اخر الاخبار

مومباي تواجه شبح الغرق بسبب الأعاصير

يمتد ممشى “باندستاند” على الواجهة البحرية لمومباي، ليشكّل فسحة نادرة من السكينة ومهرباً من صخب مدينة يربو عدد سكانها على 20 مليوناً. فيه يلتقي أناس من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، يتناولون المأكولات الشعبية ويلتقطون صور السيلفي. مع حلول المساء، تصدح الموسيقى الصاخبة من النوادي الليلية المجاورة، وتستمر حتى ساعات الفجر الأولى.
على الجهة المقابلة من الطريق ذي المسارين المحاذي للممشى الحجري، تقبع خلف البوابات والحدائق الفسيحة قصور فارهة يسكنها مليارديرات ونخبة من نجوم بوليوود.

عدم الاستعداد للأعاصير

لكن كلّ ذلك بات اليوم في مهبّ رياح الطقس المتطرّف. في الماضي، كانت الأعاصير تتركّز على الساحل الشرقي للهند، الممتد من كالكوتا إلى تشيناي، بينما بقي الساحل الغربي بمنأى عنها إلى حدّ كبير. غير أن تغيّر المناخ قلب المعادلة، وأصبحت العواصف تضرب بحر العرب بوتيرة متزايدة على امتداد الساحل الغربي.

اقرأ أيضاً: 2025 عام لا يبعث على التفاؤل مناخياً

خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، لم تقع سوى خمسة أعاصير هددت مومباي أو ضربتها، بحسب السجلات الموثوقة. أما في السنوات الخمس الأخيرة وحدها، اقتربت عاصفتان بشكل مقلق من المدينة ومنهما إعصار “تاوكتاي” عام 2021، الذي ألحق أضراراً جسيمة بمنصة نفطية قبالة الشاطئ.

رغم أن وتيرة الأعاصير وشدّتها ما تزال أدنى مقارنة مع الساحل الشرقي، إلا أن مومباي تواجه خطراً أكبر بسبب ضعف استعدادها لمثل هذه الظواهر. إذ يعيش ملايين من سكانها في أحياء عشوائية تتحوّل سريعاً إلى أنهار طين خلال الأمطار الموسمية التي تغمر المدينة سنوياً.
صحيح أن المناطق الثرية من المدينة تنعم بحماية أفضل، لكن مومباي في واقع الأمر هي مركز مالي عالمي، وتضم منشآت بتروكيماوية وصناعية واسعة، إلى جانب كونها معقل صناعة الأفلام الهندية الضخمة “بوليوود”، وهي جميعها قطاعات قد تتعطل إن ضربت عاصفة عاتية المدينة.

مثل البندقية في إيطاليا، تقوم مومباي في الأصل على أرخبيل. لكن في القرن الثامن عشر، بدأ المسؤولون البريطانيون خلال الحقبة الاستعمارية يبنون طرقاً ردميةً وجسوراً وحواجز بحرية لتربط بين جزر الأرخبيل المتناثرة وتحميها.
على خلاف البندقية، رُدمت معظم الممرات المائية والمناطق الرطبة التي كانت تفصل بين الجزر، فتحوّلت مومباي إلى رقعة متداخلة من اليابسة ومناطق الردم، لا ترتفع عن مستوى سطح البحر سوى أمتار قليلة، وتكاد تكون مجردة من أي دفاعات طبيعية في مواجهة الأمطار الغزيرة أو الأمواج المرتفعة.

في المقابل، شُيدت على الساحل الشرقي شبكات ملاجئ للحماية من الأعاصير، وأُجريت أعمال صيانة وتوسعة لشبكات الصرف، بالإضافة إلى تركيب صفارات إنذار لتحذير السكان عند دنو خطر. ورغم أن بعض المناطق هناك ما تزال تتعرّض لفيضانات شبه سنوية، تحسّن مستوى الجاهزية الحكومية بشكل ملحوظ. فبعد أن أودى إعصار عام 1999 بحياة أكثر من 10000 شخص جنوب كالكوتا، بادرت السلطات إلى إطلاق أنظمة إنذار مبكر، ودأبت على  تدريبات إخلاء منتظمة.

اليوم، حتى أشدّ الأعاصير ضراوة، ما عادت تحصد إلا نحو 10 ضحايا. قال يوغيش باتيل، الرئيس التنفيذي لشركة “سكايمت” (Skymet) للتوقعات الجوية: “عقود من التعرّض للعواصف صقلت قدرة الساحل الشرقي على التكيّف مع الطقس المتطرّف”، أما الساحل الغربي، وخصوصاً مومباي، “فما يزال يعاني قصوراً خطيراً في الاستعدادات”.

خطط تطوير تغفل التغير المناخي

تسعى مومباي لتعزيز جاهزيتها في مواجهة التغيرات المناخية عبر مشاريع جديدة، من بينها إنشاء ثلاثة خزانات ضخمة تحت الأرض، تبلغ سعة كل منها ما يعادل 12 مسبحاً أولمبياً، لتجميع مياه الأمطار وتصريفها تدريجياً بعد انحسار المطر.
غير أن معظم شبكة تصريف المياه القائمة تعود إلى حقبة الاستعمار البريطاني، وصُمّمت للتعامل مع نحو 2 سنتيمتر من الأمطار في الساعة، في حين باتت العواصف اليوم تجلب ضعف ذلك. كما تواجه المباني المتبقية من الحقبة الاستعمارية خطراً أكبر، لوقوعها في المناطق الساحلية المركزية وافتقارها إلى النوافذ المدعّمة والتصاميم المقاومة للرياح والعزل المائي المتين الذي تحظى به المنشآت الحديثة.

بما أن مومباي تسهم بنحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي للهند، فإن تعرّضها لعاصفة قوية يهدد بإحداث “سلسلة تداعيات”، بحسب ماهيش نارفيكار، مدير مكتب الاستعداد لمواجهة الكوارث في بلدية المدينة.

اقرأ أيضاً: الأعاصير.. مخاطر شديدة على البشر تتطلب إجراءات صعبة لمواجهتها
 

تؤكّد الخطة العمرانية الشاملة لمومباي على أولوية تطوير البنية التحتية، وتوفير الإسكان الميسّر، وتعزيز النمو الاقتصادي. وتنفّذ المدينة حالياً مشروعاً ضخماً بقيمة 30 مليار دولار يشمل إنشاء طرق وجسور وتحديث شبكة المترو.
لكن منتقدين يحذّرون من أن هذه الخطة تغفل إلى حدّ كبير المخاطر المناخية، مشيرين إلى أن مسافات طويلة من الطرق الساحلية المزمعة ستكون شديدة القرب من مستوى سطح الماء، ما يعرّضها للغرق حتى في حال تعرّض المدينة لاعصار بشكل غير مباشر. ويشكّل خط المترو الجديد أول مسار يُنفَّذ عبر أنفاق، ما يعرّضه لخطر الفيضانات، رغم أن الحكومة تؤكد أن تصميمه يضمن بقاءه جافاً حتى في أشدّ العواصف.

رغم أن برنامج إعادة التطوير يَعِد بتحسين حياة نحو مليون شخص يقطنون في “دارافي”، أحد أكبر الأحياء العشوائية في المدينة، الواقع على بُعد خمسة كيلومترات شرق ممشى باندستاند، إلا أن الطبيعة المنخفضة للمنطقة تجعلها عرضة للفيضانات بشكل دائم.

منذ تسعينيات القرن الماضي، ارتفع مستوى سطح البحر في محيط مومباي بنحو 3 سنتيمترات لكل عقد، بحسب المعهد الهندي للأرصاد الجوية الاستوائية. ويشير المعهد إلى أن كل سنتيمتر إضافي قد يدفع بخط المدّ العالي لمسافة تقارب 6 أمتار نحو الداخل. وإذا استمرّ الارتفاع المتسارع لانبعاثات الكربون، يحذّر العلماء من أن أكثر من 16% من منطقة مومباي الكبرى، وبينها مناطق تشهد حالياً مشاريع بنية تحتية جديدة، مهددة بأن تغمرها المياه بحلول نهاية القرن.

قال ديبي غويانكا، مؤسّس مؤسسة “كونزرفيشن أكشن ترست” (Conservation Action Trust) غير الربحية: “حين تتحدث إلى المسؤولين الحكوميين هنا، تجد أنهم يفضّلون الاستمرار في النهج المعتاد، ومواصلة التوسّع” في مناطق معرضة للخطر، مضيفاً: “يجعلني ذلك أشكّ إذا ما كانوا سمعوا أصلاً بالتغير المناخي”.

اقرأ أيضاً: أعاصير كابوسية تضرب دون سابق إنذار

خطر حتمي

قالت لوبينا رانغوالا، المخططة الحضرية في الفرع الهندي لمعهد “وورلد ريسورسز إنستيتيوت” (World Resources Institute)، مركز الأبحاث الذي ساعد مومباي في إعداد خطة مناخية، إن المدينة تعمل بأقصى ما تستطيع من سرعة. لكنها أشارت إلى أن الجهود المبذولة لمواجهة المخاطر المحتملة كثيراً ما تتعثر، بسبب انشغال المشرّعين في معالجة تداعيات هذه السياسات على السكان في الوقت الحاضر.

في منطقة باندرا-كورلا التي تشهد نمواً مطرداً، تحتشد مقارّ كبرى المصارف مثل “آي سي آي سي آي” (ICICI)، و”كوتاك ماهيندرا” (Kotak Mahindra)، و”بنك أوف إنديا”، إلى جانب مقرّات عشرات الشركات العملاقة، منها “ريلاينس إندستريز” (Reliance Industries) و”أمازون” فوق أراض استُصلحت من مجارٍ مائية سابقة.
رغم أن المنطقة تُعدّ من أكثر المواقع عرضة للغرق في حال وقوع إعصار، تواصل الشركات التوافد إليها، ويعود ذلك جزئياً إلى إمكانية الحصول على تغطية تأمينية للمباني والأنشطة التجارية.

لكن تؤكد سوربي غويل، الرئيسة التنفيذية لشركة “ميونيخ ري” لإعادة التأمين في الهند، أن الأقساط التأمينية المعمول بها اليوم “لا تكفي لتغطية المخاطر المناخية المستقبلية”. وتُحذّر من أن القطاع المالي، ومعه جميع سكان مومباي، عليهم الاستعداد لارتفاع حاد في كلفة التأمين خلال السنوات المقبلة.

الحيّ الواقع خلف ممشى “باندستاند” من أكثر المناطق المعرضة للخسائر في ظل تصاعد الظواهر المناخية المتطرّفة. استمدّ الممشى اسمه من العروض الموسيقية التي كانت تُقام فيه إبّان الحقبة الاستعمارية البريطانية، في زمن لم يكن خطر الغرق وارداً. أما اليوم، فتغمره مياه البحر تكراراً، وتشير التوقعات المناخية إلى أن الممشى سيغرق بالكامل بحلول نهاية القرن.

شُيدت الفيلات والمباني السكنية المقابلة مباشرة لممشى باندستاند وفق معايير توفر لها الحماية من الأمطار الموسمية التي غالباً ما تلحق دماراً واسعاً بالأحياء الفقيرة. لكن الأمواج المرتفعة التي تنجم عن الأعاصير قادرة على إغراق الحدائق والطوابق الأرضية من تلك العقارات التي تُقدَّر قيمة كل منها بملايين الدولارات.

قال رائد الأعمال جاغبريت سينغ ساندو، المقيم في الحيّ منذ 2018: “الكارثة التي تُسقط الحواجز بين الطبقات الاجتماعية لم تقع بعد”. لكنه يضيف أن التعرض لضربة مباشرة من إعصار أمرٌ “حتمي”. وعبّر عن اعتقاده بأن مدناً مثل مومباي “ذات صلاحية محدودة زمنياً”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *