البنوك السعودية ترفع إصداراتها من الديون إلى مستوى قياسي
يُتوقّع أن تسرّع البنوك السعودية وتيرة إصداراتها للديون إلى مستوى قياسي جديد هذا العام، لتلبية الطلب المتنامي على القروض، لا سيما لتمويل المشاريع، وتنويع مصادر الأموال، وسط شح السيولة الناجم بشكلٍ أساسي عن مضاهاة الودائع للقروض تقريباً خلال السنوات الأخيرة.
منذ بداية العام حتى منتصف نوفمبر، وصل حجم إصدارات الديون من جانب البنوك السعودية إلى ما يناهز 14 مليار دولار، وفق تقرير أعدّه كبير المحللين في “بلومبرغ إنتلجنس” إدموند كريستو.
هذه التقديرات لم تتضمن إعلانات الديون الجديدة، حيث كشفت ثلاثة بنوك سعودية، في نوفمبر، عن إصدارات صكوك، إذ يستهدف البنك السعودي “الأول” طرح صكوك بالريال ضمن برنامج بقيمة 20 مليار ريال. بينما جمع البنك “الأهلي” 6 مليارات ريال من طرح بالعملة المحلية. في حين أعلن بنك “الاستثمار” الانتهاء من طرح صكوك مقوّمة بالدولار بقيمة 750 مليون دولار ستُدرج في لندن.
مشاريع بمئات المليارات
يشير كريستو إلى أن الإنفاق على المشاريع في السعودية سيصل إلى نحو 708 مليارات دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، استناداً إلى المشاريع التي جرى ترسيتها وفق بيانات “ميد” لشهر سبتمبر. ما يعني أن البنوك قد تحتاج إلى 400 مليار دولار خلال تلك الفترة، في حال موّلت 60% من المشاريع المخطط لها عبر استخدام مزيج من الودائع والمزيد من الديون.
ورفعت “بلومبرغ إنتلجنس” الشهر الماضي تقديراتها لإصدارات الدين من جانب البنوك السعودية إلى مستوى قياسي هذا العام، من 11.5 مليار دولار (كما في تقديرات مارس) إلى 15 مليار دولار من السندات والصكوك بالعملات المحلية والأجنبية لدعم السيولة لديها.
معضلة الودائع والنمو
وكالة “موديز” اعتبرت في تقرير صادر مؤخراً أن “رؤية 2030″، وما تتضمنه من مبادرات ومشاريع عملاقة في قطاعات مختلفة، بما في ذلك قطاعات السياحة والإسكان والبنية التحتية، تفتح فرصاً كبيرة لنمو القطاع البنكي في السعودية خلال السنوات القادمة، مدفوعاً بنمو الطلب على الائتمان.
لكن الوكالة نبّهت إلى أن التحدي أمام المصارف السعودية، يتمثل في أن التمويل بالودائع ميسورة التكلفة والمستقرة لن يكون كافياً لدى البنوك للاستجابة للطلب المتنامي المرتبط بالبنية التحتية ومشاريع التنمية المندرجة ضمن برامج الرؤية.
وترجع ماري سالم، المحللة المالية لدى “الشرق”، السبب في كثافة الإصدارات إلى محاولة البنوك تنويع مصادر التمويل، خاصةً في ظل شح السيولة، والحدود التنظيمية للاعتماد على الودائع، والتي ستبقى الممول الرئيسي على المدى الطويل للقروض.
نسبة القروض إلى الودائع وصلت إلى مستويات قياسية، وفقاً لتقديرات “فيتش” حتى شهر يوليو الماضي، مسجلة 105.5%.
ويتوقع بشار الناطور، رئيس التمويل الإسلامي العالمي لدى “الوكالة، عبر البريد الإلكتروني لـ”الشرق”، أن يشهد العام المقبل استمرار إصدار ديون دولارية كبيرة مع اعتدال عائدات النفط.
بدوره، يرى كبير الاقتصاديين في بنك الرياض نايف الغيث أن “هذه التحركات تعكس الديناميكية الاقتصادية المتغيرة في السعودية وتواكب تطلعاتها نحو تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط”.
في حين طالب الباحث المتخصص في الاقتصاد الكلي علي الحازمي، وعضو جمعية الاقتصاد الأميركية، بضرورة اتجاه البنوك السعودية نحو الإصدارات الدولية بالدولار واليورو لعدم مزاحمة الشركات على السيولة المحلية. متوقعاً أن تردم الإصدارات الحالية الفجوة بين الطلب على القروض والودائع.
مبادرات تطوير سوق الدين
لمواكبة هذا التوجه، أصدرت هيئة السوق المالية السعودية قرارات لتخفيف شروط ومتطلبات طرح أدوات الدين، منتصف نوفمبر، ضمن توجه المملكة لمضاعفة حجم سوق السندات والصكوك كمصدر تمويل إضافي وسط تركيزها على الاستدانة لإنجاز المشاريع والاستثمارات ضمن مسعاها لتنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط.
وتفيد بيانات الهيئة بوجود فرص لتفعيل دور سوق الصكوك وأدوات الدين، حيث تبلغ حصتها في تمويل الشركات السعودية 11% فقط، بينما تصل في باقي دول مجموعة العشرين إلى 47% في المتوسط. ويُتوقع أن يتضاعف حجم سوق السندات والصكوك خلال الأعوام الأربعة المقبلة، وفقاً لرئيس الهيئة محمد القويز، في كلمته خلال افتتاح مؤتمر سوق الدين بالرياض الشهر الماضي.
الناطور، من “فيتش”، يُقدّر أن يتجاوز الحجم التراكمي للصكوك والسندات السعودية نصف تريليون دولار خلال العامين المقبلين، منوّهاً بأن “جميع الصكوك السعودية المصنفة من قبل فيتش من الدرجة الاستثمارية”.
وأكد أن سوق الدين نمت بنسبة 18% بالنصف الأول من العام الحالي على أساس سنوي، معتبراً أنه لا يزال لديها “مجال للزيادة مقارنة بدول مجموعة العشرين الأخرى. لذا نتوقع أن يستمر إصدار ديون كبيرة بالدولار في عام 2025 مع تراجع عائدات النفط”.
تطورت سوق الدين السعودية بشكل كبير منذ عام 2017، خاصةً لناحية تنوع المُصدرين، وفق الناطور. مضيفاً أنه “لم تعد البنوك فقط هي من تطرح السندات والصكوك، فهناك حالياً شركات ومشروعات تُصدر أدوات دين، وكذلك نجحت المملكة في جذب مستثمرين أجانب إلى سنداتها وصكوكها بعد أن كانت حصتهم لا تزيد عن 0.2%”.
لكن نبّه إلى أن هذا التطور يحمل تحديات، إذ إن “سوق الأوراق المالية السعودية معرضة لتقلبات أسعار النفط وأسعار الفائدة، مما قد يؤثر على معنويات المستثمرين وحجم الإصدارات”. كما حذّر من أن المخاطر الجيوسياسية تشكل أيضاً تحديات محتملة لاستقرار السوق ونموها؛ “في حين يوفر التمويل الخارجي رأس المال اللازم، فإنه يقدم أيضاً مخاطر وتقلبات إضافية”.
تراجع تكلفة التمويل
رغم أن مشاريع “رؤية 2030” تُموّل حالياً بشكل رئيسي من خلال ضخ الأموال من صندوق الاستثمارات العامة السعودي أو الحكومة، حيث يشير إفصاح حديث عن صندوق الاستثمارات السعودي إلى التزامات رأسمالية بحوالي 150 مليار ريال (40 مليار دولار) سنوياً، إلا أن الإقراض المصرفي سيشهد نمواً مدفوعاً بزيادة قروض الشركات وارتفاع اقتراض المقاولين من الباطن الذين يعملون في المشاريع العملاقة، بحسب وكالة “موديز”.
ويفيد الغيث، من بنك الرياض، أنه في ظل الزخم والحراك الاقتصادي، فإن مستويات الطلب على التمويل تزايدت، وعليه حرصت الكثير من البنوك على تلبية هذه الطلبات التمويلية مع المحافظة على نسب التحوطية ومعايير “بازل” بشكل صحي.
أما ماري سالم، فترى أن “العائد ضخم جداً على الاقتصاد والبنوك… وأكبر من ترقب خفض بضع نقاط أساس. كما أن لجوء البنوك للصكوك يضمن السيولة لسنوات ويساعدها في إغلاق استحقاقات والتزامات محددة مسبقاً”.
وتستبعد المحللة في “الشرق” أن تتأثر ربحية البنوك سلباً، حيث يعوض حجم النمو الكبير للإيرادات والأرباح الضغوط التي يمكن أن تتعرض لها هوامش صافي الفائدة، خاصةً بعد رفع وكالة “موديز” التصنيف الائتماني للسعودية إلى Aa3، واتجاه أسعار الفائدة من البنوك المركزية إلى التراجع.
زيادة الاعتماد على الديون
في مشهد أوسع، دفعت الاحتياجات المتنامية على السيولة لتنفيذ مشروعات “رؤية 2030” السعودية إلى أن تصبح إحدى أكبر الأسواق الناشئة في إصدارات الديون باستثناء الصين خلال العام الجاري.
أصدرت حكومة المملكة وكيانات سعودية، بما في ذلك صندوق الاستثمارات العامة، سندات ناهزت 50 مليار دولار منذ بداية العام حتى نهاية أكتوبر، وفقاً للبيانات التي جمعتها “بلومبرغ”، ويشمل ذلك مبيعات السندات السيادية المقوّمة بالدولار واليورو وديون الشركات.
يقول نديم أمتوري، مدير قسم أبحاث الدخل الثابت في “أرقام كابيتال”: “من المحتمل أن تقترض المملكة عشرات مليارات الدولارات الإضافية في 2025”.