هيثم الغيص: صافي الانبعاثات الصفري ما بين الصخب والواقع
![](https://khaleejcapital.com/wp-content/uploads/2025/02/rchLTUhYfc_1739292414-780x470.jpg)
اسأل غرفة مليئةً بالناس عن معنى “صافي انبعاثات صفري”، على الأرجح ستسمع مجموعة من الإجابات المبهمة أو غير الحاسمة، بغض النظر عن المهنة أو الجنسية أو السن. والأمر سيان سواء كان في غرف الاجتماعات، أو الفصول، أو غرف المعيشة، إذ غالباً ما تصاحب المصطلح أهداف أو مُهل تفتقر إلى فهم واضح لما يتطلبه تحقيقها.
في ظل ذلك الوضع، ربما لم تكن نتائج مسح أجرته الحكومة البريطانية ونُشر في يوليو 2024 مفاجئة، إذ كشفت أن 91% من المشاركين سمعوا عن صافي الانبعاثات الصفري، لكن 17% منهم فقط كانوا على دراية حقيقية به، وتظهر استطلاعات عديدة أُجريت في دول أخرى نتائج مشابهة.
هذا الافتقار إلى المعرفة صادم، حيث كشف تقرير “تقييم جهود صافي الانبعاثات الصفري لعام 2024” (Net Zero Stocktake 2024) أن 148 دولة وضعت أهدافاً وطنية لتحقيق صافي انبعاثات صفري، تشمل 88% من سكان العالم. هذا الغموض يطرح سؤالاً جوهرياً: ما هو صافي الانبعاثات الصفري- وبذات القدر من الأهمية- ما هو ما ليس كذلك؟
تزايد الاهتمام بصافي الانبعاثات الصفري
تعرّف الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) صافي الانبعاثات الصفري بأنه حالة تتحقق عند توازن الانبعاثات بشرية المنشأ مع إزالة أو احتجاز البشر لهذه الانبعاثات خلال مدة محددة.
بصيغة أبسط، صافي الانبعاثات الصفري يعني تحقيق التوازن بين الانبعاثات التي يسببها الإنسان في الغلاف الجوي وتلك التي تتم إزالتها أو احتجازها. وهذا لا يعني الوصول إلى عالم خالٍ من الانبعاثات، أو اعتبار الوقود الهيدروكربوني شراً مطلقاً، أو نبذ التقنيات الناشئة مثل احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، أو احتجاز الكربون من الهواء مباشرةً.
اقرأ أيضاً: الغيص: لكل القطاعات الاقتصادية والصناعية دور مهم في مواجهة تحدي التغير المناخي
جدير بالذكر أيضاً أن اتفاقية باريس لعام 2015 لم تذكر صافي الانبعاثات الصفري، وتهدف المادة الثانية إلى الإبقاء “على ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية أقل من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية”. فيما تدعو المادة 4.1 إلى تحقيق التوازن بين الانبعاثات وإزالتها أو احتجازها خلال النصف الثاني من هذا القرن “على أساس الإنصاف وفي سياق التنمية المستدامة والجهود الرامية إلى القضاء على الفقر”.
بعد 3 سنوات، اكتسب مفهوم صافي الانبعاثات الصفري أهمية كبيرة إثر التقرير الخاص الذي أصدرته الهيئة بشأن الاحترار العالمي بمقدار 1.5 درجة مئوية في 2018، والذي أكد أن وقف الاحترار العالمي طويل المدى يستدعي الوصول إلى صافي انبعاثات صفري واستمراره. وفي 2021، أصدرت وكالة الطاقة الدولية تقرير “صافي انبعاثات صفري بحلول 2050: خريطة طريق لقطاع الطاقة العالمي”.
مع ذلك، تزامنت زيادة الاهتمام هذه مع تزايد الارتباك، إذ روج العديد من سياسات صافي الانبعاثات الصفري لمهل غير واقعية، أو لم تعط اهتماماً يذكر لأمن الطاقة، أو القدرة على تحمل تكلفته، أو إمكانية تحقيقه. على سبيل المثال، أشار مقال نشرته صحيفة “ذا إيكونوميست” في نوفمبر 2024 إلى أن التكاليف المقدرة لتحول الطاقة تتراوح ما بين 3 تريليونات و12 تريليون دولار سنوياً.
وقف الاستثمار في الوقود الأحفوري لن يحقق صفر انبعاثات
هناك إجراءات أخرى أغفلت قيوداً مادية، مثل الصعوبة الواضحة في زيادة إنتاج المعادن الحرجة، أو عرضت للخطر حق مليارات الأشخاص الذين يعيشون في فقر الطاقة في الدول النامية في الحصول على طاقة ميسورة التكلفة، وموثوقة، ومستدامة، وحديثة، بموجب الهدف السابع من أهداف التنمية المستدامة.
اقرأ أيضاً: 200 تريليون دولار لوقف الاحتباس الحراري.. يا لها من صفقة!
صاحبت الإجراءات الأولية لتحقيق صافي انبعاثات صفري في الأغلب دعوات لوقف الاستثمار في النفط والغاز والفحم، دون اعتبار يُذكر لتأثير ذلك على أمن الطاقة، حيث لا تزال مصادر الطاقة هذه تشكل أكثر من 80% من مزيج الطاقة العالمي في 2025، مثلما كانت منذ الثمانينيات.
وتتوقع منظمة “أوبك” أن يؤدي وقف الاستثمار في قطاع التنقيب والإنتاج على مستوى العالم اليوم إلى حدوث نقص هائل في سوق النفط يبلغ 23 مليون برميل يومياً بحلول 2030. وعدم الاستقرار الناجم عن ذلك سيؤدي إلى ضرر بالغ بقطاعات رئيسية مثل النقل والمواصلات، وخدمات الطوارئ، والبناء، والتصنيع، وإنتاج الأغذية، والرعاية الصحية، والبنية التحتية، من بين قطاعات كثيرة أخرى.
يكفي القول إن صافي الانبعاثات الصفري لن يأتي من الفراغ، بل يأتي في عالم نتوقع فيه أن يتجاوز الطلب العالمي على النفط حاجز 104 ملايين برميل يومياً هذا الربع، ما يمثل مستوى قياسياً جديداً، في ظل نمو متوقع بمقدار 1.4 مليون برميل يومياً خلال 2025؛ يأتي في عالم بلغ فيه استهلاك الغاز الطبيعي العالمي أعلى مستوى على الإطلاق في 2024، بحسب وكالة الطاقة الدولية؛ ويأتي في عالم أعلنت فيه الوكالة نفسها مؤخراً ارتفاع استهلاك الفحم لمستوى قياسي عند 8.7 مليار طن في 2024، رغم توقعها السابق بالوصول إلى ذروة الطلب على الفحم في 2014.
فضلاً عن ذلك، نتوقع بحلول 2050 أن يرتفع الطلب العالمي على الطاقة 24%، وأن يزيد حجم الاقتصاد العالمي أكثر من الضعف، وأن يصل عدد سكان العالم إلى 9.7 مليون شخص.
“أوبك” تدعم خفض الانبعاثات
المبالغة في تبسيط السردية التي تصنف مصادر الطاقة المتجددة بأنها “طيبة” والوقود الهيدروكربوني بأنه “شرير” باسم صافي الانبعاثات الصفري يوضح لما يجب أن تكون البيانات والتوقعات الواقعية- وليست الأيدولوجيا- هي أساس وضع السياسات، ومن بينها ما يتعلق بصافي الانبعاثات الصفري ومسارات تطوير الطاقة في المستقبل.
اقرأ أيضاً: “أوبك”: النفط سيبقى على عرش مزيج الطاقة حتى 2050
هذا لا يعني أن “أوبك” لا تدعم خفض الانبعاثات، بل على العكس تماماً. في الواقع، نشرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” في الآونة الأخيرة تقريراً يفيد بأن منطقة الشرق الأوسط أصبحت سوق الطاقة المتجددة الأسرع نمواً خارج الصين، حيث تقود الإمارات عبر شركة “مصدر”، والسعودية عبر “أكوا باور”، ودول أخرى في “أوبك” مسيرة التطور والابتكار.
وصحيح أيضاً أن هذه الجهود تكمل ولا تخالف الإسهامات الحيوية للدول الأعضاء في “أوبك” وشركاتها الوطنية للنفط في الحفاظ على أمن الطاقة والقدرة على تحمل تكلفته وخفض الانبعاثات.
تدرك “أوبك” أن التغلب على تحديات الطاقة التي يواجهها العالم حالياً ومستقبلاً يتطلب استثماراً هائلاً في كل أنواع الوقود والتقنيات. وفي هذا الصدد، أثبتت الدول الأعضاء أنه يمكن أن نكون رواداً للطاقة المتجددة ومركزاً للتطوير التكنولوجي، بينما ننتج النفط الذي يحتاجه العالم الآن، وسيحتاجه لفترة طويلة في المستقبل.
الاستثمار طريق لتحقيق أمن الطاقة وخفض الانبعاثات
في النهاية، الحديث عن صافي انبعاثات صفري لا يجب أن يكون مبهماً أو غير حاسم، ولا يمكنه أيضاً تجاهل كل البيانات والتوجهات الواقعية. ففي بحث حديث، أوضح المركز الوطني لتحليلات الطاقة (National Center for Energy Analytics)، المخاطر المترتبة على ذلك، عندما أشار إلى أن “النظريات المغلوطة عن سيناريوهات الطاقة… لا تؤثر على قرارات استثمارات بتريليونات الدولارات فقط، بل وعلى سياسات حكومية لها تبعات جيوسياسية واسعة النطاق”.
اقرأ أيضاً: شركات الإمارات تبدأ بتتبع انبعاثاتها الكربونية والإبلاغ عنها
ما يدعو للتفاؤل أن السنوات الماضية شهدت إدراك صناع السياسات مجدداً لضرورة تحقيق أمن الطاقة وخفض الانبعاثات معاً. رغم ذلك، لا يزال مستقبل الطاقة يتطلب قدراً كبيراً من الواقعية والعملية. ما يعني الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة والتقنيات، بينما نعترف ونحمي الدور الحيوي الذي يؤديه الوقود الهيدروكربوني في دعم القطاعات الأساسية وسبل المعيشة في جميع أنحاء العالم.
إذا تبنى صناع السياسات هذا النهج المتوازن للوصول إلى صافي انبعاثات صفري، فلن يشهد العقد المقبل تحقيق خفض ملموس في الانبعاثات فحسب، بل سيضمن أيضاً مستقبل طاقة مستقراً وآمناً لنا جميعاً.
المصدر: https://www.opec.org/opec_web/en/7464.htm