هل ينجح ترمب بكسر قبضة الصين المحكمة على بناء السفن عبر الرسوم؟

يرغب الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإحياء هندسة بناء السفن محلياً كجزء من حملته لإعادة التصنيع إلى الأراضي الأميركية. وتحقيقاً لهذه الغاية، أصبحت جهوده الرامية إلى تقليص هيمنة الصين على هذه الصناعة نقطة اشتعال في الحرب التجارية الأوسع.
لم تصنع الولايات المتحدة سفناً تجارية عابرة للمحيطات بأعداد كبيرة منذ سبعينيات القرن الماضي، وهذا هو حجم الميزة التنافسية للصين اليوم، حتى أن دول بناء السفن الكبرى مثل كوريا الجنوبية تكافح لمواكبة ذلك.
مع ذلك، تأمل إدارة ترمب في إعادة أحواض بناء السفن الأميركية إلى مجدها السابق من خلال فرض ضرائب على وصول السفن المرتبطة بالصين.
اعتباراً من 14 أكتوبر، يمكن فرض رسوم على السفن التي تديرها أو تملكها كيانات صينية، وكذلك السفن التي بنيت في الصين وتديرها شركات غير صينية، حتى خمس مرات في السنة مقابل رحلاتها إلى الولايات المتحدة.
أميركا تؤجل محادثات رسوم الموانئ مع الصين وتركز على بناء السفن
سترتفع الرسوم، بناء على سعة حمولة السفينة أو عدد الحاويات التي تفرغها، كل أبريل حتى عام 2028، وقد تؤدي إلى فاتورة سنوية بمليارات الدولارات لبعض شركات الشحن.
إذا تم تمرير التكاليف إلى المستهلكين الأميركيين من خلال سلسلة التوريد، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة الضغوط التضخمية وخفض الطلب على الواردات، كل ذلك مع وجود تأثير مشكوك فيه على تعزيز بناء السفن في الولايات المتحدة. ردت الصين برسوم مماثلة على السفن الأميركية التي ترسو في الموانئ الصينية.
ما الذي يدفع ترمب لإحياء أحواض بناء السفن الأميركية؟
تعود المخاوف بشأن نفوذ الصين في صناعة الشحن إلى ما قبل فترة ولاية ترمب الثانية. بدأت إدارة الرئيس جو بايدن ما يسمى بالتحقيق بموجب المادة 301 في ممارسات الشحن الصينية في أبريل 2024.
وخلص التحقيق الذي أجراه مكتب الممثل التجاري الأميركي إلى أن هيمنة الصين في بناء السفن تحققت بوسائل غير عادلة تحرم الدول الأخرى من الفرص التجارية، وتضعف سلاسل التوريد عبر جعل أصحاب السفن يعتمدون بإفراط على مورد واحد.
نُشر تقرير الممثل التجاري الأميركي قبل أيام قليلة من عودة ترمب إلى البيت الأبيض في يناير، واستغلت إدارته نتائجه للدعوة إلى نهضة بناء السفن في الولايات المتحدة.
لا يقتصر الأساس المنطقي على توسيع التصنيع الأميركي وخلق فرص العمل فحسب، بل أيضاً على تعزيز الأمن القومي عبر تقليل الاعتماد على الصين، والحصول على مزيد من السفن أميركية الصنع وتحمل طاقماً وعلماً أميركيين ويمكن استدعاؤها في أوقات الأزمات.
العولمة قادرة على النجاة من الحرب التجارية الأميركية
اكتسبت فكرة “الأمن البحري كأمن قومي” زخماً في واشنطن. يهدف مشروع قانون باسم “قانون السفن لأميركا” يدعمه الحزبان وأعاد المشرعون تقديمه في أبريل، إلى تعزيز القاعدة الصناعية البحرية الأميركية وتوفير حوافز ضريبية لاستثمارات أحواض بناء السفن.
بالإضافة إلى العقوبات المفروضة على السفن الصينية، فرضت إدارة ترمب رسوماً على سفن نقل المركبات المصنوعة في الخارج، وستفرض اعتباراً من 9 نوفمبر رسماً جمركياً بنسبة 100% على الرافعات الصينية التي تنقل الحمولة من السفينة إلى الشاطئ والهياكل التي تنقل بها الشاحنات الحاويات من الموانئ وإليها.
لماذا تراجعت صناعة بناء السفن الأميركية؟
وقعت عدة صناعات أميركية في حالة تفريغ في أعقاب “صدمة الصين”، إذ انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، وسرعان ما أصبحت مصنع العالم بتكلفة تصنيع منخفضة. لكن بناء السفن التجارية الأميركية كان قد انكمش بحلول الوقت الذي كثفت فيه الصين جهودها البحرية المدعومة من الدولة.
بلغت صناعة السفن الأميركية ذروتها خلال الحرب العالمية الثانية، عندما أنتجت أحواض بناء السفن في البلاد آلاف السفن لنقل الأفراد والإمدادات إلى الحلفاء حول العالم ودعم العمليات العسكرية. وفي نهاية الحرب، كانت الولايات المتحدة تشغل ما يقرب من ثلثي سفن العالم.
ترمب يتعهد بإنفاق أموال طائلة لإعادة صناعة السفن إلى بلاده
انكمش قطاع السفن التجارية المحلي بحدة في السنوات التالية. وبحلول أواخر سبعينيات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة ما تزال تصنع سفن الشحن وناقلات النفط وسفن دعم حفر النفط، بدعم من الإعانات الحكومية.
مع ذلك، في ثمانينيات القرن الماضي، أنهت إدارة رونالد ريغان الإعانات الاتحادية وانهارت الصناعة، غير قادرة على مجاراة المنافسة الأرخص التي ظهرت من اليابان وكوريا الجنوبية.
أصبحت أحواض بناء السفن الأميركية تعتمد شبه حصرياً على عقود قوات البحرية، ما أدى إلى إنتاج إمداد ثابت من السفن الحربية.
تركز أحواض بناء السفن التجارية المتبقية إلى حد كبير على صنع السفن للتجارة المحلية وليست موجهة نحو بناء سفن الحاويات وغيرها من السفن العملاقة التي تدعم التجارة العالمية. وهذا لأنهم قد ضمنوا سوقاً محليةً أسيرةً بموجب قانون جونز لعام 1920، الذي يشترط نقل البضائع بين الموانئ الأميركية في سفن أميركية الصنع ومملوكة للولايات المتحدة.
أدى تحول صناعة الشحن إلى “الأعلام الملاءمة” إلى مزيد من الضرر للصناعة البحرية الأميركية. هذه هي الممارسة التي يسجل من خلالها مالك السفينة سفينته في بلد مختلف، وغالباً ما يكون ذلك بهدف تخفيف العبء المالي والتنظيمي للملكية. كما تعاني الولايات المتحدة من نقص في طاقم السفن التجارية.
ما مدى تأثير رسوم الموانئ الأميركية الجديدة؟
منذ كشفت إدارة ترمب عن الرسوم في أبريل، كانت شركات الشحن تستعد لخيارات لتقليل تعرضها للتدابير العقابية. وهذا يشمل إعادة ترتيب الأساطيل، فعلى سبيل المثال، قد يركز مالكو السفن والمشغلون الصينيون على الرحلات غير الأميركية، بينما يمكن للآخرين التحول إلى سفنهم غير الصينية للتسليم إلى الولايات المتحدة.
تجار النفط يتجنبون السفن المصنعة في الصين بسبب رسوم ترمب
يمكن أن تساعد الحلول البديلة، بالإضافة إلى الإعفاءات لبعض السفن، بعض شركات الشحن في الاحتفاظ بهياكل التسعير الحالية. التزمت شركات الحاويات الكبرى مثل ”إيه بي مولر ميرسك“ (A.P. Moller-Maersk) و”سي إم إيه سي جي إم” (CMA CGM) بعدم فرض رسوم إضافية على خدماتها بسبب رسوم الموانئ الأميركية.
مع ذلك، قد يتأثر حوالي 35% من السفن في الأسطول العالمي من ناقلات النفط وناقلات البضائع السائبة وسفن الحاويات، بالرسوم الأميركية الجديدة، وفقاً لمنظمة الشحن العالمية “بيمكو” (Bimco).
يقدر محللو “بلومبرغ إنتليجنس” أن الرسوم قد تصل إلى 10 مليارات دولار سنوياً لصناعة شحن الحاويات، حيث تواجه شركة “كوسكو شيبينغ هولدينغز” (Cosco Shipping Holdings) الصينية أكبر فاتورة بأكثر من 4 مليارات دولار، بما يشمل شركة “أورينت أوفرسيز كونتينر لاين” (Orient Overseas Container Line) التابعة لها.
صراع رسوم السفن بين أميركا والصين يعصف بقطاع الشحن البحري
وقد تتكبد شركة “إم إس سي ميديتيرينيان شيبينغ” (MSC Mediterranean Shipping) ومقرها سويسرا، فاتورة تقدر بنحو 2.4 مليار دولار بسبب اعتمادها على السفن المستأجرة من مالكين صينيين.
هل إحياء بناء السفن في الولايات المتحدة واقعي؟
السؤال الرئيسي هو ما إذا كانت التكاليف الإضافية من رسوم الموانئ التي تفرضها إدارة ترمب ستكون كافية لتحفيز الطلب على السفن الأميركية. بموجب قواعد مكتب الممثل التجاري الأميركي، يمكن تعليق الرسوم على السفن الصينية الصنع لمدة تصل إلى ثلاث سنوات إذا طلب المالك، خلال هذا الإطار الزمني، واستلم سفينة أميركية الصنع بنفس الحجم أو أكبر.
لكن حتى لو كانت هناك رغبة في إجراء مثل هذا التحول، فإن الولايات المتحدة تفتقر إلى القدرة على تصنيع السفن التجارية الكبيرة.
على جانب العرض، لم تنفذ إدارة ترمب بعد تدابير من شأنها معالجة توافر العمال المدربين والتكلفة العالية للعمالة والمواد، حتى تتمكن من تضييق الفارق في التكلفة مع شركات بناء السفن الآسيوية.
تخاطر رسوم ترمب بجعل قضية بناء السفن الأميركية أقل جدوى من الناحية الاقتصادية إذا أصبحت المواد والمكونات المستوردة أكثر تكلفة. في الوقت نفسه، فإن رد الصين على رسوم الموانئ الأميركية قد يضغط على الشركات الدولية القادرة على المساعدة في إحياء صناعة بناء السفن الأميركية المحتضرة.
ميناء لوس أنجلوس: معركة النفوذ البحري بين ترمب والصين قد تستمر لعقود
في منتصف أكتوبر، فرضت الصين عقوبات على الشركات التابعة الأميركية لشركة بناء السفن الكورية الجنوبية “هانوا أوشن” (Hanwha Ocean)، بما في ذلك حوض بناء السفن “فيلي شيبيارد” (Philly Shipyard) الذي استحوذت عليه في بنسلفانيا في ديسمبر.
تعهدت الحكومة الكورية الجنوبية هذا العام بتقديم 150 مليار دولار لمبادرة “لنعد لبناء السفن الأميركية عظمتها” من قبيل التودد لترمب خلال محادثات التجارة مع الولايات المتحدة.
تعمل صناعة الشحن، التي تنقل أكثر من 80% من التجارة العالمية، على آفاق استثمارية طويلة الأجل، تتجاوز فترات الرئاسة التي تبلغ أربع سنوات، ولا يوجد ما يضمن أن تستمر الإدارات المستقبلية باتباع سياسات ترمب.
إن تشغيل قدرة بناء السفن الأميركية الجديدة سيكون عملية مكلفة تستغرق سنوات، وستحتاج أحواض بناء السفن إلى طلبات لسفن متعددة من أجل تحقيق وفورات الحجم، وخفض التكاليف، ولتكون مجدية تجارياً.
ما مدى تقدم الصين في بناء السفن عالمياً؟
كانت الصين دولة صغيرة في صناعة بناء السفن قبل ربع قرن، بينما كانت اليابان وكوريا الجنوبية حيتانها.
لكن الصين أصبحت منذ ذلك الحين الرائدة. من حيث الحمولة، بُني أكثر من ثلث السفن العاملة حالياً في الصين، وفقا لشركة “كلاركسونز ريسرتش سيرفيسز” (Clarksons Research Services)، مقابل أقل من 1% في أحواض بناء السفن الأميركية.
إن الصين هي اللاعب الأكبر عندما يتعلق الأمر بالسفن قيد الإنشاء أيضاً، إذ يُمثل ذلك 67% من السفن المتوقع أن تنطلق إلى البحار خلال عامين أو ثلاثة أعوام. يُتوقع أن تنمو هيمنتها بشكل أكبر إذ تم تقديم أكثر من 55% من الطلبات الجديدة من حيث الحمولة إلى أحواض بناء السفن الصينية.
كيف اكتسبت الصين ريادتها في بناء السفن؟
وضعت أسس توسع بناء السفن في الصين في أوائل العقد الأول من هذا القرن، عندما أصبحت عضواً كامل العضوية في منظمة التجارة العالمية. لم يمنح بناء السفن الصين وسيلة لتصدير منتجاتها الرخيصة إلى بقية العالم فحسب، بل وفر أيضاً وسيلة لجلب الطاقة والمواد الخام الأخرى التي تحتاجها لتغذية اقتصادها.
في ظل سلسلة من الخطط الخمسية، أصبحت الصين مصنّعاً رئيسياً لسفن الحاويات والبضائع السائبة، ثم ناقلات النفط والوقود. وتحولت مدينة شنغهاي الساحلية إلى مركز شحن عالمي.
كما ضمن التخطيط الحكومي حصول أحواض بناء السفن على الفولاذ الذي تحتاجه بأسعار معقولة، واستفادت من قوة عاملة مدربة جيداً ورخيصة نسبياً. كما ساعدت الإعانات الحكومية والقروض الرخيصة من البنوك الحكومية. وحتى اليوم، ما يزال كثير من شركات بناء السفن الكبرى في الصين في يد الدولة.
إلى أي مدى دفعت الإعانات الحكومية قطاع بناء السفن الصيني؟
بلغ إجمالي الدعم المالي الذي قدمته بكين لقطاع بناء السفن 132 مليار دولار بين عامي 2010 و2018، وفقاً لتحليل من “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”.
يشمل هذا الدعم الإعانات المباشرة والتمويل الحكومي، لكنه لا يغطي أشكال الدعم الأخرى، مثل القروض منخفضة الفائدة التي تقدمها بنوك تملكها الدولة، ومزج بين الإعفاء من الديون عبر الحصول على حصص.
تقول الحكومة الأميركية إن إرث الدعم قد خلق فائضاً في الطاقة الإنتاجية في الصين ما يُصعّب على أحواض بناء السفن في أماكن أخرى المنافسة.
قال مكتب الممثل التجاري الأميركي في تقريره لشهر يناير: “لا توجد فرص نشاط تُذكر لشركات بناء السفن الأميركية حيث ينشط المنتجون الصينيون”.
قد يكون مدى استفادة شركات بناء السفن الصينية من الدعم الحكومي غير ذي صلة. إن وفورات الحجم التي حققتها أحواض بناء السفن الصينية تُصعّب منافستها بأي حال.
سواء كانت ممارسات الصين منصفة أم لا، فهناك جانب إيجابي للاقتصاد العالمي بأكمله من الاستثمارات الضخمة التي تقودها الدولة والتي قامت بها على مر السنين: فقد ساعد العرض الوفير من السفن الصينية الأرخص في خفض أسعار الشحن والحفاظ على حركة البضائع في جميع أنحاء العالم.
 
				 
					 
					


