اخر الاخبار

المطبخ السوري مرآة تعافي اقتصاد البلاد

في وسط دمشق، يربط زقاق ضيق بين سوق مدحت باشا والحي اليهودي، ويطلق عليه “الشارع المستقيم”. يُقال إنه الطريق الذي سلكه بولس الرسول في رحلة تحوله للمسيحية قبل نحو ألفي عام. 

وفي الآونة الأخيرة، استُخدم الزقاق لنقل وجهاء الزوار إلى مطعم “نارنج”، أحد أفخم مطاعم المدينة. تضم قائمة المطعم الذي كان يرتاده الرئيس المخلوع بشار الأسد أكلات من المنطقة نادراً ما تراها خارج المطابخ الخاصة، مما يجعله نموذجاً مثالياً لتنوع المطبخ السوري.

في زيارتي الأخيرة لمطعم نارنج، خريف 2008، كان محجوزاً بالكامل لاستضافته مناسبة خاصة. وعبر استراق النظر من النوافذ الزجاجية، استطعت أن أرى في قاعة الطعام التقليدية ذات الأثاث الأنيق مجموعة من الرجال يرتدون البدلات السوداء، يتوسطهم ترايان باسيسكو، رئيس رومانيا الذي حال وجوده في وقت سابق من ذلك اليوم دون دخولي “كنيسة القديس حنانيا”، حيث جرى تعميد بولس الرسول.

مطعم “نارنج” بعد سقوط النظام

عندما عدت لزيارة “نارنج” في الشهر الماضي، كانت الأجواء مختلفة تماماً. كان الباب الخشبي الضخم للمطعم يحمل العلم الملون بالأخضر والأبيض والأسود والنجمات الحمراء الثلاث، وهو العلم الذي يستخدمه الثوار الذين أطاحوا بالنظام القديم قبلها بسبعة أسابيع.

أما القاعة الداخلية التي كان تضج في الماضي بعدد كبير من الموظفين بالملابس الحريرية ناصعة البياض، فلم يكن بها سوى نادل واحد يرتدي بقايا مهترئة من ذلك الزي الأنيق. كنت أحد شخصين فحسب يتناولان الطعام في القاعة التي تتسع لمئات المرتادين.

خارج المطعم، لم تنجُ السوق من مظاهر التدهور. على أية حال، هذا بلد يتعافى من حرب أهلية مُدمِّرة استمرت 14 عاماً. لكن المحال على جانبي “الشارع المستقيم” كانت تعج بالزبائن، توجه الكثير منهم لتناول الغداء في مطاعم أقل مستوى كثيراً من “نارنج”.

ازدهار أنشطة الباعة المتجولين

كان العمل مزدهراً لدى الباعة المتجولين الذين يقدمون طعام الشارع. في كشك لبيع القطايف يديره شقيقان، وقف أحد العمال لتحريك الخليط بيده قبل أن يضعه في قمع يسد طرفه بإصبعه لحين الانتهاء من ملئه، ثم يسكب الخليط على الصاج الساخن. تذكرني أحد المُلاك من زيارات سابقة، وبكرم الضيافة السوري المعتاد، قدم لي طبقاً مليئاً بالقطايف المحشوة بالكريمة.

سألته عن رأيه في سقوط النظام، وتولي الثوار زمام الأمور؛ فأضاء وجهه، وفرد ذراعيه على اتساعهما قائلاً: “على الأقل يمكننا الآن أن نتنفس بحرية”.

من لا يعرف سوريا قد يعتبر أن من غير الملائم، بل وربما من التبلد، أن يحاول كاتب متخصص في الطعام استكشاف أحوال المطاعم، بينما لا تزال جراح الحرب مفتوحة، والمستقبل مجهولاً، إذ تنطوي مهمة إعادة إعمار البلاد على تحديات هائلة -سياسياً واقتصادياً واجتماعياً- تتجاوز حالة مطاعمها.

لكن إذا كانت المصالحة والتجارة والخرسانة ضرورية لإعادة إعمار أمة دمرتها الحرب، فالثقافة أيضاً عنصر حيوي لإعادتها إلى رونقها. والثقافة السورية، بشكل فريد بين سائر الدول العربية، متجذرة في مطبخها – القديم قدم التاريخ، والمتنوع بقدر تنوعها العرقي والديني.

المطبخ السوري يُوحد الصفوف

“الطهي هو أحد الأمور التي يفخر بها جميع السوريين” كما يقول تشارلز بيري الذي يُعتبر مرجعاً لفنون الطهي العربية، وهو مترجم كتاب الطهي السوري “الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب” الذي يعود إلى القرن الثالث عشر.

ويضيف بيري أنه “ربما ليس من قبيل المبالغة أن نأمل في أن يكون (المطبخ السوري) عاملاً لتوحيد الصفوف في الوضع السياسي الحالي”.

زرت سوريا عشرات المرات على مدار ستة عقود، ولطالما رأيت أن أحوال المطاعم مقياس جيد لشعور السوريين حيال أنفسهم.

خلال سنوات الصراع الطويلة التي بدأت في 2011، كان الطعام محور الكثير من مناقشاتي مع الأصدقاء السوريين، سواء الذين بقوا داخل البلاد أم أولئك الذين فروا من القتال.

وبطبيعة الحال كانت هناك مخاوف بشأن ما إذا كان الناس، خاصة أولئك الذين تعرضوا لحملة القصف التي شنها النظام السابق، يجدون ما يكفيهم من الطعام. كما كان هناك قلق أيضاً بسبب تضخم أسعار الغذاء.

الفلفل الحلبي على وشك الاندثار

كان أصدقائي، ربما لإلهاء أنفسهم عن المأساة الإنسانية، قلقين أيضاً من أن يكون للحرب تأثير مدمر ممتد على المطبخ الوطني.

فالقصف الذي دمر حلب التي يمكن القول إنها عاصمة الطهي في العالم العربي، دمر أيضاً حقول زراعة الفلفل والفستق الحلبي الشهيرين عالمياً، بالقرب من المدينة.

في وقت مبكر من الحرب، التهم حريق “سوق المدينة” حيث كان الفلفل مصدر فخر لباعة التوابل. الكثير مما بيع على أنه فلفل حلبي منذ ذلك الوقت لم يكن كذلك، أو جاء من تركيا. لم يكن السوريون وحدهم القلقين بشأن الفلفل، فقد أُدرج رسمياً في “سفينة التذوق” وهي دليل للأطعمة التراثية المهددة بالاندثار تصدره مؤسسة “سلو فوود” (slow food).

أتذكر أنني، في ذروة الصراع، سألت محمد العنتبلي الطاهي السابق ومالك مطعم “الواحة” المتميز في لندن إن كان باستطاعته الحصول على الفلفل الحلبي. كان رده أن بعض المزارعين السوريين حاولوا زراعته على الجانب التركي من الحدود، لكنه لم يكن بنفس النكهة؛ لذا لجأ إلى استخدام أجود ما يمكنه الحصول عليه من رقائق الفلفل التركية، كونها الأقرب إلى النكهة الأصلية.

إلى جانب الدمار المادي وحصيلة الضحايا الكبيرة -تتراوح التقديرات بين 300 ألف و500 ألف شخص- أدت الحرب إلى نزوح أكثر من 7 ملايين سوري، معظمهم عبر الحدود إلى تركيا والأردن ولبنان وغير ذلك.

