اخر الاخبار

هل تتخلى الولايات المتحدة عن فكرة الفوز على الصين؟

فيما كانت واشنطن وبكين تتبادلان اللكمات في حربهما التجارية في أبريل، أبدى وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت ثقة كبيرة. وقال لشبكة ”سي إن بي سي“ إن الصين “في موقفٍ خاسر، فهي تلعب بأوراق ضعيفة جداً”.

لكن اتضح أن بيسنت وإدارة ترمب هما من كان يخادع في اللعبة. بعد أشهرٍ من التصعيد فرضت خلاله الولايات المتحدة رسوماً جمركيةً على الصين بنسبة 10% ثم 20% ثم 145% ثم خفضتها مجدداً إلى 10%، أشاد البيت الأبيض بالاتفاق الذي أبرمه البلدان في أواخر أكتوبر ووصفه بأنه “انتصارٌ ساحق“.

إلا أن الاتفاق بدا أشبه بالوضع الراهن السابق. بل إن الولايات المتحدة قدمت تنازلاً كبيراً، إذ تراجعت عن قرارها بتوسيع قائمة الشركات الصينية الخاضعة لضوابط التصدير، وهي أداة سياسية كانت تُعتبر سابقاً غير قابلة للتفاوض.

ترمب يجري محادثات مع شي ويعلن عن زيارة مرتقبة إلى الصين

لم تكتف الصين بتجاهل ضربات دونالد ترمب، بل أبرزت نقاط قوتها. قالت ليزي سي. لي، الباحثة في معهد سياسات جمعية آسيا: “لم تعد الصين مجرد موطن صناعات تقليد سريعة، بل نظاماً يظهر نموذجاً تنموياً مختلفاً تماماً، وربما قابلاً للتطبيق، أو حتى أكثر جدوى”.

لسنوات، كان الرأي السائد أن معجزة النمو الصيني، رغم كونها غير مسبوقة، إلا أنها محفوفة بالمخاطر. في عام 2001، نشر غوردون تشانغ، وهو كاتب مقال أميركي محافظ، كتابه “الانهيار الوشيك للصين”، الذي تنبأ فيه بأن الحزب الشيوعي الصيني سيقود البلاد إلى الانهيار ويفقد السلطة بحلول عام 2011. رغم فشل تنبؤه، قام تشانغ بتحديث جدوله الزمني في أواخر عام 2011 ليراهن على سقوط الحزب في العام التالي.

مؤشرات اقتصادية هزت صورة الصين

خلال ولاية ترمب الأولى، وفي عهد إدارة بايدن، روّج المتشددون تجاه الصين لفكرة أن على الولايات المتحدة أن تهزم الصين قبل أن تتمكن الصين من هزيمة الولايات المتحدة.

تنفس هذا المعسكر الصعداء عندما بدأ الاقتصاد الصيني يظهر علامات الركود في عام 2023: أزمة عقارية بطيئة، وانهيار سوق الأسهم، وجموع غفيرة من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل.

تلاشت التوقعات السابقة بأن الصين، القوة التصديرية الآسيوية، ستتفوق يوماً ما على الولايات المتحدة من حيث الناتج المحلي الإجمالي. كل هذا أعاد إحياء فكرة أن الصين على وشك الانهيار مرة أخرى.

كيف تلهم أميركا القرن التاسع عشر رئيس الصين؟

يبدو هذا التصور متوتراً بشكل متزايد، فالصين ببساطة تحقق نجاحاً باهراً على جبهات كثيرة. وكما أظهر النزاع التجاري، باتت بكين قادرة على إجبار واشنطن على التراجع. 

على من يأملون في رؤية الصين تتراجع أن يتقبلوا حقيقة أنها ما تزال منافساً قوياً، وعازمةً على توسيع مزاياها الكبيرة، بما في ذلك في قطاعات مؤثرة في المستقبل مثل السيارات الكهربائية والطاقة النظيفة والروبوتات.

قبضة التنين القوية تظهر في المفاوضات 

أظهرت المحادثات التجارية مدى النفوذ الذي تتمتع به الصين على الولايات المتحدة. ويعود ذلك إلى حد كبير إلى هيمنتها شبه الكاملة على سلسلة توريد المعادن النادرة، وهي ضرورية لصناعة المغناطيسات القوية وتلوين شاشات الهواتف الذكية وتعزيز الإشارات الرقمية من بين آلاف الاستخدامات الأخرى.

وتهدد قيود بكين على تصدير هذه المعادن عدة صناعات أميركية، منها السيارات الكهربائية والأقمار الصناعية والطيران والإلكترونيات الاستهلاكية. تستثمر الولايات المتحدة في تطوير قدراتها المحلية في مجال تعدين ومعالجة العناصر الأرضية النادرة، لكن “هذه التغييرات ستستغرق سنوات لمعالجة الاعتماد المفرط الحالي على الصين بشكل كامل”، كما يقول دانيال روزن، المؤسس المشارك لشركة الأبحاث الاقتصادية “روديوم غروب“ (Rhodium Group).

المعادن النادرة ليست كذلك في جميع البلدان

تعتمد الولايات المتحدة أيضاً على الصين في توفير مكونات ما يقرب من 700 دواء، وهو اعتماد بالغ الحساسية لدرجة أن المفاوضين الصينيين لم يتطرقوا إليه في المحادثات التجارية الأخيرة.

يبين قرار الصين في أكتوبر بقطع صادرات رقائق الكمبيوتر المصنعة من قبل شركة ”نيكسبريا” (Nexperia) التي تملكها الصين، والذي أدى إلى تباطؤ الإنتاج لدى شركات صناعة السيارات، بما في ذلك شركتي “هوندا” و”نيسان” اليابانيتين، مدى الاضطراب الذي يمكن أن تحدثه الصين متى شاءت.

بالطبع، للولايات المتحدة نقاط سيطرة، لا سيما لأنها المورد الرئيسي للمعالجات الدقيقة المستخدمة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

وقد منع ترمب شركة ”إنفيديا“ من بيع رقائقها المتطورة، المعروفة باسم ”بلاكويل“، إلى الصين. لكن هونغ بين لي، المدير المشارك لمركز ستانفورد لاقتصاد ومؤسسات الصين، يرى أن بكين هي الأقوى. قال: “هل يمكننا العيش بدون أدوية، بدون معادن أرضية نادرة؟ لا. هل يستطيع الصينيون العيش بدون رقائق (إنفيديا)؟ نعم، يستطيعون”. وأكد لي أن التجارة، بشكل عام، تعود بالنفع على الطرفين.

من الطرف الأحوج للآخر؟

وقد أظهرت الصين قدرة على الالتفاف على ضوابط التصدير الأميركية. تعتمد بعض الشركات الصينية على شبكات التهريب للحصول على المعالجات الدقيقة، بينما تنشئ شركات أخرى شركات وهمية لشراء الرقائق مباشرة من المصنعين. وتعمل شركات عملاقة مثل ”هواوي تكنولوجيز“ على إنتاج رقائقها الخاصة، التي ستمكّن من إنتاج منتجات تنافسية وإن لم تكن فائقة التطور.

في مجال الطاقة النظيفة، تتفوق الصين بشكل كبير على البقية، إذ تبني ضعف قدرة الطاقة الشمسية التي تبنيها الولايات المتحدة وأوروبا مجتمعتين. ،تهيمن الصين على سوق السيارات الكهربائية العالمية، حيث تنتج 70% من السيارات الكهربائية في العالم. كما أنها رائدة في تكنولوجيا البطاريات: ففي معرض شنغهاي للسيارات هذا العام، عرضت شركة ”بي واي دي“ (BYD) لصناعة السيارات بطارية تُشحن بالكامل تقريباً في خمس دقائق.

وفي عام 2024، ركبت الصين روبوتات في المصانع أكثر مما ركبته بقية دول العالم مجتمعة. وتبيع شركة ”دي جيه آي“ (DJI)، ومقرها شنجن، 70% من الطائرات المسيرة التجارية للمستهلكين والشركات، وتتخلف الولايات المتحدة عن الصين في تقنية الطائرات المسيرة العسكرية أيضاً.

لماذا يردد مسؤولو إدارة ترمب مصطلحات صينية؟

تستثمر الصين بكثافة لتتفوق على الولايات المتحدة في مجالات أخرى. وقد وجد تقرير حديث صادر عن لجنة مراجعة العلاقات الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين أن “الصين تتصدر العالم في مجال الاتصالات الكمومية، وتحرز تقدماً سريعاً في الحوسبة والاستشعار الكمومي“.

رغم تأخر الصين في مجال الذكاء الاصطناعي المتطور، إلا أنها تحصل على براءات اختراع متعلقة بالذكاء الاصطناعي أكثر من أي دولة أخرى، وتدفع حدود الممكن دون امتلاك أحدث الرقائق الإلكترونية، كما يتضح من “لحظة ديب سيك” في يناير الماضي، عندما طرحت الشركة نموذجا تنافسيا للذكاء الاصطناعي بتكلفة أقل بكثير من منافساتها الأميركية.

هل تلحق الصين بركب الذكاء الاصطناعي الأميركي؟

قال إيفان ميديروس، مستشار السياسات السابق في عهد الرئيسين باراك أوباما وجو بايدن، الذي يدرّس حالياً في جامعة جورجتاون: “نحن على بعد خطوة صينية واحدة من انهيار سوق الذكاء الاصطناعي بالكامل”.

قالت لي من معهد سياسات جمعية آسيا إن قوة الصين تكمن في قدرتها على “توسيع نطاق التقنيات بسرعة ونشرها في جميع قطاعات اقتصادها”، كما فعلت مع السيارات الكهربائية والطاقة الشمسية والبطاريات. وأضافت: “أعتقد أن آليات تفاعل مشابهة ستستمر في الظهور في منظومة الذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية للجيل المقبل والروبوتات وقطاعات الحوسبة الكمومية”.

ما تزال الولايات المتحدة صاحبة أقوى جيوش في العالم، لكن الصين تتقدم بخطى حثيثة نحو اللحاق بها. أنتجت إحدى شركات بناء السفن الصينية العام الماضي سفناً أكثر مما أنتجته الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وأطلقت الصين حديثاً حاملة طائرات بقدرات تقارب قدرات حاملات الطائرات التابعة للبحرية الأميركية. وضاعفت البلاد مخزونها من الرؤوس الحربية النووية منذ عام 2020، وعززت أسطول غواصاتها. وقد تهرّب كل من ترمب والرئيس الصيني شي جين بينغ من الخوض في مسألة وضع تايوان، لكن إذا ما غزا شي الجزيرة، فليس واضحاً على الإطلاق ما إذا كان ترمب سيدافع عنها.

لا شك أن الصين تواجه تحديات اقتصادية جسيمة، خاصة على المدى البعيد. فهي ما تزال تعاني من تداعيات انهيار سوق الإسكان، الذي شطب تريليونات الدولارات من ثروتها، ويكافح اقتصادها الانكماش. ويشهد سكانها شيخوخة متسارعة، بحيث ستفقد الصين نحو ربع البالغين في سن العمل خلال السنوات الخمس والعشرين المقبلة، ويشعر كثير من الشباب باليأس وسط ارتفاع معدلات البطالة. 

تركيبة الصين السكانية مؤشر على انحسار لا على هيمنة

قال ميديروس إن الصين ربما تكون عالقة في “فخ الدخل المتوسط”، أي أنها قد تفشل في الانتقال من اقتصاد قائم على الاستثمار إلى اقتصاد قائم على الابتكار. في الواقع، يُعدّ تجنب هذا الفخ هدفاً رئيسياً لخطة الحزب الشيوعي الصيني الخمسية الجديدة، التي تعطي الأولوية للريادة في “صناعات المستقبل” مثل صناعة الطيران والفضاء والحوسبة الكمومية.

برغم من تنامي قوة الصين، ناهيك عن استعدادها لانتهاك الحقوق والحريات الفردية، يبدو أن نظرة الأميركيين إليها تتحول إيحابياً، إذ بات عدد أقل ينظر إليها على أنها “عدو” مقارنة بما كان عليه الوضع قبل بضع سنوات. 

ربما يدرك الأميركيون، عبر منصات مثل ”تيك توك“ ومن خلال ”لابوبو“، الدور الذي تلعبه الصين في حياتهم. وربما يكون كل هؤلاء المؤثرين في مجال السفر، الذين يبدون إعجابهم بالروبوتات الصينية وأطباق الهوت بوت والقطارات فائقة السرعة، قد كسبوا قلوب وعقول الأميركيين.

ممكن أيضاً، مقارنة بفوضى السياسة الأميركية، أن استقرار الصين النسبي -على الأقل من بعيد- لا يبدو سيئاً. مهما كان السبب، يبدو أن الأميركيين يعيدون النظر في مكانة الصين في العالم، وقد حان أوان ذلك، ومن قبيل أن تمنّي زوالها لن يجدي نفعاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *