“الجار العزيز”.. استقبال حافل لبوتين في أميركا بلا هدنة في أوكرانيا

ما جرى بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترمب في المقعد الخلفي لسيارة الليموزين الرئاسية الأميركية خلال رحلتهما القصيرة نحو أطول لقاء رسمي بينهما، سيظل على الأرجح سراً غامضاً.
فهناك أمور كثيرة لم يفصح عنها الزعيمان في ختام قمة ألاسكا التي انتهت دون نتائج حاسمة، وأبرزها عدم ذكرهما لوقف إطلاق النار في حرب روسيا ضد أوكرانيا، وهو الهدف الذي سبق أن أعلنه ترمب قبل دخوله المحادثات. فقد اختُتم اللقاء بواحد من أقصر المؤتمرات الصحفية التي عقدها ترمب على الإطلاق.
الحدث الذي طال انتظاره جاء على نحو غير متوقع، خالياً من المواجهات المثيرة، ومصحوباً بتحفظ استثنائي من رئيس اشتهر بالاندفاع، وكان قد طغى عليه بوتين في قمة هلسنكي قبل سبع سنوات. هذه المرة، لم يفتح الزعيمان المجال أمام أسئلة الصحفيين في القاعة المكتظة بمدينة أنكوراج، تاركين علامات استفهام حول تفاصيل الاتفاق المثير الذي أشارا إليه لكنهما أبقياه طي الكتمان.
كانت المخاوف تتمحور في البداية حول احتمالية التخلي عن أوكرانيا. لكن عقب القمة، كان الانطباع أن ترمب يعتزم نقل رسالة غير مرغوبة لدى كييف وحلفائها الأوروبيين خلال رحلته عائداً إلى واشنطن على متن طائرة الرئاسة “إير فورس وان” (Air Force One).
أسوأ مخاوف أوكرانيا
قال ترمب: “سأجري بعض المكالمات لأطلعهم على ما حدث، لكن يمكنني القول إن اجتماعنا كان مثمراً للغاية. لقد توصلنا إلى اتفاق حول العديد من النقاط، ولم يتبقَ سوى عدد قليل غير محسوم. بعضها ليس مهماً، لكن أحدها يُعد بالغ الأهمية، ولدينا فرصة قوية للتوصل إليه. لم نصل بعد، لكن لدينا فرصة كبيرة لتحقيق ذلك”.
في تلك اللحظة، لم تتحقق أسوأ مخاوف أوكرانيا، إذ لم يظهر ترمب أي تنازلات، على الأقل علناً. غير أن هذا الاطمئنان قد يتبدد سريعاً مع بداية عطلة نهاية الأسبوع، حين يبدأ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تجميع خيوط ما دار بين ترمب وبوتين خلال الاجتماع الذي استمر قرابة الثلاث ساعات.
صفقة غير عادلة
ما هي النقاط العالقة تحديداً؟
برزت عدة مؤشرات تعكس ارتياح الجانب الروسي، إذ استهل بوتين الحديث أولاً على المنصة إلى جانب ترمب، وهو تقليد عادة ما يكون من نصيب المضيف.
الزعيم الروسي تحدث عن “تفاهم” توصل إليه مع ترمب، موضحاً أنه قد يفتح الباب أمام إنهاء الحرب التي أشعلها. لكنه لم يخلُ من التحذير، إذ قال: “نتوقع من كييف والعواصم الأوروبية أن تتعامل مع الأمر بشكل بنّاء، وألا تضع عقبات أو تحاول عرقلة التقدّم المخطط له عبر استفزازات أو مناورات خفية”.
اقرأ أيضاً: قمة ألاسكا بين ترمب وبوتين: محادثات “مثمرة” بدون “صفقة”
في المقابل، لم تجد أوكرانيا ما يطمئنها في مقابلة ترمب مع شون هانيتي على قناة “فوكس نيوز”، حيث حمّل المسؤولية بشكل مباشر على زيلينسكي لـ”إنجاز الأمر”. وأوضح أنه قد يحضر اجتماعاً يجمع زيلينسكي ببوتين، لكنه لم يلتزم بذلك بشكل قاطع، ولم يكشف أي تفاصيل عما جرى تداوله.
وأضاف ترمب: “هناك نقطة أو نقطتان في غاية الأهمية، لكنني أعتقد أنه يمكن التوصل إلى اتفاق بشأنهما. الأمر يعتمد في الأساس على الرئيس زيلينسكي، كما أن على الدول الأوروبية أن تنخرط قليلاً في العملية”.
في هذا السياق، قال جون هيربست، السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا، إن ترمب قد يطلب من حلفائه “التزام الصمت” بمجرد اطلاعهم على التفاصيل السرية للقائه مع بوتين. لكن ذلك سيكون صعباً عليهم، خصوصاً إذا خلصت المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا إلى أن أوكرانيا على وشك أن تُجبر على صفقة غير عادلة.
أما بنجامين جنسن، الزميل البارز في قسم الدفاع والأمن بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقد علّق عبر تلفزيون “بلومبرغ” قائلاً: “نحن في المراحل الأولى من لعبة البوكر”.
انتصار دبلوماسي لبوتين
بدعوة الرئيس الروسي إلى الأراضي الأميركية ومنحه مساحة للقاء، منح ترمب بالفعل لبوتين انتصاراً دبلوماسياً، رغم أن الأخير بات منبوذاً على الساحة الدولية منذ إصداره أوامر بشن حرب شاملة ضد أوكرانيا في عام 2022. وبكل المقاييس، لم يقدم بوتين أي تنازلات مقابلة.
كان ترمب قد بالغ في توقعاته قبل القمة، قائلاً إنه سيحدد فوراً مدى جدية بوتين، وأنه لن يتردد في الانسحاب إذا لم يقتنع. لكن النتيجة جاءت مختلفة؛ إذ سار على بساط أحمر، وإن بخطوات غير مستقيمة أحياناً، وصفّق بينما تقدم بوتين بخفة لمصافحته.
ويبدو أن البيت الأبيض استوعب دروس اللقاءات السابقة، حين تُرك الزعيمان وحدهما من دون مساعدين أو مدونين، فأعلن هذه المرة أن كبار المساعدين سيشاركون في جلستهما المشتركة.
لكن وبعد دقائق فقط من نزولهما من الطائرة، شوهد بوتين مبتسماً داخل السيارة الليموزين المصفحة المعروفة بـ”الوحش”، جالساً إلى جانب ترمب وحده.
طالع أيضاً: أهداف ترمب وبوتين تتباين في قمة ألاسكا
وقد بدا الرئيس الأميركي حريصاً على إظهار التقدير لضيفه، فطلب منه التقدم أمامه أثناء نزولهما من المنصة أمام الصحفيين، فيما تعمد بوتين الإيحاء بأنه لا يسمع الأسئلة الموجهة إليه. فحين صرخ أحد الصحفيين قائلاً: “الرئيس بوتين، هل ستتوقف عن قتل المدنيين؟”، اكتفى الأخير بوضع يده على أذنه دون أن يجيب.
رسائل دبلوماسية من ألاسكا
كانت تلك الدقائق العشر الخاصة كافية تماماً ليشعر بوتين أن رحلته عبر مضيق بيرينغ كانت تستحق العناء.
فقد وصل إلى ألاسكا، الولاية الأميركية التي باعها القيصر الروسي للأميركيين قبل أكثر من 150 عاماً، ولم يمكث فيها سوى أربع ساعات، أي ما يعادل زمن الرحلة تقريباً. وخلال ذلك، قُدمت للصحفيين المرافقين له وجبة “دجاج كييف” (مكتوبة بالطريقة الروسية عمداً).
ولعب وزير الخارجية الروسي المخضرم سيرغي لافروف دوره المعتاد، إذ ظهر في أنكوراج مرتدياً بنطال جينز وسترة بيضاء كُتب عليها بخط سيريلي أسود “يو إس إس آر” (USSR). وفي وقت سابق من اليوم نفسه، أكد ترمب أنه تشاور مع الرئيس البيلاروسي “المستبد” ألكسندر لوكاشينكو.
هذه الخطوة أثارت قلقاً واسعاً لدى كثير من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، إذ سبق للرئيس الجمهوري الأسبق جورج بوش أن وصف لوكاشينكو بـ”آخر دكتاتور في أوروبا”، وهو أقرب حليف لبوتين ويخضع لعقوبات دولية، بما فيها عقوبات أميركية. ومع ذلك، لم يُبدِ ترمب انزعاجاً، بل وصف محادثته مع لوكاشينكو بأنها كانت “رائعة”.
رسائل المديح والجيرة بين ترمب وبوتين
أكثر بوتين من عبارات المديح في أنكوراج، مسلطاً الضوء على العلاقة مع الولايات المتحدة بوصفها جاراً لروسيا لا يفصل بينهما سوى بضعة كيلومترات من المياه عبر مضيق بيرينغ.
فقد قال للصحفيين المجتمعين: “عندما التقينا بعد نزولنا من الطائرات، قلت له مساء الخير أيها “الجار العزيز”، سررت برؤيتك بصحة جيدة. وبرأيي، بدا ذلك ودوداً وتخيم عليه روح الجيرة بحق. نحن جيران قريبون، وهذه حقيقة”.
لكنه لم يتطرق كثيراً إلى الجارة الأوكرانية التي شنت عليها روسيا حرباً.
قبل لقاء ترمب وبوتين.. 6 محطات تكشف التحول الدرامي في علاقة الزعيمين.. التفاصيل هنا.
وفي يوم اتسم بالصور الرمزية وإن غلّفه الغموض، برزت لحظة لافتة؛ إذ إن بوتين، الذي يحكم منذ أكثر من ربع قرن، ورغم دراسته للغة الإنجليزية، نادراً ما يستخدمها في أحاديثه العلنية.
حتى قبل وصوله إلى ألاسكا، كان واضحاً أن بوتين يسعى لعقد لقاء آخر مع ترمب، لكن هذه المرة على الأراضي الروسية. فكما افتتح المؤتمر الصحفي، وجد أيضاً طريقة لاختتامه، قائلاً بالإنجليزية: “المرة القادمة في موسكو”.
فرد ترمب: “أوه، هذا أمر مثير للاهتمام. سأتلقى بعض الانتقادات بشأنه، لكن قد يحدث ذلك فعلاً”.