القمع المالي لن يخفض أسعار الفائدة

تعيش الحكومة الفيدرالية والأسواق المالية ومعظم الأميركيين في حالة إنكار جماعي تجاه أسعار الفائدة. كلما ظهر أحدهم على شاشة تلفزيونية اقتصادية أو تقدّم للحصول على قرض عقاري أو وضع توقعات تتعلق بالديون طويلة الأجل أسمع دائماً عبارة متكررة بصيغة “عندما تعود أسعار الفائدة إلى الانخفاض”.
يؤسفني أن أكون ناقلة الأنباء السيئة، لكن أسعار الفائدة لن تعود إلى الانخفاض، لاسيما إلى المستويات التي كانت سائدة في العقد الثاني من الألفية. أي محاولة لخفضها قسراً- ما يُعرف اقتصادياً بـ”القمع المالي” لن تسفر سوى عن مزيد من الألم.
أسعار فائدة مرتفعة
في ظل ارتفاع مستويات الدين، وتراجع الترابط بين الاقتصادات العالمية وغموض توقعات التضخم والدورات الاقتصادية الطبيعية، من المرجح أن تبقى أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة. هذا يمثل تحدياً كبيراً أمام خطط الرئيس الأميركي دونالد ترمب الاقتصادية، إذ إن ارتفاع الفائدة يزيد كلفة اقتراض الحكومة الفيدرالية، ويزيد كذلك كلفة الاقتراض في القطاع الخاص، ما يحد من النمو الاقتصادي. والأسوأ من ذلك بالنسبة للإدارة أن أسعار الفائدة المرتفعة تُبقي كلفة الإسكان عند مستويات عالية.
من ثم، لا يُستغرب أن يكون وزير الخزانة سكوت بيسنت منهمكاً بمحاولة خفض العائد على سندات الخزانة لأجل 10 سنوات، أو أن يكون الرئيس مهووساً بإقناع بنك الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة. لكن “الفيدرالي” لا يملك سيطرة مباشرة على المستوى الطبيعي للفائدة إذ إنها تُحدد من خلال السوق، لا سيما بناء على توقعات التضخم، وتقييمات المخاطر والظروف الاقتصادية العامة. مع تزايد الدين العام، وارتفاع احتمالات فرض رسوم جمركية، من المرجح أن ترتفع أسعار الفائدة أكثر.
حتى الآن، ما يزال بنك الاحتياطي الفيدرالي متمسكاً بموقفه الرافض لخفض الفائدة. لذلك، ليس من المستبعد أن نرى توجهاً نحو “القمع المالي”- أي استخدام أدوات تنظيمية أو إدارية “تشجع بقوة” المستثمرين على شراء السندات. تاريخياً، كان ذلك يعني فرض ضوابط على رأس المال تُجبر المستثمرين على شراء ديون محلية، لكن هذا الخيار يبدو مستبعداً حالياً. أما الأداة الأكثر شيوعاً فهي اللوائح التنظيمية.
وهناك بالفعل مؤشرات على مثل هذا التوجه.
السندات الأميركية
إحدى تلك المؤشرات تُعرف بنسبة “الرفع المالي التكميلي (Supplemental Leverage Ratio). بموجب هذه القاعدة، يتعين على البنوك الأميركية أن تحتفظ بنسبة من رأس المال تتراوح بين 3% إلى 5% من إجمالي الأصول، بغض النظر عن مستوى المخاطر. وتُجادل البنوك بأن معاملتها لسندات الخزانة الأميركية كأصول ذات مخاطر تعني أنها محدودة في قدرتها على شراء هذه السندات، ما يقلص من سيولة سوق الدين الحكومي.
“مورغان ستانلي” يوصي بشراء أسهم وسندات أميركا وتجنب الدولار.. تفاصيل أكثر هنا
يدرس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي حالياً تعديل طريقة احتساب هذه النسبة أو خفضها. وهناك مبررات قوية لذلك، سواء من منظور إدارة المخاطر لدى البنوك أو بهدف تعزيز متانة سوق السندات الأميركية. ويبدو أن التوقيت مناسب للحكومة؛ لأن شراء البنوك المزيد من السندات طويلة الأجل من شأنه أن يساهم في خفض العائدات.
شكل آخر محتمل من أشكال القمع المالي يتمثل في تنظيم العملات المستقرة، هي عملات مشفرة ترتبط قيمتها بالدولار الأميركي وتُستخدم كوسيلة للتحوط من تقلبات العملة. الأمل هو أن يؤدي التنظيم إلى تعزيز انتشار هذه العملات. وإذا تحقق ذلك، فستكون له آثار مباشرة على سوق السندات إذ إن المُصدرين لهذه العملات عادة ما يشترون كميات كبيرة من سندات الخزانة قصيرة الأجل للتحوط. كلما زاد الطلب على هذه العملات، زاد الطلب على سندات الخزانة، وبالتالي انخفضت عائداتها.
تغذية التضخم في الولايات المتحدة
لكن ينبغي القول إن القمع المالي لا يتمتع بسجل جيد. فعادة ما يؤدي الإبقاء على أسعار الفائدة عند مستويات أدنى من مستويات السوق إلى تغذية التضخم في الولايات المتحدة. وفي حالات أخرى، تفقد هذه الاستراتيجية فعاليتها تدريجياً. خذ اليابان مثالاً: تمكنت لعقود من تطبيق القمع المالي، حيث اشترت بنوكها وصناديق التقاعد كميات ضخمة من الدين المحلي، ما أبقى الفائدة منخفضة رغم الدين الحكومي المرتفع. لكن عندما عاد التضخم، لم يستطع بنك اليابان رفع الفائدة، فتدهورت قيمة الين، ثم ارتفعت أسعار الفائدة في النهاية رغم كل التدابير المتخذة.
رغم ذلك، فإن السياسات الحكومية الحالية لا تخلو أيضاً من المخاطر. فقد يكون تعديل نسبة الرفع المالية خطوة ضرورية لتعزيز سيولة سوق السندات، لكن إذا كان الهدف الأساسي منها هو خفض أسعار الفائدة، فإنها قد تؤدي إلى تسارع التضخم وتقويض قيمة الدولار الأميركي. أما التعديلات التنظيمية على العملات المشفرة -التي، رغم تسميتها الجذابة، لا تُعد من الأصول المستقرة فعلاً- فقد تزيد من هشاشة النظام المالي. ليست هناك دوافع واضحة لامتلاك العملات المستقرة ما لم يكن الهدف هو تحقيق أرباح رأسمالية أو تنفيذ نشاطات غير قانونية. وهذا يجعلها عرضة لانهيار مفاجئ في الطلب، ما قد يؤدي إلى موجة بيع مفاجئة في سوق السندات، وبالتالي إلى قفزة في أسعار الفائدة.
خفض الدين العام
بالطبع، هناك وسيلة مضمونة تستطيع الحكومة من خلالها خفض أسعار الفائدة هي أن تثبت للعالم أن لديها خطة حقيقية لخفض الدين العام على المدى الطويل من خلال إصلاح برامج الاستحقاقات. لكن هذا الاحتمال يبدو ضعيفاً جداً، ولهذا السبب بالتحديد، يدور الحديث اليوم عن القمع المالي بدلاً من الإصلاحات الهيكلية الحقيقية.