار الصرف طُرحت خلال اجتماع عُقد في 5 مايو بين مسؤولين أميركيين وكوريين في ميلانو. وعاودت العملة ارتفاعها بعد أسبوع، مع ورود تقارير عن جولة محادثات جديدة. في المقابل، تراجع الين بعدما أكدت واشنطن أن قضية أسعار الصرف لم تُطرح خلال لقاء جمع وزير المالية الياباني كاتسونوبو كاتو بوزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت في كندا في 21 مايو.

قال راجيف دي ميلو، مدير المحافظ لدى “غاما أسيت مانجمنت” (GAMA Asset Management) في جنيف، التي تدير أصولاً بقيمة نحو 700 مليون دولار: “الأسواق تمرّ بمنعطف حاسم، نشهد فيه مخاض ولادة نظام مالي جديد.. ما حدث مع الدولار التايواني لم يكن حدثاً معزولاً، بل جرس إنذار للأسواق. السؤال الآن: من التالي؟”.

ثمّة مؤشّرات متزايدة إلى أن عملات آسيا ما تزال مقوّمة بأقلّ من قيمتها الحقيقية.

في المتوسط، تُتداول العملات الرئيسية في المنطقة وبينها الين واليوان، عند مستويات أضعف بنحو 57% مقارنةً بأسعار الصرف التي تراعي فروقات كلفة المعيشة، وفق بيانات بدأن بلومبرغ نيوز بجمعها في 2007. وهذا مستوى يداني القاع التاريخي البالغ 59% الذي سُجّل في منتصف 2024.

رغم نفي واشنطن نيّتها إدراج تعهّدات تتعلق بسياسات أسعار الصرف ضمن اتفاقات التجارة، إلا أن الاجتماعات الأخيرة دفعت خبراء الاستراتيجيات إلى التحذير من موجة محتملة من تفكيك الشركات الآسيوية لمراكزها الدولارية.

حذّر جين، رئيس “يوريزون” التنفيذي، المعروف بتحليل “ابتسامة الدولار” الذي يتوقّع صعود الدولار سواء عند ازدهار الاقتصاد الأميركي أو ركوده، من أن تدفقات رؤوس الأموال الآسيوية إلى الخارج قد تتحوّل إلى موجة جارفة، فيما يغفل كثيرون عن الإشارات التحذيرية.

قال سيكند من “غافيكال”: “ما نشهده هو انعكاس لتحوّل هيكلي عميق”، في إشارة إلى صعود الين والدولار التايواني. أضاف: “عليك تنويع المخاطر، وأفضل وسيلة لذلك هي إعادة رؤوس الأموال أكثر إلى الداخل”.

اقرأ أيضاً: أسواق تايوان تهتز وسط ارتفاع العملة لأعلى مستوى منذ الثمانينيات

مخاطر على سندات الخزانة

كانت الصين قد باشرت بالفعل تقليص استثماراتها في الأصول الأميركية، مع تصاعد التوتّر في علاقاتها مع واشنطن.

تُظهر بيانات وزارة الخزانة الأميركية أن بكين سجّلت صافي مبيعات من الأسهم والسندات الأميركية بقيمة 172 مليار دولار خلال العام الماضي، بعد بيعها ما قدره 64 مليار دولار في 2023. ورغم أن هذه البيانات قد لا تعكس الصورة الكاملة، إذ يشير بعض المحلّلين إلى احتمال أن تكون الصناديق الصينية قد لجأت إلى شراء هذه الأصول عبر وسطاء في دول أخرى لإخفاء جزء من نشاطها. إلا أن سنوات متتالية من التقليص، إلى جانب التراجع المسجّل في حيازات السندات الأميركية في مارس توحي بأن مخاطر هذا التعديل الهيكلي الكبير لا تقتصر على آسيا وحدها، بل تشكّل تهديداً فعلياً أيضاً لأسواق المال الأميركية.

تستحوذ الصين واليابان مجتمعتين على سندات خزانة أميركية تُقدّر قيمتها بنحو 1.7 تريليون دولار. وخلال موجة البيع التي شهدتها سوق السندات في أبريل، إثر فرض ترمب رسوماً جمركية، سرت تكهّنات واسعة حول ما إذا كانت أي من الدولتين قد بدأت بالتخلّص من جزء من حيازاتها، أو أنها قد تستخدمها كورقة ضغط، لا سيما بعدما ساهم ارتفاع عوائد السندات في دفع الرئيس الأميركي إلى التراجع لاحقاً عن بعض تلك الرسوم.

حتى لو لم يحدث ذلك فعلياً، يبقى احتمال أن تقلّص الدول الآسيوية مشترياتها من الدين الأميركي في المرحلة المقبلة مصدر قلق حقيقي، فيما يُتوقّع أن تؤدي التخفيضات الضريبية المقترحة إلى تفاقم عجز الموازنة الأميركية.

اليوم، تتحضر عدة أطراف في آسيا لتحوّل جذري محتمل في النظام التجاري العالمي، حتى مع تقليص ترمب للرسوم الجمركية وبدء المفاوضات. إلا أن الطابع المتقلّب لإدارته يضيف مزيداً من المخاوف، وفق غيبسون-مور من “غلف أناليتيكا”، الذي أشار إلى أن الولايات المتحدة تحوّلت، بالنسبة إلى لكثير من مكاتب العائلات الثرية في آسيا، من ملاذ آمن إلى مصدر تقلبات.

تسعى شركة “نيبّون لايف إنشورانس” (Nippon Life Insurance)، أكبر شركة تأمين على الحياة في اليابان، إلى إيجاد بدائل لسندات الخزانة الأميركية في كلّ من أوروبا وأستراليا وكندا، إذ قال مدير الاستثمار التنفيذي كيسوكي كاواساكي: “تشكل الأصول السيادية الأميركية جزءاً كبيراً من محفظة السندات لدينا”.

وقد أعلن صندوق التقاعد الأسترالي “يوني سوبر” (UniSuper)، أحد أكبر صناديق التقاعد في البلاد بأصول تُقدّر بنحو 149 مليار دولار أسترالي (96 مليار دولار أميركي)، في مطلع أبريل أن استثماراته في السوق الأميركية بلغت ذروتها على الأرجح وأنه يعتزم خفضها، معتبراً أن “سياسات ترمب باتت مضرّة جداً لمناخ الأعمال”. ويمثّل هذا الموقف تحوّلاً لافتاً عن موقف الصندوق في فبراير، حين شارك في جولة ترويجية للقطاع في الولايات المتحدة بحثاً عن فرص استثمارية جديدة.

قالت إيمي لو، الرئيسة المشاركة لإدارة الثروات في آسيا لدى “يو بي إس غروب” (UBS Group)، خلال فعالية أصوات جديدة التي نظّمتها بلومبرغ في مايو، إن العملاء الأثرياء لدى المصرف بدأوا يبتعدون باضطراد عن الأصول المقوّمة بالدولار، التي لطالما كانت خياراً مفضّلاً، نحو الاستثمار في الذهب والعملات المشفّرة والصين.

في الوقت نفسه، أفاد نحو 10 مكاتب عائلية ومستشارين يديرون مليارات الدولارات بأنهم يعمدون إلى تقليص انكشافهم على الأصول الأميركية، أو إلى تجميد استثماراتهم، خصوصاً في الأسهم وسندات الخزانة.

مع ذلك، لا يرى الجميع أن سياسات ترمب تُسرّع نزوح رؤوس الأموال أو ستقود إلى تحوّل هيكلي في اعتماد آسيا على الدولار. ويؤكّد بعضهم أن السياسات الحمائية، رغم أنها تشكل سياجاً يحمي الولايات المتحدة، لن تدفع المستثمرين إلى فكّ الارتباط بها بالكامل.

في هذا الإطار، قالت أليسيا غارسيا هيريرو، كبيرة خبراء الاقتصاد لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ لدى بنك “ناتيكسيس” (Natixis) في هونغ كونغ: “لكي يكون هذا تحوّلاً هيكلياً، ينبغي أن تعرف إلى أين تتجه… لا أحد اليوم يوفّر العوائد التي يوفّرها الدولار، لا أحد”.

مع ذلك، بدأ مديرو الأموال والثروات، إقليمياً وعالمياً، بإعادة رسم استراتيجياتهم.

تتوقّع ميزونوف، الرئيسة العالمية للاستثمار في الأسهم لدى “أليانز”، أن تكون أوروبا والهند من بين أبرز المستفيدين من هذا التحوّل في رأس المال. وأشار  تاي هوي، كبير خبراء استراتيجيات السوق لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ لدى “جيه بي مورغان أسيت مانجمنت”، إلى تنامي جاذبية الأسهم اليابانية. في حين يرى سلمان أحمد، رئيس قسم الاقتصاد الكلّي وتخصيص الأصول الاستراتيجية لدى “فيديليتي إنترناشونال” (Fidelity International)، فرصاً واعدة في كلّ من اليورو والين.

تُظهر البيانات أن الأموال بدأت تتدفّق فعلاً إلى السوق اليابانية، في ظلّ تعافي اقتصاد البلاد من مرحلة الانكماش، وارتفاع عوائد السندات لأجل 30 عاماً إلى مستويات قياسية. فقد اشترى المستثمرون الأجانب 8.2 تريليون ين (57 مليار دولار) من الأسهم والسندات اليابانية في أبريل، وفق بيانات أولية صادرة عن وزارة المالية، وهو أعلى مستوى مُسجّل استناداً إلى بيانات ميزان المدفوعات منذ عام 1996.

ثمّة مجال واسع لإعادة توزيع الاستثمارات، بعدما أدّت الرهانات الطويلة على الاستثنائية الأميركية، أي تفوق الاقتصاد الأميركي على نظرائه، إلى هيمنة الأسواق الأميركية على المشهد المالي العالمي. فعلى سبيل المثال، لا تمثّل الأسهم اليابانية سوى 5% من مؤشر “إم إس سي آي غلوبا إيكويتي”، في حين تشكّل الأسهم الصينية نحو 3% فقط.

وتبلغ القيمة السوقية المجتمعة لأسواق الصين واليابان، بما في ذلك هونغ كونغ، نحو 23 تريليون دولار. في المقابل، تستحوذ السوق الأميركية على 64% من وزن المؤشر، بقيمة سوقية تقارب 60 تريليون دولار.
يعتقد جورج سارافيلوس، رئيس أبحاث العملات الأجنبية لدى “دويتشه بنك”، أن الارتفاع الأخير في عوائد السندات اليابانية سيحفّز المستثمرين على التحوّل من سندات الخزانة الأميركية. وأشار في مذكرة هذا الشهر إلى أن صعود الين أمام الدولار مؤشّر على أن هذا التحوّل قد بدأ.

اقرأ أيضاً: آسيا تجذب المستثمرين الباحثين عن صفقات عملات ناشئة

مع ذلك، لن يكون هذا التحوّل الاستثماري سهلاً أو مباشراً. فقد ارتفعت سندات الخزانة الأميركية في 27 مايو، وسط تكهّنات بأن الحكومة اليابانية قد تقلّص بيعها للديون، ما يخفّف حدّة المنافسة على رأس المال.
قال شانيل رامجي، الرئيس المشارك لإدارة الأصول المتعدّدة لدى “بيكتيت أسيت مانجمنت” (Pictet Asset Management) في لندن: “التركيز المفرط في السوق الأميركية بلغ على الأرجح ذروته في الوقت الراهن… استقرار الأوضاع في الصين سيُعزّز جاذبية الأسواق الناشئة، وفي مقدّمها آسيا، وسيدفع بمزيد من رؤوس الأموال إلى المنطقة، ولا سيما من جانب الاستثمارات المحلية”.

تراجع الدولار

في السيناريو المثالي، ستتراجع هيمنة الدولار بصورة منظّمة، مع عودة رؤوس الأموال إلى آسيا. وبالتالي، سترتفع قيمة العملات التي كانت متراجعة، ما يخلق “سيناريو ثلاثي المكاسب” مع تدفّق رؤوس الأموال الأجنبية وانخفاض أسعار الفائدة الحقيقية، وارتفاع أسعار الأصول، كما يرى أوديث سيكند من “غافيكال”.
وبحسب بيانات رسمية جمعتها بلومبرغ نيوز، بلغ فائض الحساب الجاري لأكبر 11 اقتصاداً في آسيا أكثر من 900 مليار دولار في العام الماضي، وهذه أموال يمكن استخدامها للاستثمار في الخارج.

يتطلّب مثل هذا السيناريو تحوّلاً آسيوياً باتجاه تعزيز الاستهلاك المحلي.

لطالما رأى الاقتصاديون أن ميل المنطقة إلى الادخار، حيث تتجاوز معدلات الادخار لدى الأسر الصينية 30%، بدلاً من الإنفاق الاستهلاكي، كان أحد الأسباب الجوهرية لاعتمادها الكبير على التصدير. حتى اليوم، تعادل الصادرات نحو 17% من الناتج المحلي الإجمالي في كلّ من الصين واليابان.

قال ستيف ألان لورانس، الرئيس التنفيذي للاستثمار في مجموعة “بالفور كابيتال” (Balfour Capital Group)، التي تدير أصولاً بقيمة 400 مليون دولار وتتخذ في سويسرا مقراً لها: “أعادت الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب، إلى جانب تقلبات السياسات، رسم أطر المخاطر… إنه يسرّع مساراً قائماً أصلاً نحو الانفصال عن الدولار وفكّ الارتباط”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *