متحف غوغنهايم يرتفع في الصحراء مع تحول أبوظبي لمركز للمغتربين
أصبحت المخاريط الشفافة الضخمة التي تتدلى على جانبي متحف غوغنهايم في أبوظبي مرئيةً أخيراً للمارّة عبر الطريق السريع في المدينة. ومن المنتظر أن يقارب حجمه 12 ضعف حجم نظيره في نيويورك.
وعلى مقربة، توجد هياكل معدنية شاهقة تشبه أجنحة الصقر على سطح متحف زايد الوطني الجديد، على بعد بضعة كيلومترات من متحف التاريخ الطبيعي قيد الإنشاء، وفرع متحف اللوفر الذي افتتح في 2017.
تظهر في كل مكان علامات على طفرة إنشائية هائلة تغيّر ملامح هذه الإمارة الغنية بالنفط، والتي تحتضن تحت رمالها حوالي 6% من احتياطيات النفط الخام في العالم، وتمتلك ثروة سيادية تبلغ 1.5 تريليون دولار.
تشهد المدينة نمواً سريعاً في المتنزهات الترفيهية الضخمة، وفنادق الخمس نجوم، والمنازل الفاخرة، والمجمعات الرياضية، وأبراج المكاتب الراقية. ويأتي هذا التوسع بدعم مالي كبير من حكام الإمارة، الذين ينفقون مليارات الدولارات لتنويع الاقتصاد وتلبية احتياجات كبار المستثمرين العالميين ومديري الأصول مثل “بريفان هوارد أسيت مانجمنت” (Brevan Howard Asset Management) و”كيركوسوالد أسيت مانجمنت” (Kirkoswald Asset Management) التابعة لغريغ كوفي، اللذين أسسا مقرات لهما في الإمارة.
طموح المكانة العالمية
وبالعودة إلى متحف غوغنهايم، يأتي هذا المشروع كجزء من جهود تتجاوز كلفتها 10 مليارات دولار لتعزيز السياحة والنشاط الثقافي في العاصمة أبوظبي. وفي الوقت نفسه، تضخ الإمارة مليارات أخرى في تطوير مشروعات سكنية ضخمة تهدف إلى جذب المغتربين الأثرياء للإقامة والعمل في المدينة. تشهد سوق العقارات إقبالاً كبيراً من الأثرياء من دول مثل المملكة المتحدة والهند وإسبانيا، الذين يشترون الفلل المطلة على البحر والتي تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات.
لكن هناك تحديات تواجه هذه الطموحات الكبيرة. فالشرق الأوسط يشهد حالياً أسرع معدلات ارتفاع درجات الحرارة في العالم، وعلى الرغم من تعهد الإمارات بخفض الانبعاثات، هناك مخاوف من أن تصبح بعض مناطق الخليج شديدة الحرارة بدرجة تجعل الناس لا يطيقون العيش فيها في العقود القادمة. كما تبقى المنطقة عرضة للاضطرابات، فالحرب بين إسرائيل وحماس، التي دخلت الآن شهرها الحادي عشر، لا تزال تهدد بالتحول إلى صراع أوسع نطاقاً.
ورغم هذه التحديات، يسعى حكام الإمارات، الذين يستخدمون ثرواتهم النفطية لزيادة نفوذهم وقوتهم على الساحة الدولية، إلى بناء مدينة تعكس هذا الثقل. وفي هذا السياق، قال سلطان سعود القاسمي، كاتب عمود إماراتي وجامع أعمال فنية وعضو في الأسرة الحاكمة لإمارة الشارقة: “تحاول أبوظبي أن تضع نفسها كمركز عالمي، وليس مجرد مركز إقليمي”. و”هي تشيد البنية التحتية التي تتماشى مع طموحاتها العالمية كعاصمة لبلد يسعى للتفوق ليس اقتصادياً فقط، بل سياسياً وثقافياً أيضاً”.
أسفرت محاولات إنشاء مراكز دولية في الشرق الأوسط عن نتائج متفاوتة. فعلى سبيل المثال، أنفقت الدوحة مئات المليارات من الدولارات للتحضير لنهائيات كأس العالم لكرة القدم، بهدف تحويل نفسها إلى وجهة سياحية إقليمية، لكنها الآن تواجه تحديات في التعامل مع فائض الغرف الفندقية. أما السعودية، فقد خططت لبناء مدينة نيوم الجديدة بميزانية تفوق 500 مليار دولار، لكنها اضطرت إلى تقليص بعض الأهداف بسبب محدودية التمويل.
في المقابل، نجحت دبي في بناء كافة مقومات المدينة العالمية في بضعة عقود، وأصبحت تُعتبر على نطاق واسع قصة نجاح. ومع ذلك، فإن تدفق المغتربين بعد جائحة كورونا أثر على البنية التحتية للمدينة، حيث أصبحت الطرق حول مركزها المالي مزدحمة بشكل دائم، وازدادت قوائم الانتظار للالتحاق بالمدارس. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت تحديات جديدة في مواجهة تغير المناخ، كما حدث في أبريل الماضي عندما تسببت أمطار غزيرة غير معتادة في شلل مظاهر الحياة في المدينة. وعلى الرغم من أن أبوظبي تتألف من شبكة من الجزر التي ساعدت في تصريف بعض الفيضانات، إلا أنها لم تسلم تماماً من تأثيرات هذه الأمطار الغزيرة.
استراتيجية هادئة
تتألف الإمارات العربية المتحدة من سبع إمارات، من بينها دبي وأبوظبي. تأسست الدولة في عام 1971، وقد أدى اكتشاف النفط في العاصمة أبوظبي في أواخر الخمسينيات إلى إحداث تحول جذري في البلاد، التي كانت حينها منطقة نائية لا يتجاوز عدد سكانها 100 ألف نسمة.
في العقود اللاحقة، برزت دبي كمركز إقليمي رائد، حيث اجتذب نهجها المنفتح على الأعمال التجارية أكبر الأسماء في عالم التمويل. وفي المقابل، اتبعت أبوظبي نهجاً أكثر تحفظاً لسنوات عديدة، إلا أن هذا النهج يشهد تغيراً ملحوظاً حالياً. إذ تتزامن جهودها لجذب سكان جدد مع مساعي الرياض القوية للنمو والتوسع، مما يشير إلى احتمالية نشوء منافسة ثلاثية على استقطاب المواهب.
وفيما تضغط السعودية على الشركات لإنشاء مقار إقليمية داخل المملكة تحت طائلة خسارة الأعمال، تعتمد أبوظبي استراتيجية مختلفة. حيث يعمل المسؤولون بهدوء على إعداد حزمة من الامتيازات التي يأملون أن تساعد في رفع مكانة المدينة لتصبح واحدة من أبرز المراكز المالية العالمية. وقد أدى تدفق الشركات إلى أبوظبي بالفعل إلى نقص في المساحات المكتبية.
جاذبية أبوظبي
بدأت أبوظبي العمل على تطوير جزيرتي السعديات وياس في عام 2005، لكن بعض المشاريع توقفت نتيجة أزمة الائتمان العالمية. تفاقمت التحديات لاحقاً مع انهيار أسعار النفط في عام 2014. ومع ذلك، شهدت أسعار العقارات انتعاشاً ملحوظاً بعد الجائحة، حيث تدفقت البنوك الدولية وصناديق التحوط والتجار إلى الإمارات للاستفادة من الضرائب المنخفضة وسهولة الحصول على الإقامة.
وكان لعدم فرض ضرائب على الدخل دور كبير في جذب العائلات الثرية التي تسعى لتجنب الضرائب المرتفعة في أوروبا. كما وسعت الدولة نطاق المؤهلين للحصول على تأشيرة الإقامة لمدة 10 سنوات، مما زاد من جاذبيتها. ووفقاً لمسح أجرته وكالة العقارات “بتر هومز” (BetterHomes)، كان البريطانيون أكثر المشترين للعقارات السكنية في أبوظبي خلال النصف الأول من عام 2024، يليهم المشترون من الإمارات والهند وإسبانيا وتركيا والولايات المتحدة.
ورغم هذا، يشكل المغتربون الذين لا يحملون حقوق المواطنة أكثر من 80% من سكان الإمارات، مما قد يثير بعض القلق بشأن الاستقرار الديموغرافي في المستقبل. وفي هذا السياق، تقول سارة موسر، الأستاذة في جامعة ماكجيل ومديرة مختبر المدن الجديدة “نيو سيتيز لاب” (New Cities Lab): “الناس ورأس المال متقلبون ويمكنهم الانتقال إلى المكان التالي الأكثر جاذبية. بناء مكان معين لا يضمن بالضرورة تدفق الناس إليه إلى الأبد. قد يأتون في السنوات أو العقود الأولى، لكن الناس يميلون للتنقل وتغيير أماكنهم. وبدون الحصول على الجنسية، يمكن للأفراد ورأس المال الانتقال إلى مكان آخر”. وأضافت موسر: “أتساءل ماذا سيبقى من كل هذا بعد مئة عام”.
ورغم هذه التحديات المحتملة، لم يتوقف المشترون عن الاستثمار. حيث يستمر الطلب في الازدياد، وارتفعت أسعار الفيلات في جزيرة السعديات، التي يفضلها المستثمرون الأثرياء الباحثون عن بنتهاوس على شاطئ البحر، بنسبة 15% في الربع الأول من العام الماضي، في حين زادت الإيجارات بنسبة 6.4% في الفترة نفسها، وفقًا لشركة “سي بي آر إي غروب” (CBRE Group). وفي الوقت ذاته، ارتفع معدل الإشغال في المركز المالي في أبوظبي إلى 95%.
طفرة إنشائية: قصور ومنازل فاخرة
يسارع المطورون العقاريون في أبوظبي للاستفادة من الطلب المتزايد على العقارات. في جزيرة الجبيل، الواقعة وسط غابات المانغروف، تشهد المنطقة نشاطاً كبيراً حيث تعج بالرافعات والعمال لبناء مجمع سكني ضخم بتكلفة تصل إلى 4 مليارات دولار، يمتد على مساحة 2800 هكتار. من المخطط أن يستضيف المجمع نحو 10 آلاف شخص في قرى ذات كثافة سكانية منخفضة. سيشمل المجمع مرافق متنوعة، بما في ذلك مدارس وعيادات وصالات رياضية، بالإضافة إلى مرافق أخرى. وقد تصل أسعار القصور المطلة على الواجهة البحرية في المشروع إلى 18 مليون دولار.
أما في جزيرة رمحان القريبة، تعكف شركة تطوير عقاري مملوكة لأفراد من العائلة الحاكمة على بناء 1800 قصر و900 منزل. إلى جانب ذلك، يجري إنشاء منتجع فاخر لـ”ريتز كارلتون” على ركائز في المياه، بأسلوب مشابه للمنتجعات الفاخرة في جزر المالديف.
وفي جزيرة الحديريات، يجري تشييد تل بارتفاع 50 متراً، حيث ستتوزع المنازل الفاخرة في تشكيل يشبه جزيرة سانتوريني اليونانية. بعض هذه المنازل سيكون مفتوحاً للبيع للأجانب، وهو أمر نادر في العديد من أجزاء أبوظبي.
استراتيجية جذب الاستثمارات الدولية وتنويع الاقتصاد
قالت سارة موسر: “لطالما كانت دبي الإمارة الأكثر جاذبية وبريقاً، لكن هذا الوضع تغير في السنوات الأخيرة. والآن، تتبع أبوظبي استراتيجية مختلفة تماماً تهدف إلى جذب الاستثمارات الدولية وتنويع الاقتصاد”.
من المتوقع أن يكمل المطورون بناء 8660 منزلاً في أبوظبي خلال هذا العام، بالإضافة إلى تسليم 56000 متر مربع من المساحات المكتبية، معظمها في مشروع “مصدر سكوير”، وهي مدينة منخفضة الكربون تم بناؤها في أبوظبي، وذلك خلال نفس الفترة.
ومع توسع أبوظبي في بنيتها التحتية، يتزايد الطلب على الطاقة اللازمة لتبريد المباني في واحدة من أكثر مناطق العالم حرارة، مما قد يتعارض مع التزامات الحكومة تجاه أهداف الاستدامة. فالإمارات، التي تعد من أعلى الدول في العالم من حيث انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بالنسبة للفرد، استضافت مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ “كوب28” العام الماضي. وسيصبح الحفاظ على هذا الزخم أكثر أهمية مع استمرار ارتفاع درجة حرارة الكوكب، حيث ترتفع درجة حرارة دول الخليج بمعدل أسرع بنحو ضعف المتوسط العالمي.
لذلك، سيصبح تصميم المباني المستدامة أمراً حيوياً وسط الحاجة لتقليل استخدام الطاقة في منطقة يذهب ما يصل إلى 70% من الكهرباء فيها لتبريد المنازل.
أشارت سارة موسر إلى أن استراتيجية أبوظبي لزيادة عدد السكان قد تحمل مخاطر، لأنها تعتمد على توفر النفط الرخيص لتوليد الطاقة اللازمة لتبريد المنازل والمكاتب في ظل تزايد حرارة العالم.
مع انتعاش سوق العقارات، بدأت مشاريع توقفت خلال الأزمة المالية تعود إلى الحياة. ومن بينها متحف غوغنهايم الذي بدأت معالمه بالظهور بعد نحو 20 عاماً من كشف المهندس المعماري فرانك جيري عن تصميمه لأول مرة. كما تعمل أبوظبي على بناء مستشفيات ومدارس لخدمة المجتمعات السكنية الجديدة. على سبيل المثال، تخطط مدرسة غوردونستون الداخلية الأسكتلندية، التي درس فيها الملك الملك تشارلز، لافتتاح أول فرع لها في الخليج العربي على جزيرة الجبيل في أبوظبي بحلول عام 2026.
الهدف الرئيسي لأبوظبي هو جعل المدينة جذابة للأشخاص من جميع أنحاء العالم. ومن هنا، تضم جزيرة السعديات الآن مجمعاً يضم مسجداً وكنيسة وكنيساً.
وفي هذا السياق، تساءل القاسمي: “أين يمكنك في أي مكان، غير أبوظبي، أن تخرج من متحف اللوفر وتدخل إلى متحف غوغنهايم في بضع دقائق؟”.