اخر الاخبار

دوامة الرسوم الجمركية: كيف هزّت قرارات ترمب الأسواق العالمية

في صباح الإثنين الأول من شهر أبريل، استيقظ المستثمرون حول العالم على وقع انهيار مالي غير عادي. الشاشات في بورصة طوكيو ونيويورك تلوّنت بالأحمر القاني، وأسواق أوروبا ترتجف وكأنها تعيش إثنين أسود جديداً.

خلال ساعات معدودة، تبخر ما قيمته تريليونات الدولارات من الأسهم، واهتزت ثروات كبار أثرياء العالم. السبب؟ سلسلة تغريدات وقرارات جمركية مفاجئة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب أشعلت فتيل حرب تجارية عالمية مجنونة، وأخذت الأسواق في رحلة أفعوانية بين الذعر والانتعاش خلال أسبوع واحد لا يُنسى. 

لم يكن هذا مجرد تصحيح عادي في السوق؛ بل أقرب إلى عاصفة مثالية اجتمعت فيها كل العوامل السيئة دفعة واحدة. فقد دفعت قرارات ترمب المتقلبة المستثمرين إلى حافة هلع جماعي، حيث بات البعض يشبّه ما يحدث بأزمات تاريخية مثل الإثنين الأسود عام 1987 والأزمة المالية لعام 2008 وانهيارات جائحة 2020. في هذا التحقيق السردي، نصحبكم في تسلسل زمني لأحداث ذلك الأسبوع الدراماتيكي، يوماً بيوم، لفهم كيف تحوّلت تغريدة رئاسية إلى زلزال هزّ أسواق المال العالمية؟ وإلى أين يمكن أن تقودنا هذه السابقة التاريخية؟

تسلسل الأحداث: أسبوع من الفوضى في الأسواق

الأربعاء، 2 أبريل 2025: ألقى دونالد ترمب حجره الأول في بركة التجارة العالمية بإعلانه عن رسوم جمركية شاملة بنسبة 10% على كافة الواردات إلى الولايات المتحدة من جميع الدول. ولم يكتفِ بذلك، بل توعّد أيضاً برسوم “خاصة” قد تصل إلى 50% على واردات بعض الدول “غير الصديقة”.

جاء هذا الإعلان عند الساعة الثالثة بعد الظهر بتوقيت نيويورك كالصاعقة على وول ستريت. فما إن انتشرت الأخبار حتى بدأت المؤشرات الأميركية بالتراجع في الدقائق الأخيرة من جلسة التداول. أغلق مؤشر “S&P 500” على انخفاض ملموس ذلك اليوم مع إدراك المستثمرين أن حرباً تجارية شاملة تلوح في الأفق، بينما عمّت الفوضى غرف التداول وسط حالة من عدم التصديق والذهول. 


بدأ العالم يترقب ويراقب حسابات الرئيس الأميركي.. والسؤال الثابت ما التالي؟!

 

الخميس، 3 أبريل 2025: لم يحتج الذعر سوى ليلة واحدة لينضج. استيقظت الأسواق الآسيوية والأوروبية على موجة بيع محمومة استمراراً لردّ فعل وول ستريت السلبي. بحلول إغلاق الأسواق الأميركية هذا اليوم، كان مؤشر “S&P 500” قد خسر نحو 10% من قيمته في غضون يومين فقط، في أكبر هبوط خلال 48 ساعة منذ إنشاء المؤشر في خمسينيات القرن الماضي.

يوم الخميس الأسود هذا شهد تسارعاً في بيع الأسهم على نطاق واسع، مع تراجع ثقة المستثمرين إلى الحضيض. أدرك الجميع أن ترمب جاد في إشعال فتيل حرب تجارية عالمية، وأن الردود الانتقامية قادمة لا محالة. وبينما كان المتعاملون يحدقون في شاشاتهم غير مصدقين، كانت كبرى الشركات العالمية تخسر المليارات من قيمتها السوقية في ساعات معدودة. 

الجمعة، 4 أبريل 2025: جاء الرد الصيني سريعاً وقاسياً. فمع فتح الأسواق الأميركية، أعلنت بكين فرض رسوم جمركية مضادة بنسبة 34% على جميع السلع الأميركية. شكلت هذه الخطوة تصعيداً شرساً أجّج مخاوف انفلات الحرب التجارية إلى مستوى غير مسبوق. تهاوت المؤشرات الأميركية مجدداً؛ فقد انخفض مؤشر “داو جونز” الصناعي بأكثر من 2000 نقطة إضافية هذا اليوم حوالي -5%، وتراجع مؤشر “ناسداك” بحوالي -6%، ليدخل رسمياً في نطاق السوق الهابطة.

موجة البيع الكاسح هذه محت في جلستين فقط ما يزيد عن 5 تريليونات دولار من القيمة السوقية للشركات العالمية.

كبار المليارديرات كانوا بين أكبر الخاسرين: فقد خسر إيلون ماسك حوالي 30.9 مليار دولار من ثروته خلال هذه الأيام، وتبخر نحو 23.5 مليار دولار من ثروة جيف بيزوس، فيما تراجع صافي ثروة مارك زوكربيرغ بحوالي 27.3 مليار دولار، بإجمالي خسائر يفوق 81 مليار دولار تكبدها ثلاثة فقط من أغنى أغنياء الأرض خلال 48 ساعة دامية، وفقاً لمؤشر بلومبرغ للمليارديرات.

هذه الأرقام الصادمة شكلت أكبر نزيف لثروات أغنى 500 شخص في العالم على مدى يومين في التاريخ الحديث. حتى أن بعض المستثمرين وصف ما يحدث بأنه أشبه بـ”شتاء نووي اقتصادي” يضرب النظام المالي، كما حذّر الملياردير بيل أكمان (أحد داعمي ترمب) في منشور له على منصة “إكس” من كارثة وشيكة إذا استمرت دوامة الرسوم هذه.

وسط هذه العاصفة، بدأت بوادر تمرد سياسي تظهر في واشنطن، فالجمهوريون في الكونغرس بدأوا يلوحون بمشاريع قوانين لتقييد صلاحيات ترمب في فرض الرسوم، بعدما رأوا بأم أعينهم كيف تحولت بورصات البلاد إلى ساحة حرب بسبب تغريداته. 

السبت 5 والأحد 6 أبريل 2025: عطلة نهاية الأسبوع لم تجلب الراحة المرجوة. فبينما كانت أسواق الأسهم مغلقة، استمرت تداعيات الأزمة على أصعدة أخرى. الاتحاد الأوروبي عقد اجتماعات طارئة ووافق على خطة رسوم مضادة تستهدف منتجات أميركية بقيمة 21 مليار يور – بضائع منتقاة بعناية لإيلام قطاعات حساسة سياسياً في أميركا مثل فول الصويا والمنتجات الزراعية.

وفي آسيا، توعدت الصين بمزيد من التصعيد ورفعت لهجتها، حتى أنها حذرت مواطنيها من مخاطر السفر إلى الولايات المتحدة في ظل التوتر المتصاعد.

الأسواق الآجلة الأميركية لم تنتظر حتى صباح الإثنين؛ إذ انخفضت العقود الآجلة لمؤشرات وول ستريت مساء الأحد بنحو 4% فور افتتاح التداول الإلكتروني، مما أنذر بأن الإثنين سيكون قاسياً. حتى أسواق السندات التي تُعد ملاذاً آمناً عادةً لم تسلم، حيث شهدت سندات حكومية في اقتصادات ناشئة موجات بيع اضطرارية، فانخفضت أسعار السندات المقومة بالدولار لدول مثل باكستان ومصر إلى مستويات خطرة تنذر بالتعثر.


خيّم شبح أزمة مالية شاملة على الأجواء خلال عطلة نهاية الأسبوع، وبدأت الأصوات ترتفع محذرةً من أن ترمب يقود الاقتصاد العالمي إلى حافة الهاوية.

 

الإثنين، 7 أبريل 2025: 
جاء “الإثنين الأسود” أسوأ من كل التوقعات. الأسواق الآسيوية والأوروبية انهارت عند الافتتاح: مؤشر هانغ سنغ تراجع 12%، ونيكاي 225 هبط 8%. مؤشر داكس الألماني خسر 9%، فيما أغلق ستوكس 600 الأوروبي على انخفاض 4%، في أكبر خسارة له منذ مارس 2020.

في وول ستريت، سادت موجة هلع بيعي عند الافتتاح، وتراجَع مؤشر S&P 500 بنسبة 7%، واقترب من سوق هابطة. عمليات التصفية اجتاحت السوق، وحتى أسهم كبرى مثل “أبل” هوت بأكثر من 10%. أسعار النفط انخفضت لأدنى مستوياتها منذ 4 سنوات، وتراجع الذهب بأكثر من 2%.

ترمب دافع عن سياسته قائلاً إن “الولايات المتحدة ستجني المليارات” من الرسوم، ودعا المستثمرين للهدوء، معتبراً أن الوقت “مثالي للشراء”. لكن السوق تجاهلت تصريحاته وسط تقارير عن ضغوط من نحو 70 دولة طالبة استثناءات من الرسوم، وتخوّف مستشاريه من انهيار مالي شامل.

ورغم شائعات عن نية البيت الأبيض تقديم تنازلات، اختتمت الأسواق الأميركية اليوم على خسائر جديدة، لتسجل البورصات العالمية أربعة أيام من الانهيارات غير المسبوقة.

الثلاثاء، 8 أبريل 2025: التقطت الأسواق أنفاسها أخيراً وظهرت علامات استقرار حذر في هذا اليوم غداة الانهيار الكبير. كثير من المتعاملين أخذوا خطوة إلى الوراء لإعادة تقييم الموقف: هل يستمرون في البيع والهرب من السوق، أم أن الأمور بلغت القاع فعلاً؟.

الأخبار الواردة من واشنطن أعطت بصيص تفاؤل حذر. في الكونغرس، تسارعت الجهود بين الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء لكبح جماح الحرب التجارية، مع ارتفاع الأصوات المطالبة ترمب بوقف الجنون قبل فوات الأوان. البيت الأبيض من جانبه أصدر تلميحات مبطنة إلى انفتاحه على الحوار مع الشركاء التجاريين. 

ورغم أن ترمب نفسه استمر ظاهرياً على موقف التحدي –حيث جدد عبر تروث سوشيال تأكيده أن “الاقتصاد الأميركي أقوى من أن يهتز” وبأن الرسوم ستجلب منافع طويلة الأجل– إلا أن لغة الخطاب باتت أقل تصعيداً من السابق. 

الأسواق التقطت هذه الإشارات وبدأ بعض التعافي التقني: سجلت المؤشرات الأميركية ارتفاعات طفيفة الثلاثاء مع تغطية بعض مراكز البيع، وهدأت تقلبات الأسعار نسبياً. لكن هذا الهدوء كان أشبه بالسكينة التي تسبق العاصفة الختامية؛ إذ كان الجميع بانتظار قرار حاسم من ترمب يمكن أن يغيّر المعادلة رأساً على عقب. وبالفعل، خلف أبواب البيت الأبيض، كان سيناريو التراجع التكتيكي قيد التحضير تحت ضغط مستشاري الرئيس الماليين ومناشدات كبار المستثمرين بضرورة إنقاذ السوق.


العالم كان يترقب الأربعاء بحذر: هل يفاجئ ترمب الجميع بخطوة تهدئة، أم يمضي في عناده؟

 

الأربعاء، 9 أبريل 2025: 
شهد اليوم ذروة التصعيد ونهاية مفاجئة. صباحاً، ردت الصين على الرسوم الأميركية البالغة 104% برفع رسومها إلى 84% بدءاً من الخميس، معلنة “القتال حتى النهاية”. بدا أن الحرب التجارية خرجت عن السيطرة… حتى جاء الانقلاب الأميركي ظهراً.

في خطوة غير متوقعة، أعلن ترمب تعليق الرسوم على أكثر من 75 دولة لمدة 90 يوماً، ما عنى هدنة مؤقتة باستثناء الصين التي ارتفعت الرسوم عليها إلى 125% كرد على “قلة احترامها لأسواق العالم”، بحسب ترمب.

هذا التراجع المفاجئ أشعل الأسواق: المؤشرات الأميركية قفزت بقوة، فارتفع “إس آند بي 500″ بنسبة 7%، و”ناسداك 100” بأكثر من 9%. أما سهم “أبل” فقفز 13%، والنفط ارتفع 4%، وبتكوين زادت بأكثر من 5 آلاف دولار. وتراجع الذهب قليلاً مع عودة شهية المخاطرة.

فرحة عارمة عمّت الأسواق، وعلّق ترمب قائلاً: “إنه وقت العودة للأعمال!”، لكن رغم الانفراجة، بقي التوتر مع الصين قائماً، فيما التقطت بقية الدول أنفاسها مؤقتاً مع هذه الهدنة.

سوق رهينة التغريدات.. أم استثناء لن يتكرر؟

في الختام، يمكن القول إن العالم شهد في هذا الأسبوع العاصف مثالاً حيّاً غير مسبوق على تسييس الأسواق المالية واستجابتها العنيفة لتغريدة أو قرار صادر عن أعلى هرم السلطة.

من الصعب المبالغة في دروس هذه القصة: فالبورصات العالمية كادت تنهار بسبب تغريدات وقرارات سياسية ارتجالية، قبل أن تنقذها التغريدة المضادة والتراجع التكتيكي في اللحظة الأخيرة.

ربما تنفست الأسواق الصعداء مؤقتاً، لكن سؤالاً جوهرياً يبقى معلقاً في الهواء: هل ما جرى كان استثناءً نادراً لن يتكرر، أم أننا نعيش حقاً في زمن بورصات مُسيَّسة تتحرك على إيقاع التغريدات والقرارات السياسية؟

إن الإجابة على هذا السؤال ستحدد شكل تعامل المستثمرين مع الأخبار السياسية في المستقبل، وما إذا كنا أمام حقبة جديدة يصبح فيها كل تصريح رئاسي متغيراً سوقياً لا يقل أهمية عن أرباح الشركات وأسعار الفائدة. الأيام وحدها ستكشف لنا الحقيقة… ولكن المؤكد أن ما حدث في أبريل 2025 سيبقى في الذاكرة طويلاً كجرس إنذار مدوٍّ حول هشاشة أسواقنا أمام سطوة السياسة وتقلبات أصحاب القرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *