الرسوم الجمركية الأميركية تعيد للصين عظمتها

ارتأى نيكولاس بيرنز، سفير الولايات المتحدة لدى الصين أن الرفق مع الحلفاء هو الوسيلة التي قد تمكن واشنطن من الفوز على بكين في صراع القوة العالمي. هكذا أجاب بيرنز الذي كادت مهمته أن تنقضي رداً على سؤال عن ذلك، وما قاله هو ما ينبغي أن يتبعه دونالد ترمب إن شاءت بلاده أن تحافظ على مكانتها الآسيوية.
تتسابق دول آسيويا حالياً لتتفاوض على مخرج من رسومه الجمركية، وعلى المدى الطويل، ستعمل هذه الدول على تعزيز تعاونها البيني، كما ستُقيّم فوائد الرجوع إلى القوة العظمى حين لا تُعاقبها برسوم جديدة. برغم أن تحركات الصين التوسعية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ قد ذهبت بشيء من بريقها. تُضيع واشنطن فرصة استغلال هذا القلق الإقليمي إزاء تصرفات بكين.
إن مجابهة منافسين مثل الصين أمر منطقي، إذ يسعى ترمب إلى تصحيح ما يعتبره أخطاءً ارتكبها شركاء الولايات المتحدة التجاريين بحق بلاده. لكن بعض القرارات الأخرى مُحيّرة. لم يبقَ أي بلد تقريباً لم يُمسّ، ولا حتى حلفاء مثل أستراليا والهند واليابان وكوريا الجنوبية. إن عزل إندونيسيا وتايوان وفيتنام وسنغافورة والفلبين، التي كانت جميعها مفيدة في مساعدة واشنطن على مواجهة صعود بكين في المنطقة، أمرٌ معكوس الجدوى.
ضرر يستمر عقوداً
كما أسلفت في مقال سابق، إن الضرر الذي لحق بمصداقية أميركا لن يحدث بين عشية وضحاها إلا أنه سيستمر لعقود. سيتجلى ذلك في قرارات تتعلق بمن تُتاجر معه ومن تُنشئ معه تحالفات أمنية ومن تشتري منه الأسلحة ومن تطلب منه مساعدات التنمية ومن تُشاركه المعلومات الاستخباراتية.
شرحت سالي باين، الأستاذة في كلية الحرب البحرية الأميركية، أن الولايات المتحدة كانت أكبر المستفيدين من هذه العلاقات، وقد نما اقتصادها عبر التجارة الدولية والحفاظ على الممرات البحرية المفتوحة لكونها قوة بحرية كبرى، كما ساهم ذلك في الاستقرار العالمي عموماً.
وازدادت واشنطن وشركاؤها ثراءً وباتوا جميعاً أكثر أمان، فساعد ذلك في الحفاظ على التفوق الاستراتيجي لأميركا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهو أمر اعترف به حتى وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث في زيارة حديثة إلى المنطقة.
تخاطر واشنطن الآن بفقدان هذه الميزة. سلّطت دراسة حديثة صدرت قبل الكشف عن الرسوم الجمركية الأخيرة من معهد “آي إس إي إيه إس-يوسف إسحاق” الضوء على هذا الأمر.
كشفت الدراسة أن عدداً أكبر من الناس سيختارون الولايات المتحدة إذا ما أُجبروا على الاختيار بين واشنطن وبكين، ويعود ذلك أساساً إلى مخاوف من أن الأخيرة تستعرض قوتها العسكرية في أماكن مثل بحر الصين الجنوبي. وهذا تغير عما كانت عليه الآراء العام الماضي.
يرجح أن تكون الإجابات مختلفة تماماً لو طُرح السؤال نفسه على من شملهم الاستطلاع اليوم. فالحكومات الآسيوية تُقيّم خياراتها. يجتمع وزراء اقتصاد رابطة دول جنوب شرق آسيا ”آسيان“ المُكوّنة من 10 دول في كوالالمبور هذا الأسبوع لوضع استجابة مُنسّقة. (قد لا يتحقق هذا نظراً لتشرذم الرابطة تاريخياً).
سبق لدول مثل ماليزيا وسنغافورة، وكلاهما من أكبر المُستفيدين من العولمة، أن تحدثتا بصراحة عن الضرر الذي ستُلحقه الرسوم الجمركية. وحذّر رئيس وزراء سنغافورة لورانس وونغ من احتمال أن يصبح العالم أخطر وأشبه بـ”ثلاثينيات القرن الماضي”، عندما “تصاعدت الحروب التجارية إلى صراعات مسلحة، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية”.
براعة الصين
في المقابل، تُظهر بكين إتقانها لكيفية التعامل مع أصدقائها. في ديسمبر، خفضت الرسوم الجمركية إلى الصفر على منتجات معينة من جميع الدول الأقل نمواً التي تربطها بها علاقات دبلوماسية.
كما أنها محرك رئيسي للشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، أكبر اتفاقية تجارة حرة في العالم، وتضم 15 دولة تُمثل 29% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وفقاً لأرقام 2022. ويرجح أن ترغب مزيد من الدول الآسيوية بأن تنضم إليها لتحدّ من تأثير سياسات واشنطن الاقتصادية.
كما أطلقت بكين حملةً إقليميةً لجذب الانتباه. فقد اجتمعت الصين واليابان وكوريا الجنوبية في مارس، وجددت الدعوة إلى تدفقات مفتوحة وعادلة للسلع، وتعهدت بتعميق العلاقات الاقتصادية، على الرغم من العداء التاريخي بينها. لم يُبرم أي اتفاق بعد، لكن انعقاد الاجتماع بحد ذاته يُشير إلى مدى استعداد الدول الثلاث لتعزيز علاقاتها في ظلّ العداء الأميركي.
عادةً ما تتبع العلاقات الأمنية العلاقات الاقتصادية، لكن راهناً لا أحد يستطيع استبدال المستهلك الأميركي. بلغ إنفاق الأسر الأميركية 19 تريليون دولار في 2023، أي ضعف إنفاق الاتحاد الأوروبي، وثلاثة أضعاف إنفاق الصين تقريباً. عندما تُدفع الدول إلى حافة الهاوية، ستتكيف، وبكين تُقدّم لها بالضبط ما تحتاجه للتعامل مع مشهد التجارة العالمية المتغير.
تحالف حيوي
لحماية نفسها من مزيد من التداعيات الاقتصادية، لن يكون أمام الدول الآسيوية أي خيار سوى العمل بشكل أوثق، مع الحفاظ على علاقتها مع الولايات المتحدة. إنه تحالف سترغب في رعايته برغم صعوبة استشراف المستقبل حالياً، إذ أنه ساهم في رفع مستويات الدخل والمعيشة في جميع أنحاء المنطقة. وسيكون من الحكمة أيضاً التواصل مع شركاء آخرين متأثرين بأهواء واشنطن، مثل الاتحاد الأوروبي، نظراً للمظلومية المشتركة.
يمكن إعادة تقييم العلاقات الدفاعية والعسكرية أيضاً، وقد بدأت دراسة شيء من ذلك، إذ تتباحث اليابان مع الناتو لتعزيز تبادل المعلومات والتعاون الدفاعي الصناعي.
حرب ترمب التجارية بدأت لتوها. وتحاول الدول العالقة في الوسط، في ظل سوء تصرف القوتين العظميين، أن تحدّ من خسائرها.
تسعى الدول الآسيوية لإيجاد طريقة لتجاوز هذه المحنة، لكن على المدى البعيد، ستكون هناك إعادة ترتيب للأولويات الاستراتيجية تجاه بكين. ما بدأ كمعركة محورها التجارة العالمية، من شأنه أن يُعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بحيث تكون الصين مركزها.