اخر الاخبار

الأمنيات وحدها لا تكفي لحل أزمة الديون الأميركية

خطة الميزانية التي تتبلور في الكونغرس الأميركي ستضيف فيما يبدو نحو 4 تريليونات دولار إلى الدين العام خلال العقد المقبل، في حين أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي تقترب بالفعل من 100%، وهو مستوى مقارب لما كانت عليه في نهاية الحرب العالمية الثانية، وترتفع بشكل مطرد. حتى من دون التخفيضات الضريبية الجديدة المطروحة حالياً، تتجه النسبة لتتجاوز 160% خلال العقود المقبلة.

لا يُبدي كثير من خبراء الاقتصاد قلقاً كبيراً حيال هذا الأمر. في ورقة بحثية جديدة، ينضم ويندي إدلبيرغ وبنيامين هاريس ولويز شاينر من معهد “بروكينغز” (Brookings) إلى صفوف الراضين المطمئنين، غير أن حجتهم بعيدة كل البعد عن أن تكون مطمئنة.

النقطة الرئيسية التي يدافعون بها هي أنه إن حدث انهيار مالي شامل فسيكون سببه “أخطاء سياسية” لا الإفراط في الاستدانة. حتى عند مستويات دين أعلى بكثير من اليوم -150% أو 200% أو أياً كان- لن يكون هناك سبب اقتصادي وجيه يدفع المستثمرين إلى الذعر، وسيظل بوسع صناع السياسات اتخاذ العديد من الإجراءات لتهدئتهم إذا لزم الأمر. الخطر الحقيقي لا يكمن في التجاوزات المالية، بل في ضعف الكفاءة السياسية.

تنفيذ التعديلات المطلوبة

يؤكد الباحثون أن التعديلات المطلوبة للحفاظ على استقرار نسبة الدين ضمن أي مستوى منظور تظل في المتناول. على سبيل المثال، وفقاً لحساباتهم، إذا تأخر تحقيق استقرار معدل الاستدانة عند النسبة المتوقعة البالغة 166% حتى 2054، فسيكون حينها من الضروري زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق بما يعادل 3% من الناتج المحلي الإجمالي أو كليهما. أضافوا: “حتى لو جاءت جميع التعديلات على جانب الإيرادات، فسيظل العبء الضريبي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي أقل من متوسطه في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. من هذا المنظور، حجم الضرائب في الولايات المتحدة الأميركية أكثر من كاف لتمويل العجز بموجب القوانين الحالية على مدى الثلاثين عاماً المقبلة، ثم تحقيق استقرار مستوى الدين”.

اقرأ المزيد: ما هو سقف الدين الأميركي ولماذا يدعم ترمب فكرة إلغائه؟

حسناً، إذا كان الفارق بين الضرائب الأميركية ومتوسط ضرائب دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية يُعد مقياساً للقدرة الضريبية المتاحة، فلم الرغبة في تعجيل استقرار الدين خلال بضعة عقود فقط؟ فلندع نسبة الدين تواصل ارتفاعها حتى نهاية القرن، لا بأس في ذلك. ولماذا يؤخذ متوسط المنظمة كمعيار؟ الدول الإسكندنافية تبدو مُدارة بكفاءة، وإذا اعتُمد معدلها الضريبي معياراً، فسيكون لدى الولايات المتحدة الأميركية مساحة مالية إضافية تعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي. في النهاية، كل ما يتطلبه الأمر هو رفع الضرائب بشكل كبير إذا دعت الحاجة، وهذا ربما لا يحدث إلا بعد سنوات طويلة.

منطق غير معقول

يبدو لي أن هذا المنطق غير معقول. لا بد أن الباحثين يدركون مدى صعوبة زيادة الضرائب في الولايات المتحدة الأميركية. كلما تأخر التصحيح المالي، ازداد حجم الزيادة الضريبية المطلوبة، وتصاعدت المقاومة لها. ربما يقولون إن التزام أمريكا الراسخ بضرائب منخفضة ليس من شأنهم، لأنه عائق سياسي وليس اقتصادياً. حسناً، وما الفارق؟

اقرأ المزيد: هل أصبحت أزمة ديون أميركا عصية على الحل؟

هذه المسألة تُطرح باستمرار. يتفق الباحثون على أن الذعر المالي المرتبط بالمالية العامة قد ينشأ بطرق متعددة، لكنهم يؤكدون في جميع الأحوال أن صانعي السياسات قادرون على تفاديه، ولو وقع بالفعل، فيمكن احتواؤه قبل أن يتسبب في أضرار جسيمة. هذه الحجة تعتمد دائماً على التفرقة بين نقاط الضعف الاقتصادية (المبالغ فيها) من جهة، و”الأخطاء السياسية” من جهة أخرى.

على سبيل المثال، تناقش الورقة خطر ما يُعرف بـ”الهيمنة المالية”، أي تعرض الاحتياطي الفيدرالي لضغوط ليسمح بارتفاع التضخم بهدف تقليص القيمة الحقيقية للدين. سيؤدي ذلك إلى إثارة قلق المستثمرين، ورفع أسعار الفائدة الحقيقية، ما يزيد من تدهور الوضع المالي ويؤدي إلى حلقة مفرغة قد تنتهي بحدوث تضخم مفرط. لكن الباحثين يرون أن الاحتياطي الفيدرالي يدرك ذلك كله ويتمتع باستقلالية تشغيلية، ولذلك فحدوث هذا السيناريو مستحيل. يقولون إن البنك المركزي “سيتعين عليه تبني استراتيجية محكوم عليها بالفشل. نحن لا نتوقع مثل هذه الأزمة ما لم يشهد نظامنا السياسي تغييرات جذرية.” ولا احتمالية لحدوث ذلك، أليس كذلك؟

مخاطر التخلف عن السداد

تتساءل الورقة البحثية أيضاً عن احتمال أن يبدأ المستثمرون في مراعاة مخاطر أكبر لاحتمال تخلف الولايات المتحدة الأميركية عن السداد في نهاية الأمر -وهو ما سيسفر عن ارتفاع أسعار الفائدة وتدهور الآفاق المالية وتعزيز المخاوف من التخلف عن السداد، وهذه حلقة مفرغة أخرى. لكن الباحثين يطرحون السؤال نفسه مجدداً: أين المشكلة؟ فهم يرون أن “الكونغرس الأميركي يمكنه التعامل مع ذلك من خلال التحرك بشكل موثوق نحو تشديد أكبر للسياسة المالية”.

اقرأ المزيد: “غولدمان” يتوقع ارتفاع الدين الأميركي إلى مستويات خطيرة

يعتبر الباحثون الانهيار المالي الأخير في المملكة المتحدة نموذجاً. أعلنت رئيسة الوزراء آنذاك، ليز ترَس، عن تخفيضات ضريبية كبيرة، وهمشت مكتب مسؤولية الميزانية (الهيئة الرقابية الرئيسية على المالية العامة)، وتخلت عن القواعد المالية التي وضعها سلفها. كانت النتيجة اضطراباً مالياً واسع النطاق. اضطرت ترَس إلى الاستقالة، وأُلغيت سياساتها، وعاد الاستقرار.

قد يرى البعض في هذه الحادثة دليلًا على أن التهور المالي أمر خطير يجدر تجنبه. لكن باحثي معهد “بروكينغز” يعتبرونها دليلاً على أن مثل هذه الأخطاء قابلة للتصحيح، وليس ذلك فحسب بل إنها بطبيعتها تصحح نفسها تلقائياً؛ ترتكب الحكومة خطأً سياسياً، يعقب ذلك حالة ذعر مؤقتة، ثم يتدخل ساسة أكثر حكمة لإعادة الأمور إلى نصابها. وبما أن تكلفة الانهيار المالي الشامل كارثية، فسيتحرك صانعو السياسات “بشكل استباقي لإعادة الانضباط المالي وتجنب الانهيار”.

مستويات دين مستدامة اقتصادياً

خلاصة هذا الطرح هي أن ارتفاع الدين العام بكثير عن مستواه الحالي أمر مستدام تماماً من الناحية الاقتصادية، وبالتالي، لا يوجد سبب اقتصادي وجيه للقلق بشأنه. وإذا أثارت الأخطاء السياسية قلق المستثمرين، فسيتدخل صانعو السياسات على الفور لطمأنتهم؛ وسرعان ما سيهدأ الذعر، ما يسمح باستمرار تراكم الدين العام بوتيرة سريعة دون مشكلات. وخلاصة الورقة هي أن احتمالية حدوث أزمة مالية طويلة الأمد بسبب تراكم الديون خلال السنوات المقبلة “منخفضة جداً”، ما دامت الولايات المتحدة تحافظ على مؤسساتها القوية ومسار مالي لا يبتعد كثيراً عن التوقعات الحالية.

اقرأ المزيد: صقور السياسة المالية في أميركا يتراجعون عن مواقفهم

لكن عندما أنظر إلى واشنطن اليوم، لا يخطر ببالي مصطلح “مؤسسات قوية”. كما أنني أرى مساراً مالياً على وشك أن يزداد سوءاً، حتى لو لم يكن ذلك بالضرورة “بشكل كارثي”. اعذروني على التذكير بأمر بديهي، لكن الساسة يرتكبون الأخطاء. سواء أسميناها أخطاء اقتصادية أو زلات سياسية، فهذا لا يغير من الأمر شيئاً. تصحيح هذه الأخطاء يمكن أن يكون صعباً، وصعوبة إصلاح السياسات المالية الخاطئة تحديداً تتزايد كلما ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي.

كنت قلقاً بالفعل بشأن المسار المالي للولايات المتحدة الأميركية قبل أن أقرأ هذه الورقة البحثية. لكن مجرد التفكير في أن صانعي السياسات ربما يسترشدون بها هو أمر مرعب بمعنى الكلمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *