اخر الاخبار

بين الأنهار الجليدية والشفق القطبي يكمن سحر غرينلاند الآسر

تمتد غرينلاند، أكبر جزر العالم، على 1.5% من مساحة اليابسة على كوكبنا، ويكسو الجليد نحو 80% من أراضيها، مشكّلاً ثاني أكبر غطاء جليدي بعد القارة القطبية الجنوبية. واليوم، يبدو أن حضورها في عناوين الأخبار بات يضاهي حجمها الجغرافي.

مع ذلك، فهي قليلة السكان، إذ لا يتجاوز عددهم 57 ألفاً على مدار العام، وفق أحدث التقديرات. حتى أن عدد السياح الذين زاروها تجاوز ضعف عدد سكانها في 2023.

إقبال سياحي غير مسبوق

لكن ذلك أصبح من الماضي، إذ بات الإقليم شبه المستقل التابع للدنمارك يضم مطاراً حديثاً موسّعاً في العاصمة نووك (وتعني “الرأس” باللغة الغرينلاندية)، التي يقيم فيها معظم سكّان الجزيرة، محاطين بشبكة مضائق بحرية.

واعتباراً من يونيو، ستبدأ شركة “يونايتد إيرلاينز” بتسيير رحلتين مباشرتين أسبوعياً من مطار “نيوارك ليبرتي الدولي” في نيوجيرسي إلى نووك، تحمل في كل منهما ما يصل إلى 166 راكباً، وتستغرق الرحلة أربع ساعات وخمس عشرة دقيقة فقط. وما إن يصل الزوّار، حتى يجدوا أنفسهم في رحاب طبيعة قطبية مترامية الأطراف، تحتضن أنهاراً جليدية شاهقة بعلوّ بعض الجبال. وبحلول الخريف، تزداد التجربة سحراً مع مشاهدة الشفق القطبي.

اقرأ أيضاً: دونالد ترمب ليس أكبر تحدٍ يواجه غرينلاند

كل ذلك يجعل غرينلاند أكثر جذباً من أي وقت مضى،  وليس فقط للسياسيين الطامحين إلى استثمار موقعها الاستراتيجي ومواردها غير المستغلة.
قال سونيل ميتكالف، خبير السفر لدى شركة “بلاك توماتو” (Black Tomato) المتخصصة في تنظيم الرحلات المترفة، والتي بدأت بيع برامجها السياحية إلى غرينلاند في 2017: “الطلب غير مسبوق. هذا عام الانطلاقة الكبرى لغرينلاند”.
وأشار إلى أن قلّة الفنادق المتوفرة على الجزيرة تعني أن الغرف المتبقية لهذا الصيف “تُعدّ على الأصابع”. 

طبيعة خلابة بانتظار اكتشافها

تشكّل نووك نقطة انطلاق حيوية للزوار، حيث تتجاور المنازل الملوّنة المبنية بأسلوب “سولتبوكس” العائدة إلى القرن الثامن عشر مع تصاميم معمارية قطبية حديثة. بين تلك المساكن يقبع مركز “كاتواك” الثقافي بواجهته الخشبية المتموّجة، المستوحاة من أضواء الشفق القطبي، وفيه تُقام عروض فنية حيّة غالباً ما تكون مجانية وتحتفي بالإرث الثقافي الغني لشعب غرينلاند، الذي ينحدر نحو تسعة من كل عشرة من أبنائه من أصول إنويتية.

في الصيف، ومع ارتفاع درجات الحرارة فوق 10 درجات مئوية، واستمرار ضوء الشمس لما يقارب 24 ساعة، يمكن للزوار قضاء أيام طويلة في التجذيف على الألواح، أو مراقبة طيور البفن، أو زيارة متحف نووك للفنون الكائن في كنيسة تاريخية. ومع نهاية النهار، سيجدون ملاذاً دافئاً في فنادق البوتيك، مثل فندق “هانس إيغيدي” (Hans Egede) المصمّم على الطراز الإسكندنافي المعاصر في قلب المدينة.

ومع انقضاء ذروة الموسم وتراجع عدد ساعات النهار، تزداد فرص رؤية الشفق القطبي. فقد تشاهده وأنت تتمشى عائداً من العشاء، لتعيش لحظة آسرة تحبس أنفاسك.

ومع ذلك، ما يزال معظم المسافرين يتجهون مباشرة إلى كنوز غرينلاند الطبيعية الوعرة. فوادي كياتوا الذي يمكن الوصول إليه من نووك عبر زورق سريع في غضون ساعة ونصف، أو بواسطة مروحية خلال عشرين دقيقة، يحتضن ثاني أكبر نظام مضائق بحرية في العالم بعد سكورزبي سوند على الساحل الشرقي للجزيرة.

اقرأ أيضاً: لماذا يصر ترمب على ضم قناة بنما وغرينلاند؟

ويُعد الوادي موطناً رئيسياً للحيتان الحدباء وغيرها من أنواع الحيتان. هناك، يمكن للزوار التجذيف بقوارب الكاياك قرب الجبال الجليدية، أو التنزه وسط الأزهار البرية والمروج في أحضان أقدم سلاسل الجبال على وجه الأرض، بل حتى صيد سمك الشار القطبي باليد مباشرة من الجداول الصافية المتلألئة، وفق تقليد محلي.

على بعد نحو 560 كيلومتراً شمالاً، داخل الدائرة القطبية الشمالية، تقع بلدة إيلوليسات، القرية الرئيسية على خليج ديسكو، حيث يتعالى نباح الكلاب، مستقبلاً الزوار على وقع الصدى المدوي للانهيارات الجليدية القريبة. (تُعد كتلة “سيرمِك كوجاليك” الجليدية الأكثر نشاطاً خارج القارة القطبية الجنوبية، إذ تتحرك بمعدل يقارب 40 متراً يومياً).

في هذه البلدة تُدرَّب كلاب الزلاجات الأسطورية، وتشمل التجارب السياحية جلسات “كافيميك” تقليدية، وهي لقاءات تجمع بين احتساء القهوة وسرد القصص مع العائلات المحلية. ومن يجرؤ، يمكنه تجربة الغطس في المياه القطبية قارسة البرودة.

تعزيز السياحة بشكل مدروس

تشكّل السياحة فرصة اقتصادية واعدة لغرينلاند التي لطالما اعتمد اقتصادها تقليدياً على صيد الأسماك. وتشير هيئة “زيارة غرينلاند” الحكومية إلى أن العائدات السنوية من الزوار الدوليين، التي تبلغ حالياً نحو 250 مليون يورو (ما يعادل 268 مليون دولار)، قد تتضاعف ثلاث مرات بحلول 2035.

قبل ذلك، أي بحلول عام2027، يُتوقع أن تسهم المطارات الجديدة في إيلوليسات وكاكورتوك، القريبة من الطرف الجنوبي للجزيرة، في تسهيل استكشاف سهول التندرا على الساحل الغربي، دون الحاجة إلى قضاء ساعات طويلة على متن القارب.

مع ذلك، يبقى هدف غرينلاند تطوير سياحة مدروسة وقابلة للإدارة، لا اجتذاب حشود ضخمة.

قالت أنيكا كروغ، ابنة غرينلاند وصاحبة شركة “نوماد غرينلاند” (Nomad Greenland) التي تدير مخيمات فخمة في وادي كياتوا وقرب مستوطنة سكاك على خليج ديسكو، التي يعود تاريخها إلى 270 سنة، إن مستوى المعيشة على الجزيرة جيد بما يكفي.
فالغرينلانديون صيادون مهرة، يشتهرون باصطياد بعض من أفضل أنواع الهلبوت والروبيان والقد في العالم، ما يوفر لهم مصدر دخلِ مجزٍ. لهذا، فإن بناء فنادق ضخمة أو افتتاح مطاعم تحمل تصنيف نجوم ميشلان ليس ضمن أهداف الحكومة ولا تطلعات السكان المحليين.

بدلاً من ذلك، تركّز السياسات الحكومية على زيادة عدد الزوّار الذين يمكثون في الجزيرة لعدّة أيام، بدل سياح النهار ممن يصلون على متن الرحلات البحرية، ما سيعني إنفاقاً أكبر خلال استكشافهم لغرينلاند.

في يناير، أقرّت الحكومة قانوناً يلزم بأن تكون جميع الجولات البرية تحت إشراف مشغّلين سياحيين محليين، استجابةً لدراسة أعدّتها هيئة “زيارة غرينلاند” وأظهرت أن عدد الرحلات البحرية ارتفع 64% بين عامي 2022 و2023 بينما بقيت معدلات الإقامة دون تغيير يُذكر.

خدمات رفيعة المستوى في العراء

قالت كروغ: “في السابق، كانت السفن تصل ومعها قواربها ومرشدوها السياحيون، دون أن يعود ذلك بأي جدوى على مجتمعنا… الشيء الوحيد الذي كان يشتريه السياح هو تذكارات مصنوعة في الصين”.
أما اليوم، مع افتتاح مطارات جديدة وتوسيع خطوط الطيران، يُرتقب أن تجذب غرينلاند مزيداً من السياح الذين يبقون لوقت أطول على الجزيرة بحثاً عن مغامرة حقيقية.

قال ميتكالف الذي يحجز بانتظام لعملائه في المخيمات الفاخرة التي تديرها كروغ: “من المفيد النظر إلى التجربة كأنها سفاري”.

تتجاوز أسعار البرامج الشاملة التي تمتد بين أربعة وعشرة أيام في المخيم 1200 يورو للشخص في الليلة الواحدة، ويشمل ذلك النقل والجولات الاستكشافية والإقامة في خيام تقليدية مجهّزة بفرش من الفرو، وحمّامات خاصة، ومدافئ فعّالة. (حتى في الصيف، قد تنخفض درجات الحرارة إلى ما دون صفر).

أما المأكولات، فيقول ميتكالف إنها “من الأرض إلى الطبق”، إذ يُعدّ الطهاة الوجبات من مكونات طازجة محلية تتضمن المأكولات البحرية ولحوم الرنّة والتوت البري والفطر والأعشاب البرية التي تُقطف من الطبيعة مباشرة.

ذلك القدر المدروس من التخلّي عن وسائل الراحة هو تحديداً ما يجذب عملاء “بلاك توماتو” من الأثرياء. فلا وجود لفنادق مبنية ولا لمنتجعات سبا. رغم ذلك يبقى مستوى الخدمة رفيعاً.
قال ميتكالف “قلة عدد الخيام تعزّز الإحساس بالخصوصية والتفرّد… يبحث أولئك الناس عن تجربة مختفلة، شيئاً يتفاخرون به في حفل العشاء المقبل الذي يحضرونه”.

غير أن جوهر غرينلاند عصيّ على الوصف حين يُروى بالكلمات: ذاك الجمال المتجلي في أماكن نائية يصعب بلوغها، الذي يوقظ في النفس انفعالات جارفة في حضن طبيعة متطرّفة، تعمّها سكينة مطلقة لا تُعلن حضورها بل تتسلل بهدوء.

قالت كروغ: “الشعور بالتحوّل ليس وعداً يمكن قطعه على الجميع، لكن حين يكون الإنسان هنا، في حضن الطبيعة، يحدث الأمر من تلقاء نفسه”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *