شعبوية ترمب وبايدن: وعود كبرى لم تتحقق
التباين بين الرئيسين الأميركيين الخامس والأربعين دونالد ترمب والسادس والأربعين جو بايدن من حيث الخلفية أو الشخصية تصعب المبالغة بوصفه، ومع ذلك، يشتركان في جوهر الرؤية الاقتصادية المستندة إلى أسس شعبوية. ومن هذا القبيل، مهّدت ولايتاهما لمرحلة جديدة في التاريخ الأميركي، يُتوقع أن تستمر لأربع سنوات إضافية بعدما عاد ترمب ليصبح الرئيس السابع والأربعين.
رغم أن ترمب وبايدن قد يرفضان اشتراكهما بالتصنيف “الشعبوي”، إلا أنهما طرحا نفسيهما كمنقذين للمواطن العادي. إذ تستند خططهما الاقتصادية إلى قومية اقتصادية مدفوعة بالمظالم وتتحدى عقوداً من السياسات الاقتصادية التقليدية القائمة على منافع التجارة الحرة وكفاءة الأسواق.
كلاهما يلوم النخب السياسية والاقتصادية على انحراف مسار البلاد، وقد ركزا خلال ولايتيهما على إعادة وظائف قطاع الصناعة إلى الولايات المتحدة، وتعزيز فرص الأفراد في المناطق التي تواجه صعوبات في مواكبة التغيير.
اقرأ أيضاً: هل حقاً كان فوز ترمب مفاجئاً؟
لا فوائد تُذكر
لكن على أرض الواقع، بعد ثماني سنوات من حكم تيار ترمب المسمى “لنعد لأميركا عظمتها” و”اقتصادات بايدن”، لم تنتعش كثير من الجوانب المنهكة في أكبر اقتصادات العالم.
عند إلقاء نظرة عن بعد على الاقتصاد الأميركي، سيبدو قوياً، سواء لناحية انخفاض معدلات البطالة إلى مستويات قياسية تاريخية أو ارتفاع الأجور والثروة، أو قدرة البلاد على الاستمرار في قيادة التحول التقني، وكل هذا يجعل اقتصاد الولايات المتحدة موضع حسد بقية العالم.
لكن صعود نجم ترمب لا يرتبط بصحة الاقتصاد بشكل عام، بل بإحساس شرائح واسعة بفقدان مكانتها فيه، سواء الشباب الباحثين عن هدف في مجتمعات تراجع فيها قطاع الصناعة، أو عمال مصانع في منتصف أعمارهم يسعون جاهدين للاحتفاظ بوظائفهم حتى التقاعد.
صحيح أن جائحة كورونا وما أنتجته من تبعات واسعة تتحمل جزءاً من المسؤولية، لكن قياس التحولات على أسس معايير مثل التوظيف أو الثروة أو الصحة يثبت عدم حصول أي تغيير جوهري خلال السنوات الثماني الماضية، وهذا يثير تساؤلات حيال السنوات الأربع المقبلة.
رغم كل ما أطلقه ترمب وبايدن من وعود بشأن خلق وظائف صناعية، فـإن عدد الأميركيين العاملين في قطاع الصناعة اليوم أقل مما كان عليه عند انتخاب ترمب رئيساً للمرة الأولى. سجلت الوظائف الصناعية منذ 2016 نمواً بمعدل يقل عن نصف معدل نمو الوظائف الإجمالية. والأكثر لفتاً للنظر أن حصة قطاع الصناعة من إجمالي القوى العاملة بلغت 8.1% فقط، ما يقارب أدنى مستوياتها التاريخية، مع تراجع عدد العاملين في القطاع بمقدار 87000 شخص مقارنة ببداية 2024.
تصدر قطاع الصلب اهتمام البيت الأبيض أكثر من كافة الصناعات الأخرى خلال السنوات الثماني الماضية. وقد منع بايدن في يناير بيع شركة الصلب الأميركية (يو إس ستيل) إلى شركة “نيبون ستيل” (Nippon Steel) اليابانية لدواعي الأمن القومي، بعدما استخدم ترمب هذه الذريعة ليفرض رسوماً جمركية قدرها 25% على واردات الصلب في 2018، ووعد حديثاً أن الرسوم الجمركية ستحدث انتعاشة جديدة لقطاع الصلب في البلاد.
لكن هذه السياسة الحمائية لم تسهم إلا في خلق 1100 وظيفة إضافية فقط في قطاع الصلب منذ تبوأ ترمب الرئاسة أول مرة، أي ما يوازي تقريباً عدد الوظائف التي يخلقها مركز توزيع واحد لشركة “أمازون”.
تفاوت في مستويات المعيشة
لم تنجح المقاربة الشعبوية لأي من ترمب أو بايدن في الحدّ من التفاوت التاريخي في الدخل بين الأميركيين، وهو ما ينطبق أيضاً على الثروات. يشكل الأميركيون الذين لم يتجاوز تحصيلهم العلمي الشهادة الثانوية نحو ثلث سكان البلاد، لكنهم يحوزون أقل من 8% من الثروة، أي 5 تريليونات دولار من قيمة الثروة المكتسبة منذ 2016 وقدرها 70 تريليون دولار، بحسب بيانات الاحتياطي الفيدرالي. في المقابل، يملك خريجو الجامعات، الذين يشكلون نسبة مماثلة، أكثر من 80%، أو 57 تريليون دولار، من تلك المكتسبات.
هذا التباين الناجم عن المستوى التعليمي ينعكس أيضاً على الإحصاءات الصحية، إذ يتجلى إخفاق الشعبوية الأميركية بوضوح دامغ. لقد وثّق الباحثان الاقتصاديان من جامعة برينستون آن كايس وأنغوس ديتون كيف أن الأميركيين من حملة الشهادات الجامعية يعيشون حياة أطول بشكل ملحوظ من مواطنيهم من مستويات تعليمية أدنى، الذين يزيد انكشافهم على ما يصفه الباحثون بـ”الموت بسبب اليأس”، أي لأسباب كالانتحار أو الإدمان على الكحول أو جرعة مفرطة من المخدرات.
تظهر آخر البيانات الصادرة عن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أن نحو 25000 أميركي قضوا بسبب جرعات مفرطة من المخدرات خلال 12 شهراً حتى يوليو 2024 مقارنة بالعام الذي تولى فيه ترمب منصبه في يناير 2017.
اقرأ أيضاً: سياسات ترمب الاقتصادية يجب ألا تقتصر على الحنين إلى الماضي
لقد وقعت كثير من حوادث “الموت بسبب اليأس” هذه في ما يسميه الاقتصاديون وعلماء السياسة “المقاطعات المهملة” التي تضررت من تراجع التصنيع وتحملت أعباء العولمة والأتمتة. وعد ترمب عند ترشحه للرئاسة في 2016 بمدّ هذه المناطق التي تنازع بحزمة حوافز من التخفيضات الضريبية والاستثمارات في البنى التحتية والرسوم الجمركية المصممة لتشجيع الشركات المصنعة على إعادة توطين سلاسل الإمداد داخل الولايات المتحدة.
أبقى بايدن على الرسوم الجمركية التي أقرّها ترمب، وأضاف إليها أموراً أخرى مصممة لمساعدة الصناعيين على إعادة توطين سلسلة الإمداد في الولايات المتحدة، مثل الدعم الاتحادي لتحفيز الشركات على بناء مصانع مكلفة لصناعة أشباه الموصلات والمركبات الكهربائية ومعامل البطاريات.
لكن مركز الأبحاث “مجموعة الابتكار الاقتصادي” (Economic Innovation Group) خلُص في دراسة نُشرت الصيف الماضي في واشنطن أن 972 مقاطعة، صنّفها ضمن فئة “المقاطعات المهملة”، ما تزال منذ عام 2016 متخلفة عن باقي البلاد من حيث عدة مؤشرات، مثل التوظيف ونمو السكان وتأسيس الأعمال. كما كشف تحليل أعدته بلومبرغ نيوز استناداً إلى بيانات اتحادية، أن نحو 30 مليون شخص يعيشون في مقاطعات لم يتعافَ إنتاجها الاقتصادي إلى مستويات ما قبل الجائحة بحلول نهاية 2023.
فيما يلوم كلا الطرفين الآخر على عدم تحقيق تقدم كافٍ، نجد أنهما تبنيا بشغف سياسات حمائية، سواء من خلال الرسوم الجمركية أو الإعانات الصناعية، متخلين عن عقود من الإجماع النيوليبرالي الذي اعتبر العولمة وعدم التدخل الحكومي من الركائز الأساسية للازدهار الوطني.
استهدف الطرفان الاقتصاد الصيني على أنه خصم. واليوم، تجد على الساحة السياسية الأميركية شخصيات من التيارات اليمينية واليسارية على حدّ سواء، تندد بسطوة قطاع التقنية، وتطالب بقيود أكبر على التجارة والاستثمار الأجنبي، كل ذلك باسم مصلحة الطبقة العاملة.
اقرأ أيضاً: ما هي “تجارة ترمب” وكيف ستؤثر على اقتصاد أميركا؟
تجاهل المنتقدين
هذا الأمر ليس بجديد، فإذا ما تعمقت في التاريخ الأميركي، ستجد أن الحزبين الرئيسيين كثيراً ما انخرطا في نوع من الشعبوية الاقتصادية. فمن أندرو جاكسون مروراً بثيودور روزفلت وصولاً إلى قريبه فرانكلين روزفلت وبرنامجه “الصفقة الجديدة”، لرؤساء أميركا تاريخ طويل في تحدي المنظومة. لكن المختلف في ما يحدث اليوم هو أن السياسات الشعبوية التي يسوّق لها الجمهوريون، كما الديمقراطيون في واشنطن أبعد ما تكون عن الهموم الاقتصادية الحقيقية للأميركيين، الذين قد لا تعنيهم نوعية الوظائف الصناعية بقدر أسعار المواد الغذائية والكلفة الباهظة للرعاية الصحية وشحّ المنازل المتوفرة بأسعار في متناولهم.
كتب الخبير الاقتصادي في جامعة هارفرد داني رودريك قبل فترة وجيزة: “في اقتصاد 8% من عماله فقط ينشطون في قطاع الصناعة، السياسة التي تعد بإعادة بناء الطبقة الوسطى من خلال إعادة التصنيع إلى الوطن لا يكفي وصفها بأنها غير واقعية فهي أيضاً فارغة”.
اقرأ أيضاً: الشركات ترى نهضة التصنيع التي يعد بها ترمب غير واقعية
وحذر عدد آخر من الاقتصاديين من أن ما تعهد به ترمب من زيادة الرسوم الجمركية وخفض الضرائب، إلى جانب حملات الترحيل الضخمة، سيتسبب على الأرجح بأضرار اقتصادية من حيث تأجيج التضخم، وما سيتبع ذلك من تباطؤ في النمو ومراكمة مزيد من الديون الحكومية، وقد حذر عدد مماثل من خبراء الاقتصاد من أن حزمات التحفيز الاقتصادي في عهد بايدن ستفاقم التضخم. لكن كما بايدن، ردّ ترمب بأسلوب شعبوي، متجاهلاً المنتقدين الذين اعتبر أنهم ينتمون إلى نخبة فقدت مصداقيتها.
بعد أربع سنوات، ستصبح في يدنا البيانات اللازمة لقياس مدى نجاح المرحلة المقبلة من هذا المشروع الشعبوي، ولكن ما شاهدناه حتى الآن ليس مشجعاً.