كيف أصبحت الإمارات المركز العالمي لرياضة الكريكيت؟

بالنظر إلى ملعب دبي الدولي للكريكيت من الخارج في إحدى المباريات المقامة ليلاً، من السهل أن نفهم سبب تسميته بـ”حلقة النار”، حيث تتوهج الإنارة في سماء الصحراء بفضل نظام الإضاءة الفريد. لكن عند النظر إليه من الداخل، تبدو سعة الملعب البالغة 25 ألف مقعد متواضعة مقارنة مع أكبر الملاعب الرياضية مثل أحمد آباد (132 ألف مقعد) وملبورن (100 ألف مقعد) وكولكاتا (68 ألف مقعد).
رغم ذلك، فإن المجلس الدولي للكريكيت، الهيئة المنظمة للرياضة، لن يعترض على سعة الملعب اليوم الأحد، عندما يلتقي منتخبا الهند وباكستان في معلب “حلقة النار” في أكبر مباراة في الجولة الأولى من بطولة دوري الأبطال التي تضم 8 دول. يمكن للمجلس الدولي للكريكيت أن يكون واثقاً بأنها ستكون واحدة من أكثر المباريات متابعة في العالم خلال العام الحالي في أي رياضة. عندما التقى هذان الفريقان المتنافسان في أكتوبر 2023، شاهدهما جمهور عبر التلفزيون يقدر بنحو 500 مليون شخص، أي 5 أضعاف عدد مشاهدي نهائي دوري كرة القدم الأميركية “سوبر بول”.
متعة حضور المباراة في الملعب
لكن نافجوت شارما لم يكن ليكتفي بمشاهدتها عبر التلفزيون. سافر المستشار التكنولوجي البالغ من العمر 41 عاماً من روثرفورد في ولاية نيو جيرسي، عابراً نصف الكرة الأرضية لمتابعة المباراة من الملعب مباشرة، ليحق له التفاخر على 3 من أبناء عمومته الذين قطعوا مسافة أقل قادمين من الهند. وقال: “ليس الأمر مجرد لعبة كريكيت. إنها مسألة تتعلق بالمشاعر”.
يعرف شارما ما يمكن توقعه، فقد شاهد في العام الماضي مباراة الهند وباكستان في نيويورك. وأضاف: “هتافات الجمهور والتوتر في الأجواء وشغف المشجعين، يجعلها تجربة لن أنساها أبداً. كنت أتوق لأعيشها مجدداً منذ ذلك الحين”.
يشعر العديد من الأشخاص بنفس الطريقة حيث تمتلئ فنادق دبي، بينما ارتفعت أسعار الغرف والرحلات الجوية أيضاً. وبيعت تذاكر مباراة اليوم في غضون ساعة من طرحها عبر الإنترنت في السوق الثانوية، وجرى بيع بعضها بأكثر من عشرة أضعاف سعرها الأصلي. كما تستعد المطاعم والمقاهي التي تعرض بداخلها الألعاب الرياضية في جميع أنحاء المدينة لاستقبال موجة من المشجعين، حيث يعلن أحد المطاعم عن كبائن خاصة مزودة بشاشات بحجم 65 بوصة. ومن المقرر أن تعرض سلسلة شهيرة من دور السينما المباراة على عدة شاشات.
لماذا تستضيف الإمارات المباراة؟
في خضم كل هذا الترقب الممزوج بالحماس، من السهل أن ننسى أن هذه المباراة لم تكن مخصصة للعب في دبي على الإطلاق. فبطولة دوري الأبطال تُنظم من قبل باكستان، ولكن البطولة كانت مهددة عندما قالت الهند -بذريعة وجود مخاوف أمنية- إنها لن ترسل فريقها إلى هناك. دائماً ما تكون العلاقات بين البلدين مشحونة، ولم يلعب أي فريق هندي على الأراضي الباكستانية منذ 2006. تم تجنب الأزمة قبل عيد الميلاد مباشرة عندما تدخلت الإمارات لاستضافة جميع مباريات الهند في دبي.
كانت هذه خطوة تظهر تأثير الإمارات في رياضة لا يمارسها الكثير من المواطنين الإماراتيين، رغم أنها محبوبة من قبل الجاليات من جنوب آسيا التي تشكل أكثر من ثلثي سكان الإمارات، بما في ذلك الجاليات من بنغلاديش وسريلانكا ونيبال.
فريق الإمارات، الذي يتكون من لاعبين من أصول من نفس القارة، ليس قوياً بما يكفي للتأهل إلى بطولة دوري الأبطال. لكن ذلك لم يمنع البلاد من وضع نفسها كمركز حيوي للكريكيت العالمي على مدى السنوات الماضية. يتزامن هذا مع فترة من التأثير المتزايد للإمارات في الرياضة والأعمال والقضايا الجيوسياسية، بتمويل من عائدات اقتصاد قوي يعتمد على صادرات النفط والغاز، ويعتمد أيضاً على العمل والمهارات التي يقدمها أولئك المغتربون من دول جنوب آسيا.
لعبة الكريكيت في الإمارات
بدأت أنشطة لعبة الكريكيت في الثمانينيات، عندما بدأت الشارقة -واحدة من الإمارات السبع التي تشكل الدولة- في استضافة بعض المباريات لصالح مجتمعها الكبير من الهنود والباكستانيين والسريلانكيين والبنغاليين. وسرعان ما انضمت دبي وأبوظبي إلى الحدث، مستفيدة من الروابط التجارية والدبلوماسية الطويلة مع دول شبه القارة الهندية. (أثبتت هذه الروابط فائدتها خارج أرض الملعب أيضاً، فقبل أربع سنوات، ساعد مسؤولون من أبوظبي في إبرام اتفاق سلام بين الهند وباكستان).
رسخت دبي مكانتها في عالم الكريكيت خلال 2005، عندما انتقل مقر المجلس الدولي للكريكيت من موناكو ولندن، الموطن التاريخي للرياضة، إلى دبي. كان الانتقال إلى الإمارة بسبب أنها خالية من الضرائب بعد رفض الحكومة البريطانية تقديم حوافز لمجلس الكريكيت. قال رئيس المجلس الدولي للكريكيت آنذاك، إحسان ماني: “قدمت دبي أفضل سبيل لمواصلة ممارسة هذه الرياضة الدولية”.
في عام 2021، عندما هدد وباء كوفيد-19 بإلغاء بطولة دولية أخرى كان من المقرر إقامتها في الهند، كانت الإمارات هي الخيار البديل المنطقي. كما استضافت الإمارات مرتين الدوري الهندي الممتاز، وهو أكثر البطولات القائمة على حقوق الامتياز التجارية ربحاً في رياضة الكريكيت.
ظاهرة العولمة الرياضية
يقول كريستيان أولريشين، الزميل الباحث في معهد “بيكر” في هيوستن، الذي يتتبع تأثير الإمارات المتزايد في القضايا الجيوسياسية: “دبي، والإمارات بشكل عام، لها سجل طويل في التفاعل مع الكريكيت الدولي. كان انتقال المجلس الدولي للكريكيت من مقره التقليدي في ملعب لوردز في لندن إلى دبي من خلال 2005 أولى العلامات على عولمة الرياضة في القرن الواحد والعشرين”.
يتباين هذا التزايد التدريجي في تأثير الإمارات في الكريكيت بصورة صارخة مع الجهود اللافتة لجيرانها الأكثر ثراء -قطر والسعودية- لاكتساب النفوذ في مجال كرة القدم. أنفقت الدوحة مليارات الدولارات لاستضافة كأس العالم 2020. ومن المقرر أن تصرف الرياض بسخاء على تنظيم نسخة 2034، إلى جانب إنفاقها الضخم لجذب النجوم الدوليين للعب في الدوري المحلي السعودي.
التحدي السعودي
لا تملك قطر والسعودية النفوذ الذي تتمتع به الإمارات في رياضة الكريكيت، لكن السعوديين بدأوا في تحدي ذلك، فقد رعت المملكة بطولات كريكيت كبرى في السنوات الأخيرة، ومددت شركة “أرامكو” شراكتها مع المجلس الدولي للكريكيت حتى 2027. كما أبدى مستشارو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان اهتمامهم باستثمار مبلغ 5 مليارات دولار في الدوري الهندي الممتاز، واستضافت جدة مؤخراً مزاد الدوري الممتاز، الذي يعادل “مسودة” اللاعبين في الرياضات الأميركية.
أعلن الأمير سعود بن مشعل آل سعود، رئيس الاتحاد السعودي للكريكيت، أيضاً عن خطط لبناء ملعب كريكيت عالمي في جدة. ولا يُستبعد أن يسافر عشاق مثل شارما في يوم من الأيام إلى هناك لمشاهدة مباراة بين الهند وباكستان في بطولة كبرى. لكن مساء اليوم، ستكون أعين عالم الكريكيت على ملعب “حلقة النار” في دبي.