من بين هؤلاء اللاجئين عدد غير معروف من المزارعين والطهاة الذين أخذوا معهم مهارات وخبرات لا يمكن تعويضها. والسؤال: ماذا لو لم يعد منهم أحد؟

هدد القتال بمحو أطباق بعينها، بل وحتى طرق محلية للطهي. عندما تعرضت النبك الواقعة شمال دمشق للقصف من قوات النظام والجماعات المسلحة على السواء في أواخر 2013، ثار القلق بشأن مصير الهريسة النبكية– الكعكة الإسفنجية الشهيرة المغطاة بالفستق.

كان التوقف لتناول الهريسة في النبك عادة لا بد منها للمسافرين براً من العاصمة حلب، ونشأ عدد من المطاعم التي تقدم الكعكة على جانبي طريق “إم 5” السريع. ودار الكثير من القتال على ذلك الطريق أثناء الحرب، حتى أُطلق عليه اسم “طريق الموت”.

تقلص مساحة “سوق التنابل”

لم يشهد وسط مدينة دمشق الكثير من القتال، لكنه لم ينج من تبعاته. في آخر يوم لي هناك زرت “سوق التنابل” (سُمي بهذا الاسم لأن الكثير من المحال تبيع الخضراوات والفاكهة الجاهزة للاستخدام) في حي الشعلان الراقي بالمدينة. وكانت مساحته قد تقلصت، لأن الكثير من النساء اللواتي يقمن بتجهيز الفواكه والخضراوات كن يعشن في أحياء فقيرة تعرضت لقصف كثيف؛ ما يعني أنهن إما قُتلن أو نزحن.

عند الاقتراب من حلب كان الدمار أكبر. عانت المدينة القديمة التي قلصت الحرب مساحتها بالفعل جراء زلزال مدمر في مطلع 2023. إعادة الإعمار ستستغرق سنوات، وربما عقوداً. من المستحيل معرفة إن كان المطعم في “بيت السيسي” الذي كان يوماً ذا شهرة أكثر من “نارنج” سيتعافى من الحريق الذي التهمه في 2012.

تناولت الطعام في منزل صديقة قديمة بعد أن قضت الحرب على معظم أماكني المفضلة. لم تغادر صديقتي أبداً، ومعظم الحي الذي تعيش به في الجانب العصري من المدينة نجا من الدمار.

لكن الأمر نفسه لا ينطبق على “حي الجديدة” المسيحي الذي يضم مطعمي المفضل “زمرد”. هذا المطعم المقام في منزل يعود للعهد العثماني كان -مثل “نارنج”- مفضلاً للنظام السابق.

هاجرت صاحبته إلى لبنان لتعمل كمتعهدة طعام. عندما قابلتها هناك قبل عامين تقريباً لم يكن لديها أمل في العودة. وأبلغتني بحزن أن “الكثير ممن كانوا يعملون في مطبخي في إعداد أشهى المأكولات لم يعد لهم وجود، فهم بين نازح وقتيل”.

تناول الهريسة النبكية

حتى في الأماكن الأشد تضرراً، هناك بوادر أمل. أثناء قيادتي على طريق “إم 5” باتجاه حلب الشهر الماضي، توقفت كما هي العادة لتناول الهريسة في النبك. صحيح أن القصف دمر الكثير من المطاعم التي كانت تقدمها، لكنني سعدت عندما وجدت أن مطعمي المفضل “استراحة” لا يزال موجوداً. وكانت الكعكة بنفس الجودة.

وفي حلب التي دمرها القصف، عبر الناس عن تفاؤل حذر بشأن مدينتهم ومطاعمها متعددة الطوابق والتوابل الشهيرة التي حملت اسمها. حقول زراعة الفلفل الحلبي لم تُدمر بالكامل، وعبر باعة التوابل المحليون عن ثقتهم في وجود حصاد في يوليو.

عندما يحدث ذلك، سيبتهج الذواقة في كل مكان بعودة الفلفل الحلبي الأصلي إلى أرفف التوابل لديهم. أما بالنسبة للسوريين، فستكون تلك خطوة مهمة في رحلتهم الطويلة نحو استعادة الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *