هل تتنصل “شل” من تبعات تسربات نفط في نيجيريا؟
اعتاد وير لي أغبالور أن يعمل يومياً في مزرعة صغيرة تملكها عائلته حين كانت الأحوال أفضل، إذ كان يزيل الأعشاب الضارة ويروي نبات الكاسافا ويحصده. لكن منذ أكثر من عام، لم تعد جهوده مجديةً بعدما كست حقله طبقة كثيفة من النفط الخام الأسود اللزج.
على بعد نحو 30 متراً من أرضه على ضفاف نهر النيجر، تخفي أشجار كثيفة جزءاً من خط أنابيب “ترانس–نيجر”، الذي أنشأته ما كانت تُسمى “رويال داتش شل” في 1965 بسعة 180 ألف برميل يومياً، لكنه تسبب على مرّ السنين بتسربات نفطية تكاد لا تُحصى.
أشار أغبالور إلى أن حادثتي تسرب نفطي وقعتا في 2023 لوثتا مزرعته وجدولاً يغذي قريته إيبوبو، التي يعيش سكانها في منازل أسقفها من صفيح ويعتمدون على هذه المياه للشرب والاستحمام. تكرر هذا المشهد مراراً في مئات القرى المجاورة، التي عانت لعقود من التلوث الناجم عن تسرب النفط من الأنابيب وغيرها من المعدات.
كانت عائلة أغبالور تجني نحو 57 دولاراً أسبوعياً من بيع محاصيلها في سوق مدينة بورت هاركورت المجاورة، وهي تقع على بعد 450 كيلومتراً عن عاصمة نيجيريا التجارية لاغوس نحو الجنوب الغربي. لكن هذا العام، لم يتجشم أغبالور، 46 عاماً، عناء زراعة الكاسافا، فقد بات مستبعداً أن تُنتج الأرض أي محاصيل. قال بينما كانت تمر بالجوار سيارة تحمل شعار شركة “شل”: “حين تُدمّر تربتنا فهي تضيع إلى الأبد”.
هل تتهرب من المسؤولية؟
يحمّل أغبالور شركة “شل” مسؤولية هذا الضرر، وبالتحديد شركة “شل بتروليوم ديفلوبمنت- نيجيريا” المعروفة اختصاراً باسم “إس بي دي سي”، وهي شركة تابعة تدير مشروعاً مشتركاً تملك 55% منه شركة نيجيرية مملوكة للدولة، بينما تملك “شل” 30%. لكن أغبالور يفتقر لمال يمكّنه من مقاضاة الشركة، وبالنظر إلى نتائج القضايا السابقة المرفوعة ضد “شل” أمام المحاكم النيجيرية، فهو يرى أن حظوظه أمام القضاء لن تكون أفضل من محاولة زراعة الكاسافا في أرض ملوثة بالنفط. تؤكد “شل” أن “إس بي دي سي” تنظف المناطق المتضررة من التسربات النفطية الناتجة عن منشآتها، بغض النظر عن السبب”.
لكن في حال حدوث تسربات أخرى في المستقبل، قد يجد أغبالور وغيره من المتضررين أنفسهم في موقف أصعب. في يناير، أعلنت “شل” بيع “إس بي دي سي” إلى تكتل محلي يُعرف باسم “رنيسانس أفريكا إنرجي” (Renaissance Africa Energy) مقابل 1.3 مليار دولار.
أوضحت “شل” أن هذا التخارج يأتي في إطار سعيها للتحول إلى “شركة طاقة صافية الانبعاثات بحلول 2050″، وأشارت إلى أنها تستطيع تبسيط محفظتها عبر التخارج من عمليات إنتاج النفط البرية في دلتا النيجر، التي تقول شركة “وود ماكنزي” (Wood Mackenzie) الاستشارية إنها من أكثف عملياتها تسبباً للانبعاثات.
لكن منظمات المجتمع المدني والمحامين الذين خاضوا معارك قضائية ضد “شل” يعتقدون بوجود دافع خفي وراء هذه الخطوة. إذ إن إزالة الشركة التابعة من سجلات الشركة الأم قد تعفي “شل” من أي مسؤولية مستقبلية عن الأعطال التي قد تحدث في منشآت “إس بي دي سي”. كما أن العبء المالي الضخم لتفكيك البنى التحتية غير المربحة، التي تظل خطرة، قد يُحال على “رنيسانس” بدل “شل”.
رفض ممثلو “رنيسانس” و”شل” الإفصاح عن أي تفاصيل مالية للصفقة، مستندين إلى سرية الاتفاق، ولم يتضح بعد ما إذا كان التكتل يملك المال اللازم. بينما يصف المحامي إنيريو ويلز، وهو المفوض السابق للبيئة في ولاية بايلسا الواقعة عند مصب دلتا النيجر، الصفقة بأنها “عملية احتيال كبرى”.
وفيات بين الرضّع
أوضحت “شل” أن الصفقة مع “رنيسانس” تهدف إلى تركيز عملياتها في المنطقة على الأصول البحرية، مؤكدة أنها لا تحلّ “إس بي دي سي” من مسؤولية عمليات التنظيف أو إصلاح الأضرار الناتجة عن أنشطتها التي تمت قبل صفقة البيع.
في غضون ذلك، ستواصل “شل” تحقيق الأرباح من عملياتها هذه بموجب بنود مدرجة في الاتفاقية، حيث ستحتفظ بحصص في أصول تملكها “رنيسانس” من خلال بيع الغاز الطبيعي لشركة تمتلك إحدى تابعات “شل” 25% منها.
بيّن الصندوق العالمي للحياة البرية، أن كمية النفط المتسربة خلال العقود الخمسة الأولى منذ بدء الإنتاج من منشآت “شل” وعشرات الشركات الأخرى في دلتا النيجر، تعادل كارثة سنويةً بحجم “إكسون فالديز”. أما “شل” فقالت إن معظم التسربات ناجمة عن استهداف لصوص للأنابيب من أجل سرقة النفط، ويدفع السكان المحليون بأن الشركة لا تبذل جهوداً كافية لتأمين منشآتها، مثل طمر الأنابيب أو تركيب أجهزة لكشف التسربات.
قال بيس إيجور، أحد مزارعي قرية بودو التي تقع على بعد بضعة كيلومترات من إيبوبو: “النفط يدمر مزارعنا، وعندما نحاول العمل في مجال آخر، مثل تربية الأسماك، لا نستطيع ضخ المياه إلى الأحواض لأن النفط يطفو على سطحها”.
لا يقتصر تأثير التلوث على الأراضي الزراعية والمجاري المائية فحسب. فقد أشار باحثون سويسريون في دراسة نشرتها دورية (Proceedings of the National Academy of Sciences) الأميركية في 2019 إلى أن التسربات النفطية من شركات مختلفة في المنطقة أدت إلى مضاعفة معدل وفيات حديثي الولادة، إذ بلغت ما يصل إلى 16000 طفل سنوياً. وقد طال ذلك عائلات من مختلف الفئات الاجتماعية والاقتصادية، وهذا مستمر منذ سنوات.
دعاوى في بريطانيا وهولندا
يلزم القانون النيجيري شركات النفط بصيانة معداتها وفقاً للمعايير الأميركية الصارمة نسبياً، لكن مجموعة “أصدقاء الأرض” وغيرها من المنظمات البيئية تشير إلى أن الشركات قلما تلتزم بذلك.
كانت أول دعوى قضائية رُفعت ضد “شل” بسبب عملياتها في المنطقة في سبعينيات القرن الماضي، ومنذئذ واجهت الشركة تسويات وغرامات وأوامر بتنظيف المناطق الملوثة من قضاة نيجيريين وبريطانيين وهولنديين. لكن “شل” تؤكد أن “إس بي دي سي” تعمل بالتوافق مع جميع اللوائح النيجيرية المرعية.
برغم فوز “شل” ببعض القضايا في نيجيريا وخارجها، إلا أنها غالباً ما لجأت إلى المماطلة عبر مناورات إجرائية واستئنافات، لدرجة أن كثيرين من أصحاب الدعاوى توفوا قبل البت في قضاياهم. على سبيل المثال، ظلت قضية تتعلق بتسرب نفطي في الستينيات معلقة حتى 2020، حين رفضت المحكمة العليا النيجيرية النظر في مزيد من استئنافات “شل”.
في قضية أخرى، حاججت الشركة بأنه إذا ثبت وجود تلوث من مصادر أخرى يؤثر على أي جزء من المنطقة المعنية في القضية، فإن ذلك سيسقط جميع الدعاوى بحقها، لكن المحكمة رفضت هذه الحجة خلال الاستئناف.
في السنوات الماضية، غيّر الناشطون استراتيجيتهم، فصاروا يقاضون الشركة في بلد مقرها أي هولندا ثم المملكة المتحدة، وقد حققوا نجاحاً أكبر عبرذلك. في 2015، دفعت “شل” 55 مليون جنيه إسترليني (70 مليون دولار) لتسوية قضية رفعها نيجيريون في لندن للمطالبة بتعويضات وإصلاح الأضرار الناجمة عن تسرب نفطي قرب مزرعة إيجور.
وفي 2021، خلصت محكمة هولندية إلى أن “شل” مسؤولة عن تلوث في منطقتين، ما مهّد لتسوية بلغت 15 مليون يورو (16 مليون دولار). وفي نوفمبر 2023، قضت محكمة بريطانية بأن 13000 شخص يطلبون تعويضات بعد تسرب نفطي يمكنهم تقديم دعاوى ضد “شل”، ما قد يكبد الشركة أكبر تكلفة حتى الآن.
سعت الشركة في هذه القضية لإلزام المدّعين بربط الأضرار بحوادث فردية، وهو ما رفضه القاضي في أكتوبر. قال ماثيو رينشو، المحامي في مكتب “لي داي” الذي يمثل المدعين النيجيريين إن “احتمال أن يحوز شخص سجلات تعود إلى ما بين 2011 و2013، عندما وقعت التسربات، وأن يستطيع احتساب أي من مئات التسربات أثرت عليه أمر غير واقعي بتاتاً”. وما تزال القضية قيد النظر.
صعوبة المقاضاة
على العكس من “شل”، لا يمكن مقاضاة “رنيسانس” التي يقع مقرها في نيجيريا إلا داخل البلاد، حيث تختص المحاكم الاتحادية وحدها بالنظر في قضايا التسرب النفطي. ولا توجد إلا محكمتان اتحاديتان فقط في دلتا النيجر، وهما تعانيان من نقص مستمر في الموظفين، بحسب محامين محليين ودوليين.
زد على ذلك أنه في كثير من الأحيان، يعمل كبار المحامين النيجيريين لصالح شركات النفط، وقليل ممن لا يعملون لصالحها بمقدورهم تغطية كلفة أدلة الخبرة التي غالباً ما تكون ضرورية للفوز بالقضايا. يقول كثير من المحامين إن فرصة تحقيق العدالة أفضل في المملكة المتحدة وهولندا مما هي في نيجيريا.
قال توم بولستر، المحامي في شركة المحاماة “هوسفلد” اللندنية التي سبق أن شاركت في دعاوى قضائية تتعلق بقطاع النفط في نيجيريا إن “شل” ستظل مسؤولة عن الحوادث التي وقعت في الماضي، لكن “السؤال الصعب يتعلق بالتسربات الجديدة”. أشار إلى أن الفوز في قضية ضد “شل” سيتطلب إثبات مسؤوليتها عن الفترة التي كانت الشركة تملك خلالها العمليات المعنية بالقضية.
شراكة جديدة معقدة
تعج دلتا النيجر بالبنى التحتية المهجورة التي بيعت إلى شركات نيجيرية دون إغلاقها أو تأهليها بشكل آمن، وغالباً ما تواجه الشركات النيجيرية صعوبة في صيانة المعدات وتنظيف التسربات النفطية وتفكيك المنشآت القديمة. ومن الأمثلة على ذلك، انفجار بئر متوقفة عن الإنتاج في ولاية بايلسا في 2019 كانت “إس بي دي سي” باعته إلى جهة نيجيرية في 2015، حيث استمر تسريب النفط ستة أيام، ثم انفجر مجدداً في 2021 واستمر التسريب لحوالي ستة أسابيع، بحسب ويلز، المفوض البيئي السابق للولاية.
يتخوّف المحامون الذين يمثلون مدعين حاليين، إلى جانب منظمات مثل “مركز البحوث حول الشركات متعددة الجنسيات” وهو منظمة غير ربحية مقرها أمستردام، من ألا يختلف الوضع كثيراً مع “رنيسانس”. قالت “شل” إنها ستقدم قروضاً تصل قيمتها إلى 1.2 مليار دولار عند إتمام الصفقة “من أجل تغطية احتياجات تمويلية مختلفة”، ما قد يشير إلى أن “رنيسانس” ربما استنزفت مواردها من أجل شراء “إس بي دي سي”.
علاوة على ذلك، فإن البنية المعقدة لشركة “رنيسانس” قد تشكل عقبة أمام دفع أي تعويضات حتى في حال كسب القضايا في المحاكم النيجيرية، بحسب المنظمة في أمستردام. وذلك لأن “رنيسانس”، وهي شركة ذات غرض خاص، تضم خمسة شركاء يملك أحدهم حصةً في شريك آخر، بينما تملك شركة تملك “شل” حصةً فيها جزءاً من شريك منضوٍ ضمن مجموعة شركات أخرى.
بموجب القانون النيجيري، يُلزم بائعو البنى التحتية النفطية القديمة بوضع مبالغ كبيرة في حساب ضمان لتغطية تكاليف التوقف عن التشغيل. لكن أودري غاوغران، المديرة التنفيذية للمنظمة في أمستردام، أوضحت أنها حاولت الحصول على تأكيدات بشأن تخصيص هذه الأموال، وقالت: “سألنا الجميع، ولم نجد أي دليل يثبت أن ذلك يُنفذ بالفعل”.
امتنعت “شل” عن الإفصاح عما إذا كانت قد خصصت هذه المبالغ، لكنها أشارت إلى أنها خصصت تمويلاً إضافياً قدره 1.3 مليار دولار لتساعد “رنيسانس” في توريد الغاز الطبيعي إلى شركة أخرى تابعة لـ”شل”، بالإضافة إلى تغطية تكاليف إيقاف التشغيل. لكن لم تقدم أي من الشركتين توضيحاً حول المبلغ الذي سيُخصص لهذا الغرض.
أما أغبالور، فقد أصبح ناشطاً مجتمعياً ويعمل الآن على الضغط على شركة “إس بي دي سي” لاتخاذ تدابير أكبر لمنع التسربات النفطية، سواء كانت بسبب إهمال المشغلين أو أعطال في المعدات أو أعمال التخريب.
وهو يقول إن الانتظار حتى تتعطل المعدات القديمة أو عدم تركيب أجهزة اكتشاف تسربات فعالة أو الإخفاق باتخاذ إجراءات أمنية كافية لضمان سلامة الإمدادات، على أمل أن يكون التنظيف كافياً، يشبه “البناء بدءاً من السطح بدل الأساس”.