اخر الاخبار

كيف يستحضر ترمب روح نابليون في سياساته؟

استحضر الرئيس الأميركي دونالد ترمب روح نابليون بونابرت مطلع الأسبوع الحالي، ويبدو أنه استلهم ذلك من أداء رود ستايغر لشخصية القائد العسكري والمصلح في فيلم “واترلو” الصادر في 1970، والذي جرى تصوير جزء منه في أوكرانيا بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي السابق.

نشر ترمب، الذي يبدو على وشك التخلي عن أوكرانيا في إطار “إنتاج مشترك” خاص به مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، على حسابه على وسائل التواصل الاجتماعي السبت الماضي قائلاً: “من ينقذ بلاده لا ينتهك أي قانون”. لم تتضح أصول هذه العبارة، لكن أقرب اقتباس مشابه لها جاء في أحد حوارات ستايغر في الفيلم. من المستبعد أن يكون ترمب قد استلهمها من كتاب، فهو لا يقرأ، لكنه من عشاق السينما ويميل إلى التفكير في نفسه بطريقة سينمائية. كما أعاد نشر الاقتباس إلى جانب صورة لنابليون.

نهج سلطوي

بغض النظر عن مصدر الاقتباس، كانت الرسالة واضحة بأنه لا بأس ببعض الاستبداد إذا كان في سبيل التجديد والإنقاذ، بغض النظر عما ينص عليه القانون. منذ تنصيبه، يسير ترمب في هذا الاتجاه بثبات. أعاد الرئيس الأميركي تشكيل مفهوم الرئاسة وصلاحياتها بأسلوب إمبراطوري، بينما يشن هجوماً ضارياً لتفكيك الوكالات الفيدرالية دون الرجوع إلى الكونغرس الأميركي أو الاستناد إلى أسس دستورية.

اقرأ المزيد: ما هي وكالة المساعدات “USAID” التي يستهدفها ترمب؟

هناك من يرى أن السبيل الوحيد لإعادة تشكيل بيروقراطية ضخمة مثل الحكومة الفيدرالية هو بإحداث تغيير جذري بالقوة. فالكونغرس يتحرك ببطء، والمراسيم الرئاسية تفقد زخمها بمرور الوقت، بينما يكون النجاح من نصيب سريع التصرف. في خطاب تنصيبه الشهر الماضي، رسم ترمب صورة لأميركا تعاني من الانهيار، بحيث لا يمكن إنقاذها إلا عبر شخص -مثله- يتمتع بتفويض إلهي. فاز بالرئاسة بنسبة 49.9% من الأصوات مقابل 48.4% لكامالا هاريس، في حين اكتسح الجمهوريون المجمع الانتخابي والكونغرس الأميركي. هذا هو أقصى تفويض يمكن أن تمنحه منظومة الانتخابات الأميركية شديدة الاستقطاب هذه الأيام، وناخبوه يريدون منه تنفيذ وعوده بمواجهة الحكومة المركزية وإصلاح الاقتصاد والتعامل مع قضايا الهجرة والسياسة الخارجية وبيروقراطية الخبراء المؤسسيين والحروب الثقافية.

التجربة الأميركية على المحك

المفاجأة الوحيدة فيما يفعله دونالد ترمب هي أن هناك من يظل يتفاجأ مما يفعله. أنصاره سعداء بما يفعل، فقد سئموا انتقادات الديمقراطيين، الذين يرون أنهم عاجزون عن فهم جاذبية ترمب وما يعتبرونه إنجازاته. أما منتقدوه، فيعتمدون على النظام القانوني باعتباره خط الدفاع الوحيد المتبقي، في ظل خضوع الحزب الجمهوري وتخبط الديمقراطيين وحسم الناخبين لقرارهم في الانتخابات. نحن في مرحلة غير مسبوقة، حيث التجربة الأميركية باتت على المحك.

اقرأ المزيد: كيف تحول دعم وادي السيليكون من أوباما إلى ترمب؟

من جانبه، ما يزال ترمب يمضي في المسار نفسه الذي بدأه عندما هبط على السلم الكهربائي في برج ترمب خلال 2015 ليعلن ترشحه للرئاسة. إنه يتحدى الأميركيين ليقرروا ما يريدونه من رئيسهم ومن حكومتهم ومن بعضهم البعض.

عندما نتحدث عن إعادة تشكيل الحكومة، ماذا نعني بذلك حقاً؟ وعندما نتحدث عن سلطة تنفيذية قوية، فما المقصود بذلك تحديداً؟ إذا لم يكن لديك تصور واضح لأي من الأمرين، ولم تحدد الشكل المثالي الذي تفضله، فمن الأفضل أن تبدأ الآن، لأن ترمب يسبقك بخطوات ويستحوذ على كل ما يمكنه من صلاحيات وفرص بينما ما تزال أنت تفكر في الأمر.

تحول مزلزل وسلطة مطلقة

لكن كثيرين حسموا موقفهم بالفعل. ترمب يأتي بالتغيير، وهم راضون عن ذلك. بالنسبة لهم، “عرض ترمب” ليس مجرد عرض تلفزيوني لا بد من متابعته، بل أيضاً يجب دعمه. لكن وراء هذا العرض هناك إعادة تشكيل عميقة للسلطة السياسية، قد لا يضطر مؤيدوه لمواجهتها إلا بعد أن تصبح واقعاً، عندما يتجسد ترمب في صورة “الملك دونالد”، المتحكم بكل ما يحيط به.

لا يواجه ترمب البيروقراطية فحسب، بل يعمل أيضاً على تقويض سيادة القانون، ويطرح فكرة أن المحاكم لا يمكنها كبح جماحه. في الوقت نفسه، يمنح النفوذ داخل إدارته لأصحاب نظريات المؤامرة وأشخاص يفتقرون للكفاءة وأفراد غريبي الأطوار وجماعة غير منتخبة من الداعمة للنظام الحاكم في روسيا. ليس ذلك فحسب، بل إنه يحقق مكاسب مالية -حرفياً- من منصبه الرئاسي، غير آبه بتضارب المصالح المالية الذي لم يكن أسلافه ليجرؤوا على التفكير فيه.

اقرأ المزيد: من هم أعضاء “كتيبة” ترمب لتحقيق أهدافه؟

هناك تحول مزلزل قيد الحدوث. لكن السياق يظل مهماً.

تعاني الحدود الجنوبية من فوضى سمح بها الديمقراطيون لفترة طويلة جداً. لكن الهجرة تشكل شريان الحياة للاقتصاد الأميركي، وترمب يعتزم تجفيف هذا المورد بالكامل.

العاملون في الجهاز الحكومي

تُعتبر الحكومة ضخمة وتعاني من عدم الكفاءة باستمرار، لكن الموظفين الفيدراليين يمثلون أقل من 2% من إجمالي القوى العاملة في البلاد، فيما تشكل تكاليف العمالة حوالي 6.6% فقط من إجمالي الإنفاق الفيدرالي. يعني التعامل مع الإنفاق الحكومي التعامل مع برامج الاستحقاقات مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية “ميديكير” والمساعدات الطبية “ميديكيد” بالإضافة إلى القطاع الذي يُعد من المحرمات السياسية وهو الإنفاق الدفاعي. كل شيء آخر، باستثناء مدفوعات الدين الفيدرالي، يُعتبر ضئيلاً بالمقارنة مع هذه العناصر الأربعة. رغم ذلك، لم يتحدث ترمب كثيراً عن أي من ذلك، بل إنه يسعى لتخفيض الضرائب، وهي طريقة مؤكدة تضمن أن إيرادات الحكومة لن تغطي نفقاتها.

اقرأ المزيد: وزارة ماسك للكفاءة الحكومية تهديد كبير للموظفين الفيدراليين

علاوة على ذلك، فإن الحكومة الفيدرالية تتولى عادة مهام لا تحقق أرباحاً بطبيعتها أو تتطلب عوائد غير ملموسة أو طويلة الأجل، مثل الدفاع والصحة العامة والمشاريع العامة والأمن العام والبحث العلمي والإغاثة في حالات الكوارث وغيرها. هذه مشاريع لا يستطيع القطاع الخاص إقامتها أو لا يرغب في ذلك. كما أن الحكومة، إلى جانب العديد من الكفاءات التي توظفها، تنفذ الكثير من هذه المهام بكفاءة (كما أوضحت سلسلة مقالات لصحيفة “واشنطن بوست”).

