“DeepSeek” تضفي جرعة من الواقع على حلم ماكرون للذكاء الاصطناعي
![](https://khaleejcapital.com/wp-content/uploads/2025/02/n9btPTpvc3_1738594288-780x470.jpg)
هل تبيض الأبقار؟ كان هذا السؤال ما يحير روبوت المحادثة الفرنسي “لوسي” (Lucie) نهاية الأسبوع الماضي، في ظل التبعات المفاجئة في عالم الذكاء الاصطناعي إثر الإعلان عن مشروع “ستارغيت” ذي التمويل الضخم، ونموذج “ديب سيك” الصيني الأقل تكلفة. أُوقف عمل النموذج الفرنسي بشكل محرج بعد ساعات من إطلاقه، بعد الفشل في تقديم “ذكاء اصطناعي بقيم أوروبية”، وقبل أيام فقط من “قمة العمل بشأن الذكاء الاصطناعي” (AI Action Summit) التي دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإقامتها. كل ذلك يؤكد أن أوروبا لم تواكب ثورة تكنولوجية أخرى.
حسناً، هذا تعبير غير منصف بدرجة ما، فواضح أن في أوروبا شركات ناشئة قوية، مثل “ميسترال” (Mistral)، لا تخلط بين البقر والدجاج، والمثال الذي قدمته “ديب سيك” على تحقيق إنجاز كبير من موارد محدودة بمثابة إشارة إيجابية من السوق لأوروبا، التي يوجد بها عدد كبير من أصحاب الكفاءات، رغم جذبها جزءاً ضئيلاً من رأس المال الجريء مقارنة بالولايات المتحدة (16% مقابل 57% من التمويل العالمي خلال 2024).
أدت آفاق وجود عالم ذكاء اصطناعي متعدد الأقطاب إلى ارتفاع أسهم شركات التكنولوجيا في القارة، مثل “إيه إس إم إل هولدينغ” و”ساب”، هذا الأسبوع، ومن لندن إلى باريس وبرلين، شهدت المعنويات تفاؤلاً ضئيلاً حيال المنافسة.
اقرأ أيضاً: رحلة تطوير الذكاء الاصطناعي.. دول يخفت ضوؤها وأخرى يسطع نجمها
رغم ذلك يبقى السؤال الجوهري الذي يحير روبوتات المحادثة هو: لماذا لم تحقق أوروبا السبق؟ فبعد عشر سنوات من استحواذ “جوجل” على شركة “ديب مايند” (DeepMind) البريطانية، وسبع سنوات من خطة ماكرون للذكاء الاصطناعي بتكلفة 1.5 مليار يورو (1.6 مليار دولار)، وعامين من إثارة “أوبن إيه آي” (OpenAI) المدعومة من “مايكروسوفت” طموح الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي الجديد في جميع أنحاء أوروبا، ألا يجب أن تكون القارة العجوز هي من تقدم البدائل المثيرة مفتوحة المصدر الأقل تكلفة للنماذج الأميركية المعتادة؟
الذكاء الاصطناعي في أوروبا في أسوأ حالة
تكمن إحدى الإجابات في المقولة المعروفة “الولايات المتحدة تبتكر، والصين تقلد، وأوروبا تنظم”. فأوروبا، التي يستخدم فيها 13% فقط من الشركات الذكاء الاصطناعي، بذلت وقتاً وجهداً أكثر من اللازم لتصبح أول من ينظم التكنولوجيا، فأقرت قانون الذكاء الاصطناعي الذي لم يترك تفصيلاً إلا وتناوله.
يمنع القانون التصنيف الاجتماعي، ويفرض على مجموعة من التطبيقات متطلبات للشفافية والإفصاح، ويعزز التدقيق في أي نموذج عالي الأداء يعتبر أنه يشكل “خطراً نظامياً مرتفعاً”، ويعتمد في فلسفته بشكل كبير على رؤية قائمة على “أوبن إيه آي” تفترض أن النماذج الأضخم ستكون أشد فعاليةً وخطراً.
ربما يبدو هذا سليماً نظرياً، أما من الناحية العملية، فإن الوضع أسوأ ما يمكن على جميع الأصعدة، بحسب غابرييل ماتزيني، المُعد الرئيسي لقانون الذكاء الاصطناعي، والذي يشعر حالياً أن القانون تمادى أكثر مما يجب، وبينما ترسخت هيمنة الولايات المتحدة على الذكاء الاصطناعي في ظل حسن استعداد شركات التكنولوجيا الكبرى لتجاوز الحواجز الكبيرة لدخول السوق، تراجع الإقبال على المخاطرة في الحلول المحلية.
اقرأ أيضاً: أحدثها “ديب سيك”.. لماذا تواصل التكنولوجيا الصينية مفاجأة الغرب؟
والآن، تهدد “ديب سيك” بأن تجعل تركيز القانون على المخاطر النظامية، التي تُقاس بالقدرة الحاسوبية، غير ذي فائدة، إذ لم يعد حاجز 1025 عملية نقطة عائمة في الثانية -ما تُعرف باسم “الفلوبس” (FLOPS)- منطقياً في عالم تتزايد فيه كفاءة النماذج.
قال ماتزيني: “نحن في مأزق”، ففي الفترة الحالية، وحتى في مدينة باريس موطن “ميسترال”، يقول لي عدد من متخصصي التكنولوجيا إن الانتقال من “أوبن إيه آي” يشبه التخلي عن متصفح “كروم” التابع لـ”ألفابت” لاستخدام متصفح “سفاري” التابع لـ”أبل”.
تحديات أخرى أمام الذكاء الاصطناعي في أوروبا
هناك مشكلات أخرى بخلاف التنظيم، فالانقسام يعيق أوروبا، وأسواق رأس المال والأطر القانونية حبيسة الحدود الوطنية، والأمر يسري أيضاً على العقلية السائدة في أوساط التكنولوجيا المحلية، حيث يندر وجود من يشبه ليانغ ونفنغ، مؤسس “ديب سيك”، في الجرأة والخروج عن المألوف.
اقرأ أيضاً: الاتحاد الأوروبي يبرم اتفاقاً صعباً لكبح الذكاء الاصطناعي
يرى أليوشا بورتشاردت، المتخصص بالذكاء الاصطناعي المقيم في برلين، أن على الأوروبيين إعادة النظر في ميلهم لتجنب المخاطر، وأنه بات شائعاً التفكير في تطبيقات الشركات الصغيرة، وبينما هذا منطقي تماماً، إلا أنه يجعل تحقيق أي إنجاز طموح مثل “ديب سيك” أمراً مستبعداً.
كما الحال في السيارات الكهربائية، هناك غياب تام للتفكير الاستراتيجي من قبل الحكومات الأوروبية، واستهانة خطيرة بالمنافسة الصينية. فزيادة التنظيم والدعم والمصانع العملاقة لم تعوض أوروبا عن نقص منظومات التقنية المحلية، وتأمين إمدادات الرقائق، وتبني الذكاء الاصطناعي في الصناعة. وسباق الذكاء الاصطناعي اليوم بين نظراء في التكنولوجيا، مثل “تسلا” و”بي واي دي”، وليس بين “فولكس واجن” و”ستيلانتيس”.
إذ تكرر رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ما ورد في تقرير ماريو دراغي عن إنقاذ أوروبا من تراجع مكانتها، فهي تستحق الثناء على الاعتراف بضرورة تغير الأوضاع، فناقشت هذا الأسبوع الحاجة لسد فجوة الابتكار في الاتحاد الأوروبي، ووعدت بمبادرات لدفع تطوير الذكاء الاصطناعي وتبنيه في الصناعة في القطاعات الأساسية، وتعهدت “بتخفيف” الإجراءات الروتينية المعقدة. كل هذه الإجراءات مشجعة، وإن كانت تنقصها القدرة المالية.
تصحيح مسار الذكاء الاصطناعي يبدأ بالتبني المحلي
في الفترة الحالية، الأفعال خير من الأقوال، وفيما تجهز الولايات المتحدة استجابة قوية لعالم ما بعد “ديب سيك”، ترفع الجهة التنظيمية للذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي عدد موظفيها 140 شخصاً (ما يتجاوز عدد من وظفتهم “ميسترال” أواخر العام الماضي).
ما الرسالة التي يبعثها البرلمان الأوروبي -المؤسسة التي أقرت قانون الذكاء الاصطناعي- بشراكته مع مقدمة خدمة أميركية، “أنثروبيك” (Anthropic)، لاستخدام الذكاء الاصطناعي للبحث في السجلات المحفوظة؟ لماذا لا يبدأ على الأقل بتبني الذكاء الاصطناعي الأوروبي في الكيانات الحكومية كطريقة للحفاظ على استمرار الطلب والبدء في كل هذه الإصلاحات اللازمة في نفس الوقت؟
في عالم تتزايد فيه الخلافات الجيوسياسية، حيث يُشاع أن البحرية الأميركية منعت أفرادها من استخدام تطبيقات “ديب سيك”، سيكون إقناع قارة بتغيير نهج تفكيرها خلال تصحيح مسارها بادرة بسيطة، على أمل أن ننهي ذكرى الأبقار التي تبيض.