قطب تقنية روسي نأى عن بوتين ليراهن على الذكاء الاصطناعي
بحلول ظهيرة 19 ديسمبر، كان أركادي فولوز الستيني على أهبة الاستعداد لافتتاح أول مقر لائق لشركته الجديدة “نبيوس غروب” (Nebius Group) في أجواء فترة عيد الميلاد الاحتفالية.
تجمّع نحو 200 من موظفي الشركة ليتناولوا البيتزا والجعة في المبنى الفارغ القريب من مطار أمستردام الرئيسي. خاطب فولوز موظفيه قائلاً “هذا ليس مجرد مكتب… سيكون منزلاً أو نادياً”. إلقاء الخطب التحفيزية ليس من ملكات هذا الرئيس التنفيذي، فقد بدا أكثر ارتياحاً حين تجول بين الحاضرين بعدما ترك الميكروفون لنائبه الذي تولى شرح قيم الشركة بواسطة عرض “باور بوينت”.
عقوبات أوروبية
إلا أن أحداً لم يذكر أن فولوز وحوالي نصف الموظفين الحاضرين يعملون في شركة “يانديكس” (Yandex)، أكبر شركة تقنية روسية قبل 22 شهراً. بدأت تلك الشركة كمحرّك بحث تفوّق على “جوجل” داخل روسيا، قبل أن تتوسع نحو التجارة الإلكترونية وخدمات النقل وبث الموسيقى وغير ذلك.
حين زار رئيس روسيا فلاديمير بوتين مكتب “يانديكس” في موسكو لمناسبة ذكرى تأسيسها العشرين في 2017، عرض فولوز سيارة ذاتية القيادة طورتها الشركة، وقد بلغت قيمة “يانديكس” 30 مليار دولار في أوجها.
لكن في الأسابيع التي تلت غزو روسيا لأوكرانيا في 2022، فقد كل ذلك أهميته، فقد قطع الشركاء العالميون علاقاتهم مع “يانديكس”، وأوقفت بورصة “ناسداك” تداول أسهمها. صوّت فولوز ومجلس الإدارة لصالح بيع أصول الشركة في روسيا، بعدما أدركوا أن لا مستقبل لهم هناك. لكن مع بدء عملية بيع الأسهم، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على فولوز على خلفية حيازة بنوك حكومية روسية لحصص في “يانديكس”، واتهم محرك البحث بترويج الدعاية السياسية الروسية.
الطائرة الخاصة التي حملت 100 روسي بعيداً عن حرب بوتين
استقال فولوز من رئاسة الشركة في يونيو 2022، وقضى العامين التاليين يحاول فكّ ارتباطه بالشركة التي جعلته واحداً من كبار أثرياء روسيا ذات يوم. جمّدت العقوبات حساباته المصرفية ومنعته من السفر إلى أوروبا. قال مستذكراً: “الأمر أفضل من السجن، لكنه في النطاق نفسه… سجن، إقامة جبرية، عقوبات”.
سعى فولوز لإصلاح صورته، فأصدر في أغسطس 2023 بياناً أدان فيه ارتكابات روسيا “الهمجية” خلال الحرب. رد بوتين بعد شهر أثناء خطاب متلفز فقال إن فولوز رجل أعمال “موهوب”، متمنياً له “الصحة الجيدة”، وهو كلام استخدمه الرئيس الروسي حين تطرق إلى يفغيني بريغوجين، زعيم مجموعة المرتزقة الذي مات في حادث تحطم طائرة في 2023 في ظروف غامضة. (ينفي الكرملين الضلوع في الحادث). وعلّق فولوز على تصريح بوتين قائلاً: “لم يكن مطمئِناً.. أحاول ألا أفكر بالأمر”، لكنه استعان بفريق حراس لأول مرة بعد ذلك.
انطلاقة جديدة
تنفس فولوز الصعداء أخيراً في مارس 2024، عندما اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوة استثنائية برفع العقوبات عنه. استكملت “يانديكس” بيع أصولها في روسيا في يوليو. أما ما بقي منها، مثل مركز للبيانات في فنلندا وبعض المشاريع المتناثرة حول العالم وعدد من المهندسين، فأصبحوا حجر زاوية “نبيوس” التي تقدم خدمات الحوسبة السحابية للذكاء الاصطناعي.
في أكتوبر، ألغت بورصة “ناسداك” تجميد الأسهم بعد أن أثبتت “نبيوس” أنها قطعت علاقاتها مع روسيا تماماً. بعد ستة أسابيع، جمعت الشركة 700 مليون دولار من مستثمرين بارزين منهم شركة “إنفيديا”.
هذا تحوّل مذهل بالنسبة لقطب أعمال سابق. وُلِد فولوز في الاتحاد السوفييتي في 1964 لأبوين يهوديين، وأسس عدة شركات للبرمجيات قبل أن يشارك في تأسيس “يانديكس” إلى جانب العالِم إيليا سيغالوفيتش في 1997، أي قبل عام من انطلاق “جوجل”. في 2003، قدّم مؤسسا “جوجل” لاري بيدج وسيرجي برين عرضاً للاستحواذ على “يانديكس” مقابل 130 مليون دولار.
قال فولوز إن المفاوضات على ذلك استمرت شهوراً وتناولت مسائل مثل عدد الحاصلين على شهادات الدكتوراه في الشركتين. لكن “يانديكس” قررت في نهاية المطاف الإبقاء على استقلاليتها والسعي، حسب قوله، إلى فتح روسيا أكثر على الغرب. أضاف: “عملنا على مدى 30 عاماً لبناء دولة جديدة وليس مجرد شركة… ثم أدركنا أن كل شيء انتهى”.
تأخر فولوز في إدراك تحوّل روسيا إلى نظام سلطوي. أنشأ الشركة الأم لـ”يانديكس” عام 2007 في أمستردام، فاتحاً بذلك أبواب الأسواق المالية العالمية أمام الشركة. انتقل بعدها إلى تل أبيب في 2014 للتركيز على التوسع الدولي وبحثاً عن انطلاقة جديدة بعدما توفي شريكه المؤسس في “يانديكس” ومروره بتجربة الطلاق. كما يقول إن ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم كان عاملاً مساهماً في قراره.
نفوذ الكرملين
لطالما كان للكرملين نفوذ على “يانديكس”، وما لبث أن أحكم قبضته على خدمة جمع الأخبار ومجلس الإدارة، وهو ما دافع عنه فولوز في حينه قائلاً إنه يهدف لحماية “مصالح البلاد”. قال في مقابلة مع مجلة “وايرد” عام 2017: “أنا لا أتواجه مع الدولة تماماً كما لا أتواجه مع الطقس”.
في فبراير 2022، ومع تزايد التقارير حول احتمال غزو القوات الروسية لأوكرانيا، عقدت “يانديكس” اجتماعاً في موسكو لمناقشة المسألة. قال فولوز: “شاهدنا عرضاً توضيحياً تضمن عدة نقاط تؤكد أن كل هذا مجرد هراء، ولن يقدموا على ذلك”.
كانت شركة “أفرايد” (Avride) تابعة “يانديكس” المتخصصة في القيادة الذاتية بصدد تلقي استثمار قدره 300 مليون دولار من “هيونداي موبيس” (Hyundai Mobis)، على أن يُعلن عن ذلك في مارس مترافقاً مع عرض للسيارات ذاتية القيادة في شوارع موسكو، لكن ذلك لم يحدث. (تمكن فولوز من الاحتفاظ بـ”أفرايد”، المسجلة في الولايات المتحدة، كجزء من “نبيوس”).
أبوظبي تجتذب الملياردير الروسي فلاديمير ليسين
بعد اندلاع الحرب، كتب ليف غيرشينزون، رئيس “يانديكس نيوز” السابق، على “فيسبوك” أن زملاءه السابقين كانوا “شركاء في جريمة فظيعة” لأن خدمة الأخبار كانت تعرض المحتوى الإخباري الذي توافق عليه الحكومة دون سواه. قال لاحقاً إن فولوز “قدّم كثيراً من التنازلات” للحكومة الروسية على مر السنين.
يأسف فولوز لعدم إغلاق خدمة الأخبار في وقت أبكر، لكنه يوضح أنه لم يكن أمامه كثير من الخيارات للتعامل مع المطالب الحكومية. قال: “هل أمكنني الرفض؟ نعم، لكن لماذا أستمر في العمل في البلاد؟… هذا بالضبط ما كنت أفعله، كنت أبحث عن مكان آخر”. أشار إلى أنه استغرق 18 شهراً ليصدر البيان بشأن الحرب لأنه كان يحتاج أولاً لنقل نحو 1000 موظف من “يانديكس” رغبوا في مغادرة روسيا.
منافسة مع كبرى الشركات
يقسم فولوز وقته الآن بين هولندا وإسرائيل، حيث يوجد مكتب فرعي لشركة “نبيوس”. بعد انتهاء مراسم تدشين المقر في أمستردام، عاد إلى المقر المؤقت للشركة في مساحة عمل مشتركة مجاورة. مكتبه بسيط فيه طاولة اجتماعات وطاولة مكتب وجهاز “ماك بوك”، وقد مر بالمكتب خلال المقابلة عدة موظفين في “نبيوس” يحملون كمبيوتراتهم ظناً منهم بأن تكون متاحة لاستخدامهم.
كان فولوز يرتدي كنزة بسحاب إيطالية الطراز، وهو الأسلوب المريح الذي يفضله أصحاب المليارات. بدا متواضعاً ويبدي حسّ سخرية في بعض الأحيان. رداً على سؤال حول بيع “يانديكس” لمجموعة من رجال الأعمال الروس، بينهم أثرياء مقربون من الكرملين بسعر منخفض بلغ 5.3 مليار دولار، قال وهو يرشف الشاي الإنجليزي: “لم أخسر كل شيء. سمحوا لنا بالمغادرة مع بعض مقتنياتنا. كان الأمر أشبه بالتيه في مصر”.
حذف فولوز جميع تطبيقات “يانديكس” عن هاتفه ولم يعد إلى روسيا منذ اندلاع الحرب، ولا يتصور العودة إليها. قال: “الأمر يحيرني، كنت أظن أنني سأشعر بحنين أكبر إلى الوطن… لا أتابع الأخبار… فقدت مشاعري لا أدري كيف أصف الحال فهو كما لو كان الأمر لا يخصني”.
قاطع المقابلة شخص يطرق على الباب، كان المحامي الإسرائيلي أوفير نافي الذي عينه فولوز رئيساً تنفيذياً للعمليات في “نبيوس”، وقد خاطبه قائلاً: “أركادي، هل يمكنني التحدث معك لدقيقة؟ الأمر ملحّ”.
بعد أن عاد تحوّل النقاش من روسيا إلى شركته الجديدة، بدا أكثر حيوية وثقة. تُعد “نبيوس” من اللاعبين الجدد في سوق تأجير القدرة الحاسوبية لتدريب الذكاء الاصطناعي التوليدي وصيانته، حيث تنافس شركات ناشئة أخرى إلى جانب “أمازون” و”جوجل” و”مايكروسوفت”. وعلى الرغم من أن فولوز تفوق على هذه الشركات العملاقة الأميركية في السابق، هذه المرة لن تكون المنافسة مقتصرة على السوق الروسية.
الملياردير الروسي أليشر عثمانوف يخسر الاستئناف على تجميد أصوله
التوسع إلى الولايات المتحدة
بيّن فولوز أن “نبيوس” تتمتع بميزة تنافسية لأنها تصمم خوادمها ومراكز بياناتها بنفسها، ما يجعل أنظمتها أكثر كفاءة من ناحيتي التقنية والطاقة. كما تضم فريقاً له خبرة في إدارة العمليات السحابية لشركة “يانديكس”.
قال مات ويغاند، الشريك في شركة “أكسل” (Accel) لرأس المال الجريء التي استثمرت في “نبيوس”: “هذه ليست مجرد شركة اعتباطية”. في نوفمبر، أعلنت “نبيوس” عن خطط لإقامة منشأة حوسبة في مدينة كانساس بولاية ميزوري، تضم أحدث شرائح “إنفيديا”. حتى الآن، معظم عملاء “نبيوس” من الشركات الناشئة الجديدة المتخصصة بالذكاء الاصطناعي المدفوعة بأموال المستثمرين.
أعلنت “نبيوس” عن خسارة معدلة بقيمة 200 مليون دولار مقابل مبيعات بلغت 80 مليون دولار في أول ثلاثة أرباع من 2024، وفقاً لأحدث البيانات المتاحة. برغم أن قطاع الذكاء الاصطناعي يبدو أحياناً أشبه بفقاعة، يتوقع فولوز أنه سيوازي الإنترنت من حيث التأثير. قال: “إذا انفجرت الفقاعة، سنكون واحدة من ناجيتين من الأزمة”.
في حين لم يعد فولوز خاضعاً لأهواء بوتين، هو يدرك تبعات النفوذ السياسي. تلقت “نبيوس” اهتماماً متزايداً من عملاء في الولايات المتحدة، حيث يتزايد اعتبار الذكاء الاصطناعي مسألة أمن قومي، بالأخص مع عودة الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.
يتساءل فولوز: “إن كان المطورون في أوروبا، فهل يمكنك العمل مع الولايات المتحدة في هذا المجال الحساس من الذكاء الاصطناعي؟ ربما نعم، وربما لا. في الواقع، لا نعرف بعد، فالأمور ما تزال تتبلور”. مع بداية العام، ستبدأ الشركة بتعيينات في الولايات المتحدة.