اخر الاخبار

هل انتهى عصر “الصيف الأوروبي”؟

لعقود، ارتبط مفهوم “الصيف الأوروبي” بصورة مثالية في أذهان السياح من حول العالم؛ هروب من حر الخليج أو رطوبة آسيا نحو شوارع باريس المظللة، وشواطئ برشلونة المنعشة، وجبال النمسا الباردة. لطالما كانت شهور يونيو إلى أغسطس ذروة موسم السفر إلى أوروبا، حين كانت درجات الحرارة في مدن أوروبا الغربية تتراوح بين 22 و28 درجة مئوية. فالفنادق محجوزة بالكامل، والمهرجانات الصيفية من إدنبرة إلى بورتو تعجّ بالسياح الباحثين عن عطلة معتدلة الطقس.

لكن هذه الصورة باتت مهددة. فموجات الحر المتكررة، التي تضرب القارة منذ 2018، بدأت تعيد رسم خريطة السياحة العالمية. تجاوزت درجات الحرارة في إسبانيا هذا الأسبوع 46 درجةً مئوية، كما سجلت أرقاماً مشابهة في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا وفي اليونان، وفقاً لبيانات المنظمة الأوروبية للأرصاد الجوية. لم يعد الصيف الأوروبي ملاذاً للهروب من الحر القاسي؛ بل أصبح، في بعض الأحيان، أكثر قسوة من الصيف الخليجي.

فبينما تقلل أجهزة التبريد والبنية التحتية المجهزة بمنطقة الخليج من معاناة صيفها الحار المعتاد، تواجه أوروبا هذا الأسبوع درجات حرارة تفوق حتى حرارة مدن خليجية مثل دبي والرياض، لكن بدون تجهيزات لازمة لمواجهتها. الحقيقة صادمة؛ درجات حرارة مرتفعة تحاصر مدناً قديمة، من برلين إلى باريس ومدريد، بلا أجهزة تبريد أو تجهيزات، ما يكشف ضعفاً بنيوياً في التعامل مع ظروف مناخية باتت واقعاً لا استثناءً، لتجعل شهور الصيف أكثر شدة على الأوروبيين. 

اقرأ أيضاً: العالم يواجه ارتفاعاً قياسياً في الحرارة خلال السنوات المقبلة

إنذارات حمراء وقبّة حرارية

بداية يوليو الجاري، أعلنت فرنسا وإسبانيا وإيطاليا إنذارات طوارئ صحية بسبب درجات الحرارة الشديدة. أُغلقت أكثر من 1300 مدرسة في باريس، ومنعت إيطاليا العمل تحت أشعة الشمس خلال أوقات الذروة. وبسبب موجات الحر اندلعت حرائق غابات في تركيا واليونان أجبرت الآلاف على النزوح.

نشرت صحيفة “ذا غارديان” البريطانية (The Guardian)، يوم أمس، دعوة للقادة الأوروبيين لتذكير الناس بأهمية الأهداف المناخية مثل “الانبعاثات الصفرية”، التي بدأ الدعم الشعبي لها ينحسر. واعتبرت الصحيفة أن موجات الحر تمثل فرصة للتذكير بأهمية تجديد الالتزام بأهداف المناخ.

حرارة الخليج… أكثر ذكاءً من حرارة أوروبا

في دبي والدوحة والرياض، تجاوزت درجات الحرارة 43 درجة مئوية، لكنها لم تسبب نفس الأزمات. والسبب أن جميع المباني والمنشآت تقريباً مجهزة لمواجهة درجات الحرارة العالية، كما تنتشر فيها شبكات التبريد المركزي.

البنية المعمارية الخليجية، ومنذ عقود، باتت تعتمد الزجاج العازل والواجهات الحرارية ضمن شروط منح تراخيص البناء للمطورين. بل تخطت المنطقة مسألة تكييف المراكز التجارية الكبرى والوجهات الترفيهية المغلقة، ليكون الحديث حالياً عن مشاريع مستقبلية عملاقة عبارة عن متنزهات مكيفة يحظى فيها السكان بممارسة أنشطتهم المعتادة خلال مواسم الصيف الحارقة. 

أوروبا.. مناخ يتغير وسياسة مترددة

رغم أن أوروبا تشهد موجات حر متكررة ومتصاعدة، إلا أن الاستجابة السياسية لا تزال محدودة. فبحسب تقرير حديث نشرته وكالة “بلومبرغ”، تهدد الانقسامات السياسة خطة المفوضية الأوروبية لطرح قانون يُلزم خفض الانبعاثات بنسبة 90% في 2040، وهو ما يعتبره الخبراء الحد الأدنى لتحقيق الحياد المناخي بحلول 2050. 

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورؤساء آخرون أشاروا في قمة بروكسل الأخيرة إلى ضرورة تحقيق هذا الهدف، في حين رفضه رئيس وزراء التشيك واعتبره غير واقعي. كذلك، يواجه المقترح معارضة داخل البرلمان الأوروبي نفسه، يقودها أكبر كتلة من اليمين الوسط.

فجوة اقتصادية في التكيّف المناخي

تقدّر الوكالة الأوروبية للبيئة أن القارة تخسر 13 مليار يورو سنوياً نتيجة موجات الحر. في المقابل، ساعدت استثمارات الخليج في أنظمة التبريد المركزية على خفض الخسائر الاقتصادية. في دبي على سبيل المثال، تشير تقديرات شركة “سيمنز” إلى أن اعتماد التبريد المركزي في المدينة خفّض استهلاك الطاقة بشكل هائل، وساهم في استدامة النمو السكاني والعمراني رغم المناخ القاسي.

وبفضل البنية المجهزة، تمكنت دول منطقة الخليج من استغلال فترة الصيف وإقامة فعاليات كبرى، مثل “كأس العالم للألعاب الرياضية” و”صيفك أحلى في أبها” و”استمتع في عسير” في السعودية، و”مفاجآت صيف دبي” في الإمارات، ما يشير إلى اجتياز موسم الصيف الحار وتحويله إلى فرصة استثمارية. 

تغيرات مناخية بحاجة إلى مدن جديدة

مع التسليم بالتغير المناخي، وبالموازة مع الجهود العالمية لمكافحته، تبرز الحاجة لتأمين ظروف معيشية أفضل لسكان أوروبا. قدّرت دراسة نشرتها “إنسرم” و”آي سي غلوبال” في مجلة “نيتشر ميديسن” (Nature Medicine) عدد الوفيات الناتجة عن موجة الحر في أوروبا خلال صيف 2022 بنحو 68 ألف وفاة، ما يجعلها إحدى أكثر الكوارث المناخية فتكاً في القارة.

ومع تكرار موجات الحر، لم تعد الإنذارات كافية، بل باتت هناك حاجة لإعادة تصميم المدن بطريقة تمكنها من الصمود أمام الطقس الحار. حيث أن 95% من المنازل الفرنسية غير مكيفة، في حين أن افتقار الشبكة الكهربائية القادرة على تحمل أجهزة التكيف يمنع من تبريد المنازل.

موجة الحر التي يعيشها العالم ربما تشكل اللحظة المناسبة لتطوير المدن بحيث تكون قادرة على مواجهة واقع مناخي جديد، لكن هل يتم ذلك في أوروبا على حساب أهداف المناخ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *