كيف ستتكيف الصحافة مع عصر الذكاء الاصطناعي؟
بقلم رئيس تحرير بلومبرغ John Micklethwait
نحن الصحفيون مجبولون بالارتياب، فترانا دائمي القلق من أن هناك شخصاً ما في مكان ما، ربما الحكومة أو محام أو زميل أو حتى قسم تقنية المعلومات، يريد بنا أو بتقاريرنا سوءاً.
لقد فاقمت أحداث القرن الواحد والعشرين هذه الريبة. حمل واحد من أغلفة مجلة “ذا إكونوميست” الأولى بعدما توليت رئاسة تحريرها في 2006 عنوان: “من قتل الصحافة الورقية؟” كانت الإنترنت حينئذ تقوض النموذج التجاري التقليدي الذي ركز على احتكار الإعلانات المبوبة، واعتمدته معظم الصحف الكبرى في المدن.
لكن عند النظر إلى ما سلف الآن، يبدو ما حدث أقرب إلى “الانتحار” منه إلى “القتل”. سقطت كثير من وسائل الإعلام الجيدة في فخّ خطاب قطاع التقنية الذي روّج لفكرة أن زمن “وسائل الإعلام التقليدية” ولّى إلى غير رجعة وأن المحتوى يجب أن يكون مجانياً. هكذا، سرعان ما وجدت هذه المؤسسات نفسها عالقة في دوامة مفرغة من السعي خلف النقرات وخفض التكاليف، وراحت تتخلى عن أعمالها تدريجياً لصالح عمالقة التقنية.
لكن كانت الغلبة للمنطق في النهاية، فشرعت الصحف بتقاضي رسوم من قرائها، وبدأت وسائل الإعلام التقليدية تتعافى. صحيفة “نيويورك تايمز” مثلاً التي لم يكن لديها إلا نصف مليون مشترك رقمي حين ترأسها مارك تومسون في 2012، وراح يركز على بيع الاشتراكات، بات لديها اليوم أكثر من 10 ملايين مشترك.
أمّا الأصوات التي كانت تروّج في السابق لمنطق “المحتوى المجاني” فقد خفتت اليوم بعدما قادت كثيراً من الأسماء الكبرى لتسقط وتتحطم على صخور الهاوية.
حتى أن المنافسين الجدد، مثل “ذا أنفورميشن” (The Information) و”باك” (Puck) و”فري برس” (Free Press)، رغم أن اسم الأخيرة قد يوحي أنها مجانية، يعلمون أن القراء سيدفعون مقابل المحتوى عاجلاً أم آجلاً.
اقرأ أيضاً: المجلات الورقية تعود للحياة في 2024
تأثير الذكاء الاصطناعي
ما كادت الصحافة الجادة تتأقلم مع الواقع الجديد الذي أحدثته الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حتى ظهر تحدّ أكبر: الذكاء الاصطناعي.
يعد الذكاء الاصطناعي بإحداث تحول عميق في قطاعنا، فيغير الطريقة التي نكتب فيها القصص ونحررها، ويتحدانا كما يتحدى غيرنا من العاملين في مجالات المعرفة، من محامين أو كتاب سيناريو أو محاسبين.
كيف ستتجلى فصول هذه الثورة بالضبط؟ لا بدّ من إبداء التواضع قبل أن أدلي بتوقعاتي. حين توليت مجلة “ذا إيكونوميست”، لم تكن لدي أدنى فكرة أن شركة تدعى “تويتر” تأسست قبل 10 أيام فقط، ولكن بحلول انتقالي إلى “بلومبرغ” بعد تسع سنوات، كانت “تويتر” من حيث الأثر قد أصبحت أكبر صحيفة في العالم. لذا، لا بدّ لأي محرر، وأنا منهم، الحذر من تقديم الأمور على أنها حقائق يقينية.
مع ذلك، أعتبر أن غرفة أخبارنا في بلومبرغ تقدم مختبراً جيداً لتقييم المعطيات التي قد تؤشر إلى الطريقة التي ستسير فيها الأمور في المستقبل. ويعود ذلك في جزء منه إلى استخدامنا التقنية أكثر من أي مكان آخر، بما يشمل النسخ الأولية من الذكاء الاصطناعي. إذ نعتمد نوعاً من الأتمتة في أكثر من ثلث الأخبار الـ5000 التي ننتجها يومياً. كما يعزى ذلك إلى أن جمهورنا أقرب إلى نموذج مستهلكي الأخبار المتطلبين المستقبليين. فقراؤنا يتعاملون بملايين الدولارات بناء على ما نكتبه، لهذا فالدقة والحياد مهمان جداً لهم، ولكن الوقت قيّم أيضاً. يكره قراؤنا ومشاهدونا ومستمعونا أن نضيع وقتهم، وكما سنرى، فإن توفير الوقت جزء أساسي ممّا يقدمه الذكاء الاصطناعي.
أدناه مثالان عمّا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام به:
كشف الأنماط وتقديم تلخيصات
المثال الأول هو تقرير كنا قد نشرناه يسلّط الضوء على طريقة تهريب النفط الإيراني، ونقله من سفينة إلى أخرى. نظراً لاتخاذ المتورطين في هذه العمليات كافة التدابير لتجنب اكتشافهم، طوّرنا خوارزمية تحلل صور الأقمار الاصطناعية لتبيان الأوقات التي كانت فيها سفينتان على مقربة من بعضهما. هكذا، رصدنا 2006 حالات مشبوهة لسفن ترسو متجاورة على مدى 566 يوماً كانت السماء فيها صافية بين بداية يناير 2020 و4 أكتوبر 2024، ما مكّن صحفيينا من التحقيق بشأنها.
الذكاء الاصطناعي جيد جداً في التعرّف على الأنماط؛ فهو قادر على تصنيف أكوام من الصور أو الوثائق أو البيانات حين تكون الكميات كبيرة جداً وغير واضحة بالنسبة للإنسان. تقول أماندا كوكس، كبيرة الصحافيين المتخصصين في البيانات لدى بلومبرغ، إن أفضل توصيف للنماذج اللغوية الضخمة هو أنها أشبه بـ “عدد لا متناهي من المتدربين”. صحيح أنه لا يمكن دائماً الوثوق بالنتائج التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، لكن، مثل المتدربين البشر، تتحسن الآلة يوماً بعد يوم، حيث ستتطور من مستوى ذكاء الأطفال في 2020 إلى مستوى أقرب لطلاب درجة الدكتوراه، مع التحديثات المقبلة لـ “تشات جي بي تي” وأخواته، أقله على صعيد بعض المهام المحددة.
يحب معظم الصحفيين الذكاء الاصطناعي حين يساعدهم على أمور من قبيل كشف عمليات تهريب النفط الإيراني، فمن السهل التسويق للصحافة الاستقصائية داخل غرفة الأخبار. ولكن إقناعهم بالمثال الثاني أصعب قليلاً. خلال الأشهر الماضية، بدأنا باختبار إعداد ملخصات بالذكاء الاصطناعي لبعض القصص الطويلة على “بلومبرغ ترمينال”.
يقرأ البرنامج القصة ويستخلص ثلاث نقاط رئيسية، وقد لقيت هذه الخدمة إعجاب الزبائن بما أنها تتيح لهم الاطلاع سريعاً على موضوع أي مقالة. لكن الصحفيين مرتابون بشأنها، فهم يخشون أن يكتفي الناس بقراءة الملخص بدل التقرير الكامل. وبصراحة، نعم، قد يكتفي القارئ بالملخص. ولكن هل كنت لتفضل أن يضيّع وقته في المرور سريعاً على فقرات موضوع لا يهمه؟ برأيي، هذه الملخصات تساعد القارئ بحال استخدمها بشكل صحيح، كما أنها توفر وقت المحررين.
إذاً، بالاستناد إلى مختبرنا، ما الذي أعتقد أنه سيحدث في عصر الذكاء الاصطناعي، أدناه 8 توقعات:
أولاً، الذكاء الاصطناعي سيغير طبيعة عمل الصحفيين أكثر من أنه سيحلّ مكانهم
لنأخذ مثالاً بسيطاً، هو تغطية إعلانات أرباح الشركات. حين انضممت إلى بلومبرغ، كان لدينا فريق من الصحفيين الذين يطبعون بسرعة، يُعرف بفريق “سبيد” (speed). كانوا يصيغون العناوين السريعة، على أمل أن نسبق أقرب منافسينا ببضع ثوان. ثمّ ظهرت الأتمتة، أي أجهزة كمبيوتر قادرة على مسح كامل بيان صحفي صادر عن شركة في ظرف جزء من الثانية. خشي البعض من فقدان وظائفهم، لكن سرعان ما تبين أن الآلات تحتاج إلى البشر. أولاً، لتوجيهها نحو ما يجب أن تبحث عنه، مثل أن عدد هواتف “أيفون” المباعة في الصين قد يكون أهمّ لتحديد سعر سهم “أبل” من الدخل الفعلي. وثانياً، لتفسير الأحداث غير المتوقعة، مثلاً إذا كانت لاستقالة رئيس تنفيذي دلالة مهمة أم لا.
ما زلنا نوظف عدد الأشخاص نفسه تقريباً لتغطية أخبار الأرباح، ولكن عدد الشركات التي نغطي أرباحها وعمق التغطية، ارتفعا بشكل كبير. بإمكاني القول حتى إن العمل أصبح أمتع، فلم يعد يقتصر على الطباعة السريعة، بل يتطلب أيضاً إدراك الأمور المهمة.
يمكن أن يحدث الأمر ذاته مع الذكاء الاصطناعي، بحيث يتيح مضاعفة حجم المحتوى الذي ننتجه. على سبيل المثال، قد يكون المكتب الإخباري منشغلاً جداً، وليس لديه الوقت الكافي لتقديم شرح حول سقوط بشار الأسد في سوريا. لكن ماذا لو أمكنك استخدام خوارزمية تحلل أربع قصص إخبارية عن الأحداث الجارية؟ ستحصل في غضون ثوان على مسودة أولية جاهزة يمكن لأحد الصحفيين العمل عليها.
يمكن أيضاً مضاعفة حجم المحتوى من خلال الترجمة الآلية، التي تسهم في إيصال عدد أكبر من القصص الإخبارية إلى جمهور أوسع، وتمكّن الصحفيين في المؤسسات العالمية من الكتابة بلغتهم الأم.
ثانياً، الأخبار العاجلة ستبقى ذات أهمية عظمى ولكن لفترات أقصر
لا تظهر الأخبار أي بوادر على تراجع قيمتها، في وقت أصبحت التحولات السياسية تضاهي التحولات الاقتصادية أهمية. ففي كلّ مرة نكشف عن تغير في السياسات في واشنطن أو باريس أو بكين، نرى أسواق العملات تتفاعل على الفور. لكن الأهم هو أن الزمن الذي تظل فيه هذه الأحداث تصنّف كـ”خبر” يتقلص باستمرار.
فيما خصّ الإعلانات الكبرى التي تصدر في موعد محدد، مثلاً تلك المتعلقة بالتوظيف في الولايات المتحدة، لطالما كان السباق على نشر الخبر بفارق بضعة أعشار من الثانية، وغالباً ما نتسابق مع صناديق التحوط التي تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها من أجل قراءة الأرقام بسرعة تضاهي سرعتنا. بالنسبة للأخبار حول أحداث غير متوقعة، مثل عملية استحواذ أو استقالة رئيس تنفيذي، فمن الأصعب قياس تأثيرها. لكن انطلاقاً من تقدير شخصي غير علمي، أرى أن الزمن الذي تحتاجه هذه الأخبار لتحريك الأسعار تقلص خلال فترة عملي في بلومبرغ من عدة ثوان إلى أجزاء من الثانية.
سيسرّع الذكاء الاصطناعي هذه العملية أكثر، ويجعلها أكثر شمولية. سيعتمد الكثير على طريقة إبرام الاتفاقات حول حقوق النشر، ولكن الاحتمال الأرجح أن كميات متزايدة من الأخبار ستعالج فوراً من خلال آلات مثل “تشات جي بي تي” التي تدرس أكثر من سوق واحدة، وتضاف إلى ما يعرف بالمعرفة العامة الفورية. وستكون بمتناول الجميع، أو أقله بمتناول مجموعة أوسع من الناس.
اقرأ أيضاً: “أوبن إيه آي” للذكاء الاصطناعي تقدم للصحافة عرضاً يصعب رفضه
ثالثاً، العمل الصحفي سيحافظ على أهميته
ترتكز معظم الأمور التي ذكرتها حتى الآن إلى الحاجة إلى التقارير الإخبارية. فجودة الملخص الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي مرتبطة بجودة الخبر الذي يعتمد عليه، ويبقى الإنسان أساسياً من أجل الحصول على الخبر. فالآلة لا تستطيع إقناع وزير في الحكومة بإخبارها أن رئيس الوزراء استقال لتوّه، ولا يمكنها دعوة رئيس تنفيذي إلى العشاء، ولا كتابة مقال أصلي أو إقناع شخص بأن يقرّ بأمر ما خلال مقابلة على الهواء.
الأهم من ذلك، أن غرف الأخبار ستظل بحاجة إلى صحفيين ميدانيين، خاصة في عالم لم يعد يمكن فيه الافتراض أن دولاً ناشئة مثل إندونيسيا أو الهند ستتبع النموذج الغربي للحرية. ومع محاولات دول عديدة التضييق على الصحافة، ستظل بحاجة إلى أناس لديهم شبكة علاقات واسعة.
التغيير الأكبر قد يطال عمل المحرر أكثر من الصحفي
إن جزأنا معظم مهام مسؤولي التحرير إلى مجموعات من المهارات. نبدأ من إدارة فريق من الصحفيين. لن يفاجئك تفاخري بأن غرف الأخبار ستظلّ بحاجة إلى أشخاص مثلي. يلي ذلك اختيار القصص، أعتقد أن هذه المهارة ستظل مناطة بالبشر إلى حد كبير، رغم أننا في بلومبرغ نستخدم الذكاء الاصطناعي بالفعل لتوجيهنا نحو بعض القصص (مثل تنبيهنا عندما يقفز سعر سهم ما أو عندما يثار نقاش على وسائل التواصل الاجتماعي حول انفجار ما).
لكن بمجرد تسليم الخبر، وفي مرحلة تعديل الكلمات على الشاشات، أعتقد أنك ستلاحظ أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستضطلع بدور أكبر، سواء في ترتيب المسودات أو إعادة كتابتها، أو التأكد من الحقائق وغيرها من المهام. لا أتحدث عن كفاءة تحرير من المستوى الذي تراه في مجلة “نيويوركر” مثلاً، لكن في الواقع كثير من التقارير الإخبارية لها قوالب.
خذ على سبيل المثال تقريراً رياضياً عن مباراة كرة قدم. بعد خمس سنوات من الآن، يمكن أن ترسل صحفية بريطانية تقريرها عن مباراة في “استاد كينغ باور” إلى محررها في لندن. في غضون ثانية، ستتلقى هي والمحرر نسخة معدلة من التقرير، يتضمن تدقيقاً في الأخطاء الإملائية وتوافق النص مع أسلوب الصحيفة، إلى جانب استفسارات حول بعض الخلاصات المحيّرة الواردة فيه، من قبيل “لماذا قالت الصحفية إن (ليفربول) سيطر على المباراة بينما فريق (ليستر) استحوذ على الكرة في 51% من الوقت؟”، وستضاف الصور ومقاطع الفيديو، وكذلك روابط للاعبي “ليستر” الأربعة الذين سجلوا الأهداف. اليوم، قد يبدو هذا المثال غير قابل للتصديق لعدة أسباب، خاصة بالنسبة لمتابعي كرة القدم. لكنني أعتقد أنه يرسم صورة حول كيف سيغير الذكاء الاصطناعي على الأرجح وظيفة المحرر أكثر من وظيفة الصحفي.
خامساً، عالم البحث سيتحوّل إلى أسئلة وأجوبة
فيما تستوعب أدوات تلخيص المعلومات من مصادر متعددة، مثل “تشات جي بي تي” و”بيربليكسيتي” (Perplexity) مزيداً من القصص، ستبدأ باستخدامها لتبين إجابتها. يمكنك ملاحظة ذلك منذ الآن حين تطرح سؤالاً على “جوجل”. فبدل أن يعطيك قائمة طويلة من الروابط التي تقودك إلى قصص أخرى، ستحصل على إجابة من عدة جمل، أحياناً تصل إلى فقرة. يقول زميلي كريس كولينز الذي يرأس فريق المنتجات في بلومبرغ نيوز إن خاصية البحث كما نعرفها قد تختفي إلى الأبد.
سيكون لهذا التحول تأثير كبير على الشركات التي تعتمد على إعلانات البحث ونسبة مشاهدة المحتوى. فاليوم، عندما ينقر المستخدم على رابط معين، قد يحصل الناشر على بضعة سنتات من أحد المعلنين. لكن مع تزايد طول الإجابات المقدمة مباشرة من محركات البحث (أو محركات الإجابة كما يمكن تسميتها)، هذه النقرات ستتوقف.
هذا سبب آخر يؤكد على أهمية أن تبني المؤسسات الإخبارية الجادة نموذجاً تجارياً مستداماً قائماً على الاشتراكات، وأن تستثمر في علاقات طويلة الأمد مع مجموعة مخلصة من القراء. كما تبرز الحاجة إلى تنظيم حقوق النشر، فنحن في أمس الحاجة لكي يوضح المشرعون والمحاكم ما يمكن وما لا يمكن استخدامه مجاناً.
سادساً، معالجة هلوسات الذكاء الاصطناعي أسهل في النصوص مقارنة بالمقاطع المصورة أو الصوتية
حين تناقش مسألة الذكاء الاصطناعي مع الصحفيين، سيتطرق أحدهم على الأرجح إلى مسألة “الهلوسات”، أي فكرة أن الآلة قد تخترع قصة أو تُضلَل حتى تخترع قصة. لا مفرّ من حصول بعض الأخطاء مع اتساع استخدام الذكاء الاصطناعي، في وقت يوجد كثير من الأشخاص حول العالم يعتقدون أن بإمكانهم تحقيق مكاسب تجارية أو سياسية عن طريق خداعنا. ولكن حدسي ينبئني أن الخطر الرئيسي في المستقبل القريب سيكون استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء مقاطع فيديو أو صوتية مزيفة تشوّه أو تضخم عن سوء نية حدثاً وقع فعلاً، بدل اختلاق أحداث مزيفة بالكامل.
يرتبط جزء كبير من ذلك بالتداخل بين البشر والآلة. قبل بضع سنوات، تابعت كيف تعامل فريقنا في قسم الأخبار العاجلة مع حادثة إطلاق نار داخل قطار أنفاق. كانوا قد رصدوا أحاديث عبر وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى حدوث أمر سيئ، وانتشر الأمر عبر الإنترنت، ولكن لم يؤكدوا الخبر إلا بعد أن سمعوه من مصدر بشري موثوق، وفي هذه الحالة كان شاهداً من موقع الحادث.
لكن الأصعب تأكيد صدقية مقطع مصور أو صوتي. في حادثة إطلاق النار في قطار الأنفاق، انتشرت صورة مروعة على وسائل التواصل الاجتماعي لشخص يبدو ميتاً. لكن هل كانت الصورة حقيقية؟ أم أنها مختلقة؟ يصعب التحقق من ذلك حين يكون الوقت ضيقاً. يجب عليك مقارنة الصورة مع صور محطة قطار الأنفاق، وفحصها للتحقق مما إذا كانت بعض البيكسلات قد حُركت، وما إلى هنالك. ربما يساعد الذكاء الاصطناعي في تسهيل اقتلاع المقاطع المصورة أو الصوتية المزيفة، لكن حتى الآن، معظم الأمثلة التي شاهدتها كانت للاختلاقات الأهم.
ملاحظة على الهامش، فيما يتعلق بـ”الأخبار المزيفة”، من الجدير بالذكر أن الأنظمة السياسية التي كانت تروج للأكاذيب في الماضي أصبحت الآن تتخصص في إخفاء الحقيقة وراء ضباب من معلومات مزيفة بدلاً من الإصرار على كذبة واحدة. في السابق، على سبيل المثال، كانت صحيفة “برافدا” ببساطة تنشر كذبة ثم تكررها. أما الآن، عندما يحدث شيء لا يرضي الكرملين (مثل إسقاط طائرة أو خسارة معركة)، ينشر الجيش الإلكتروني الروسي مجموعة روايات محتملة، بهدف التضليل.
اقرأ أيضاً: دراسة: الناس أكثر انخداعاً بالأخبار المغلوطة بعد البحث عنها
سابعاً، التخصيص سيصبح ملموساً أكثر
مجدداً، ما سأقوله هو مجرد ما ينبئني به حدسي. لقد أصبح التخصيص أحد الأهداف الرئيسية للصحافة الرقمية. تخيّل ألا تصلك إلا الأخبار التي تحتاجها، ستشعر كما لو باتت لديك صحيفتك الشخصية المصممة وفقاً لاهتماماتك. طريقة إنجاز ذلك ما تزال تفتقر للإتقان. فلا يحبذ كثير من الناس مشاركة معلومات عنهم مع المؤسسات الإخبارية، حتى لو بدا لهم أن ذلك لمصلحتهم.
كما أن بعض القراء قد يشعرون بالارتياب عند تلقيهم اقتراحات، وقد يقلقون من أن يحصرهم ذلك ضمن اتجاه واحد من الآراء. كما قد يفتقدون إلى عفوية العثور على قصة إخبارية لم يتوقعوا أن تثير اهتمامهم. الأمر أشبه بالفرق بين زيارة مكتبة تقليدية، حيث يمكنك أن تتجول ثم تقع على رواية تلفت نظرك، وبين تلقي اقتراحات عبر “أمازون”.
سيبدأ الذكاء الاصطناعي بحلّ هذه المسألة. فالخوارزميات بارعة في اكتشاف ما قد يثير اهتمامك، ورصد الأنماط التي يمكن أن تفوت البشر. ذلك “العدد اللا متناهي من المتدربين” قادر على كشف الروابط بسلاسة أكثر من الخدمات الحالية التي تعرض المحتوى الإخباري الذي قد يهمك، والتي إمّا تفيض بالأخبار أو تفوّت عليك حديث الساعة.
لكن لتخصيص المحتوى الذي يتنبأ باهتماماتك جانب مظلم أيضاً. فالخوارزمية نفسها التي تتنبأ أن دورة تدريبية عن البستنة ستعجبك، قد تقود مراهقاً تخلت عنه صديقته إلى مقاطع فيديو عن الانتحار.
حتى اليوم، لا تتحمل شركات التواصل الاجتماعي مسؤولية المحتوى المنشور عبر منصاتها بالطريقة نفسها التي يتحملها محرر مثلي. فبسبب قوانين، منها “القسم 230” الشهير في الولايات المتحدة، تُعامل شركات التقنية العملاقة على أنها شركات اتصال أكثر ممّا هي شركات إعلامية. فهي مسؤولة عن الشبكات وليس المحتوى الذي يمرّ عبرها.
هذه الحجة أصبحت واهية، وأعتقد أنها ستضعف أكثر كلما زادت قوة الذكاء الاصطناعي. شركات التبغ مثلاً، تحججت طوال عقود بأن منتجها ليس ما يسبب الوفيات، لأن التدخين قرار شخصي، ولكن سقطت هذه الحجة في نهاية المطاف. وأعتقد أن عمالقة التقنية سيخسرون هذه المعركة أيضاً، فيمكن لأي أم وأب الحديث عن إدمان أولادهم على منتجات هذه الشركات، ما يقودني إلى تنبؤي الثامن والأخير:
القيود الناظمة في طريقها إلينا
سيجد السياسيون حول العالم أن الذكاء الاصطناعي أصبح معقداً وقوياً ومتطفلاً وأميركياً بإفراط (بالنسبة للذين يعيشون خارج الولايات المتحدة)، لدرجة لم يعد بإمكانهم تركه بلا تنظيم. في تسعينات القرن الماضي، أراد الساسة الأميركيون تحرير شركات الإنترنت الناشئة حتى تتمكن من الابتكار. لكن اليوم، ما عاد أحد يظن أن شركات مثل “أمازون” و”مايكروسوفت” و”فيسبوك” بحاجة إلى حماية من أحد. بل على العكس، أصبحت هذه الشركات مطالبة بما هو أكثر من مجرد الامتثال إلى القوانين. فالمجتمع لا يحبذ منح الشركات أي امتيازات، مثل المسؤولية المحدودة، إلا حين تكون صورتها إيجابية. يمكن لكثير من الشركات، وحتى قطاعات كاملة أن تخسر تأييد المجتمع لها، فتتحول من كونها مبتكرة بارعة إلى “ثرية فاسدة”، وهو المصطلح الذي استخدمه ثيودور روزفلت حين أصدر قوانين مكافحة الاحتكار من أجل وصف الصناعيين ورجال الأعمال في الولايات المتحدة في القرن الماضي الذين جمعوا ثرواتهم بطرق مريبة.
يمكن ملاحظة الأمر نفسه يحدث مع عملاقات التقنية. في الولايات المتحدة، المشهد السياسي معقد، فرغم أن المشرعين قد لا يكونوا معجبين بشركات التقنية، إلا أنهم ما يزالون يعتبرون أنها أحد أسباب تفوق الولايات المتحدة الاقتصادي على الصين. ولكن الوضع يختلف في بروكسل، بالأخص حين يتيقظ الساسة الأوروبيون لمدى تأخر القارة في سباق الذكاء الاصطناعي. وعلى قول أحد رجال الأعمال: “أميركا تبتكر، الصين تقلد، أوروبا تنظم”.
تفاؤل حذر
هذه توقعاتي بشكل عام. ولكن تذكر ربما فاتني هذه المرة أيضاً نظام ذكاء اصطناعي جديد نشأ قبل عشرة أيام، كما فاتتني “تويتر” من قبل. ولكن ما سيكون تأثير هذه التوقعات الثمانية على عالمنا وعلى المهنة التي أعمل فيها منذ عام 1987؟ أعتقد بإمكاننا الشعور بنوع من التفاؤل ولو مع قدر من الارتياب.
الارتياب لأن ليس صعباً تخيل كيف يمكن أن تتدهور الأمور، فقد يزداد حجم المحتوى المزيف، وتجد الصحافة نفسها بين مطرقة التدخل السياسي وسندان القوى التقنية العظمى، ويفقد كثير من العاملين في الغرف الإخبارية وظائفهم لأن الآلة تصبح قادرة على تحرير المقالات. وفي أسوأ الأحوال، يمكن للحكومات في دول مثل الصين وروسيا أن تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقيد الصحافة المستقلة أكثر، وملاحقة مصادرنا، وفرض الرقابة على ما نفعل، وإنشاء شبكات معقدة من الأخبار المزيفة.
ولكن في مرحلة ما، سيلمع ضوء تفاؤل في نهاية النفق. فلنعد إلى تقريرنا حول السفن الإيرانية. توفر لنا هذه التقنية مزيداً من الطرق لكشف الأنماط وتحميل المسؤولية للمتنفذين، بينما في الماضي، كانت دول برمتها تبدو عصية على المساءلة. اليوم، تُلتقط صور للسياسيين في كلّ مكان، غالباً ما تظهرهم وهم يقومون بأعمال غبية. وعلى حد قول المؤرخ تيموثي سنايدر: “مهما بلغت ظلمة الشر، تبقى هناك زاوية يمكن أن ينيرها مصباح سخرية صغير”.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في دحض نظريات المؤامرة
أنا متفاؤل أيضاً لأن قطاعنا جاهز بشكل أفضل للتعامل مع التقنية هذه المرة. فالمحررون والناشرون حذرون من الذكاء الاصطناعي أكثر ممّا كنا عليه مع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ولسنا مستعدين للتخلي عن محتوانا لصالحه بسهولة، بالتالي التحول نحو الجودة سيكون أسرع.
استخدم عبارة “هذه المرة” لأننا كثيراً ما نخطئ في الاعتقاد أننا أول جيل من الصحفيين يواجه تحولات التقنية. ولكن ما حصل حتى الآن في هذا القرن (وعلى وشك أن يحصل مرة أخرى) ما هو إلا قصة قديمة تتكرر عن تقنية جديدة تمهد لحقبة من الجنون والفوضى، قبل أن تعود الأمور لتستقرّ.
في بداية القرن التاسع عشر، أتاح ظهور الطباعة البخارية إصدار منشورات وأخبار فضائح بكميات ضخمة، وبات من السهل نشر أي شيء عن أي شخص. كانت “نيويورك صن” عملاقة الصحافة الشعبية في ذلك الوقت، وأصبحت بسرعة الصحيفة الأكثر مبيعاً في العالم. إحدى أشهر سلاسلها الاستقصائية ادعت اكتشاف بواسطة تلسكوب ضخم يصعب تحديد مكانه، أن القمر كان مأهولاً بكائنات غريبة، ومنها مخلوقات نصفها بشر والآخر خفاش وقد بنت معابداً.
استقرّت الأمور تدريجياً مع الوقت. فضّل سكان نيويورك دفع المال للحصول على أخبار مفيدة عن العالم الحقيقي، فيما فضلت شركات السلع الاستهلاكية الإعلان عن منتجاتها بجانب قصص ذات مصداقية. ثمّ ظهرت صحف ومجلات مثل مجلة ” ذا إيكونوميست” التي تأسست في 1843، ثم صحيفة “نيويورك تايمز” ووكالة “رويترز” في 1851، و”فاينانشال تايمز” في 1888، “وول ستريت جورنال” في 1889. وبهذا حصل التحوّل نحو الجودة.
طالما نركز على إعداد تقارير أصيلة، ونكتب قصصاً لا يرغب أصحاب السلطة أن ننشرها، أو تسلط الضوء على حقائق جديدة عن العالم، وننجز ذلك بشجاعة ودون انحياز أو محاباة، فسنكون بخير.