التوازن بين الحكمة والصرامة

تُعد الحكومة ذات الحجم المبالغ فيه مشكلة، لكن تقليصها بشكل مفرط يمثل مشكلة كذلك. إيجاد التوازن يتطلب التعامل بحكمة وصرامة في نفس الوقت. لكن هذه ليست مناقشة يجريها معظم الأميركيين حالياً. إنهم يحبون ترمب وطريقته الصارمة في التعامل، بما في ذلك توسيع صلاحياته في فرض الرسوم الجمركية والأمن القومي والسياسة الخارجية دون قيود.

ستظهر بعض تبعات هذه الفوضى السياسية على المدى البعيد، بينما سيظهر البعض الآخر قريباً. على سبيل المثال، يعمل فريق ترمب على تفكيك جزء أساسي من البنية التحتية للصحة العامة الفيدرالية، في وقت يبدو فيه أن تفشي فيروس إنفلونزا الطيور آخذ في التفاقم، بينما بدأ وباء كوفيد-19 يتلاشى من الذاكرة. أما سياساته التجارية، في حال تطبيقها بالكامل، فمن المحتمل أن تؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم (وهو أحد العوامل التي أسهمت في إنهاء حكم الرئيس السابق جو بايدن).

اقرأ المزيد: إنفوغراف: تضخم الغذاء في عهد بايدن الأعلى منذ نيكسون

صرحت مؤخراً وزيرة الأمن الداخلي، كريستي نويم خلال مقابلة مع شبكة “سي إن إن” بأنها ترغب في “تفكيك وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية كما هي اليوم”، بحجة أن الوكالات المحلية لديها دراية أفضل بطريقة توزيع موارد الإغاثة في حالات الكوارث. قد يكون في ذلك شيء من الصحة، لكنه يثير تساؤلاً حول سبب اعتماد هذه المناطق على الوكالة عند وقوع الكوارث، حتى في الولايات المؤيدة للحزب الجمهوري التي تنتقد الحكومة الفيدرالية بصفة دائمة. ربما تقدم الكوارث المستقبلية درساً عملياً حول مدى اعتماد الجميع على السلطات الفيدرالية.

حركات استعراضية

بعد أن أبلغت إدارة ترمب مئات الموظفين في الإدارة الوطنية للأمن النووي الأسبوع الماضي بأنه سيتم فصلهم، اضطر البيت الأبيض إلى التراجع عن هذه الخطوة واستدعاء العشرات من الذين تم تسريحهم، بعدما تبين أنهم يشكلون عنصراً أساسياً في عمل وكالة تتولى مسؤولية تأمين ترسانة الأسلحة النووية الأميركية. في بعض الأحيان، فإن العجلة في اتخاذ القرارت دون روية ليس بالاستراتيجية المُثلى.

اقرأ المزيد: بعد تسريح أكثر من 9 آلاف موظف.. تعرف على الوزارات الأميركية المتأثرة

 لا شك أن الكثير مما يجري يحمل طابعاً استعراضياً. ترمب يسعى إلى إظهار قدرته على التحرك بسرعة وكسر القواعد. لكن هذا ليس مجرد استعراض، بل أداة تشتيت فعالة أيضاً. فهو لا يبدي اهتمامه بشخصيات تاريخية مثل نابليون، أو زعماء سلطويين معاصرين مثل بوتين، لمجرد الترفيه. إنه مفتون بهم، ويريد أن يسير على خطاهم، ويعمل على تمهيد الطريق لذلك. بينما ينشغل الأميركيون بمتابعة حركاته الاستعراضية، فإنه يوسع سلطاته ويقوض المؤسسات.

أميركا على حافة الهاوية 

لو كان رئيس ديمقراطي هو من يتصرف بهذه الطريقة، لما تقبل الجمهوريون أو المحاكم أو الناخبون ذلك. لكن ترمب -مدان جنائياً ونجا من محاولتي عزل وهزيمة انتخابية وعقود من التحقيقات وسلسلة من الأزمات المهنية والشخصية التي كانت كفيلة بالقضاء على أي سياسي آخر- حالة استثنائية، وهو يدرك ذلك تماماً.

مما يُؤسف له أن ترمب لا يتقمص دوراً تمثيلياً لشخص سلطوي، بل إنه بالفعل يسلك هذا المسار، واضعاً البلاد على حافة الهاوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *