موقف الصين يقدم دليلاً لدول أخرى بشأن كيفية التفاوض مع ترمب

أقنع موقف الصين المتحدي خلال مفاوضات الهدنة الجمركية مع الولايات المتحدة، بعض الدول بضرورة اتخاذ موقف أكثر صرامة في محادثاتها التجارية الخاصة مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
منحت الهدنة، التي تم التوصل إليها قبل أسبوع، هيكلاً لمحادثات يتوقع أن تكون طويلة وصعبة بين واشنطن وبكين، إذ لا تزال الصين تواجه متوسط رسوم جمركية أميركية يقارب 50% عند احتساب الرسوم السابقة ضمن نسبة الـ30% التي تم الاتفاق عليها في جنيف، سويسرا.
ومع ذلك، فإن استعداد ترمب للتراجع بهذا القدر عن الرسوم الجمركية السابقة البالغة 145% على الصين فاجأ حكومات من سيؤول إلى بروكسل، كانت قد التزمت حتى الآن بطلب الدخول في مفاوضات بدلاً من الرد بالمثل على الرسوم الأميركية.
وبعد أن نجحت تكتيكات التفاوض الصلبة التي انتهجتها الصين في تأمين صفقة مواتية، وإن كانت مؤقتة، بدأت الدول التي تبنت نهجاً دبلوماسياً وسريعاً تتساءل عمّا إذا كان هذا هو الطريق الصحيح.
قال ستيفن أولسون، المفاوض التجاري الأميركي السابق والزميل الزائر في معهد “آي إس إي إيه إس – يوسف إسحاق” في سنغافورة: “هذا يغيّر الديناميكية التفاوضية. العديد من الدول ستنظر إلى نتائج مفاوضات جنيف، وتستنتج أن ترمب بدأ يدرك أنه بالغ في رهانه”.
أوراق ضغط إضافية
من المتوقع أن يطبق ترمب الرسوم المتبادلة المرتفعة التي أعلن عنها، رغم أنه جمدها لتظل عند 10% مؤقتاً، ما لم تُوقّع الاتفاقيات أو تُمنح تمديدات قبل انتهاء فترة التعليق البالغة 90 يوماً في يوليو.
ورغم أن المسؤولين يتجنبون علناً إعطاء إشارات على تشدد مواقفهم، إلا أن هناك مؤشرات، خاصة من الدول الكبرى، على أنهم بدأوا يدركون أنهم يملكون أوراقاً تفاوضية أكثر مما كانوا يعتقدون سابقاً، ويمكنهم التمهل في وتيرة المحادثات.
قال لي جاي-ميونغ، المرشح الأوفر حظاً لرئاسة كوريا الجنوبية، إنه “لا حاجة للتسرع في التوصل إلى اتفاق تجاري مبكر مع الولايات المتحدة”، وانتقد الحكومة الانتقالية لما وصفه بـ”الانخراط المتسرع” مع إدارة ترمب.
وأشار ترمب بنفسه الأسبوع الماضي – في منتصف فترة التعليق البالغة 90 يوماً – إلى أنه “لا يوجد وقت لإبرام اتفاقيات” مع حوالي 150 دولة تصطف للتفاوض، مما قد يدفع الولايات المتحدة إلى فرض الرسوم الأعلى من طرف واحد في غضون الأسبوعين أو الثلاثة المقبلة.
وبينما قال ترمب أيضاً إن الهند مستعدة لخفض جميع الرسوم الجمركية على البضائع الأميركية، قال وزير الشؤون الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار للصحفيين إن “المحادثات التجارية لا تزال جارية”، وإن “إصدار أي حكم بشأنها سيكون سابقاً لأوانه”.
وكان من المقرر أن يصل وزير التجارة الهندي بيوش غويال إلى الولايات المتحدة خلال عطلة نهاية الأسبوع لمواصلة المحادثات.
قال ماركو بابيتش، كبير الاستراتيجيين في “جيو ماكرو” لدى شركة “بي سي إيه ريسيرتش”: “هناك العديد من الدول التي قد تتعلم من الصين أن الطريقة الصحيحة للتفاوض مع الرئيس ترمب هي التمسك بالموقف، والبقاء هادئة، وإجباره على التنازل”.
إعادة حسابات في اليابان
من المقرر أن يزور مسؤولون تجاريون يابانيون واشنطن هذا الأسبوع. وقد غاب وزير التجارة الياباني يوجي موتو عن اجتماع إقليمي عُقد الأسبوع الماضي في كوريا الجنوبية، حضره الممثل التجاري الأميركي جايمسون غرير.
وقال ريوسِيي أكازاوا، كبير المفاوضين الذي يقود فريق العمل المعني بالتعرفة الجمركية في اليابان، في وقت سابق من هذا الشهر إنه يأمل في التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة في يونيو، لكن تقارير وسائل الإعلام المحلية تشير إلى أن التوصل إلى اتفاق مرجح أكثر في يوليو، قبيل انتخابات مجلس الشيوخ.
وقد يكون صناع السياسات في طوكيو بدأوا يفكرون بأن من الأفضل أخذ الوقت بدلاً من تقديم تنازلات كبيرة لإنهاء المحادثات بسرعة.
قالت أليسيا غارسيا هيريرو، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في “ناتيكسيس”: “الجميع في طابور الانتظار يتساءل: حسناً، لماذا كنت أنتظر طوال هذا الوقت؟”.
وأضافت: “هذه الصفقة سمحت للصين بتجاوز الطابور، ولا تقدم في الوقت نفسه فوائد واضحة للولايات المتحدة، ما يضاعف الألم على الدول الأخرى التي تراقب”.
إشارات من واشنطن… وتشكيك أوروبي
حتى المسؤولون الأميركيون بدأوا يشيرون إلى أن المفاوضات ستستغرق وقتاً أطول. فقد قال وزير التجارة هاورد لوتنيك لقناة “بلومبرغ” إن المحادثات مع اليابان وكوريا الجنوبية ستستغرق وقتاً. وأضاف وزير الخزانة سكوت بيسنت الأسبوع الماضي، أن الاتحاد الأوروبي يعاني من “نقص في الوحدة” يعوق التقدم في المفاوضات.
قال بيسنت يوم الثلاثاء خلال منتدى الاستثمار السعودي الأميركي في الرياض: “أعتقد أن الولايات المتحدة وأوروبا قد تكونان أبطأ قليلاً”.
وفي مقابلة مع برنامج “ستيت أوف ذا يونيون” على قناة “سي إن إن” يوم الأحد، بدا الوزير أكثر تفاؤلاً بشأن المحادثات عموماً، قائلاً: “لم نصل إلى هذه النقطة بين عشية وضحاها”.
وأضاف: “باستثناءات قليلة، تأتي الدول إلينا بمقترحات جيدة للغاية. يريدون خفض الرسوم الجمركية، وخفض الحواجز غير الجمركية، بعضهم كان يتلاعب بعملاته، وبعضهم دعم الصناعة والعمالة”.
وفي بروكسل، رأى مسؤولون أن الاتفاق الجمركي بين الولايات المتحدة والصين أبقى على رسوم مرتفعة، ولم يحقق سوى مكاسب محدودة، وفقاً لأشخاص مطلعين على مناقشات الاتحاد الأوروبي.
وقال هؤلاء الأشخاص، شريطة عدم الكشف عن هوياتهم لمناقشة مداولات خاصة، إن المكاسب التفاوضية الضئيلة التي حققتها الولايات المتحدة، وغياب خطة واضحة لنهاية فترة التعليق البالغة 90 يوماً، تُظهر أن ترمب لم يعد لديه شهية كبيرة لمواصلة الضغط على بكين.
وقال فالديس دومبروفسكيس، المفوض الاقتصادي الأعلى في الاتحاد الأوروبي، في مقابلة في لندن يوم الخميس، إن الصفقات التي تم التوصل إليها حتى الآن “لا تعالج الوضع بشكل كامل”، في إشارة إلى هدنة الرسوم الجمركية الصينية، والخطوط العريضة للاتفاقية البريطانية الأميركية التي أُعلن عنها قبل أيام.
أميركا اللاتينية بين الصين وأميركا
في أميركا اللاتينية، حيث تسعى الاقتصادات النامية للحفاظ على الاستثمارات الصينية والوصول إلى السوق الأميركية في آنٍ واحد، يحاول القادة السير على خط دقيق، وسط المواجهة بين العملاقين.
تجاهل الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي سبق أن صرّح بأن المفاوضات تأتي قبل الرد الانتقامي، يوم الأربعاء، المخاوف من أن يؤدي تعميق العلاقات مع الصين إلى رد فعل سلبي من الولايات المتحدة، بعد زيارة دولة لبكين شهدت توقيعه أكثر من 30 اتفاقية.
الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، الذي زار الصين أيضاً الأسبوع الماضي، وقّع على مبادرة “الحزام والطريق” الصينية لتعزيز التجارة والاستثمار، رغم تأكيد وزير خارجيته أن الولايات المتحدة تبقى الحليف الرئيسي لبلاده.
ضغوط محلية
قد تُظهر الترتيبات بين واشنطن وبكين للدول الأخرى أن إدارة ترمب ليست محصنة ضد الضغوط الاقتصادية المحلية الناجمة عن الرسوم.
وقال روبرت سوبارامان، رئيس قسم بحوث الأسواق العالمية في “نومورا هولدينغز”: “الضرر الاقتصادي في الولايات المتحدة أكثر فورية وشمولاً، ويمكن اعتبار هذه الصفقة بمثابة اعتراف من إدارة ترمب بذلك”.
لكن وفقاً لبيرت هوفمان، أستاذ في جامعة سنغافورة الوطنية والمدير السابق للبنك الدولي في الصين، فإن الدول التي لديها قوة اقتصادية محدودة، وتعتمد على التجارة مع الولايات المتحدة، قد لا تكون قادرة على التصرف على هذا الأساس.
وقال هوفمان عبر الهاتف: “إنه أمر محفوف بالمخاطر بالنسبة لمعظم الدول أن تكون صارمة مع الولايات المتحدة”.
وأشار إلى كندا كمثال واضح، إذ قالت “أوكسفورد إيكونوميكس” الأسبوع الماضي إنها أوقفت فعلياً معظم رسومها الجمركية على المنتجات الأميركية. لكن وزير المالية الكندي فرانسوا-فيليب شامبانيه نفى ذلك خلال عطلة نهاية الأسبوع، قائلاً إن الحكومة أبقت على رسوم انتقامية بنسبة 25% على عشرات المليارات من الدولارات من السلع الأميركية.
وأضاف في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي يوم السبت أن 70% من الرسوم المضادة التي فرضتها كندا في مارس لا تزال سارية، وأن الحكومة “أوقفت مؤقتاً وبشكل علني” الرسوم على بعض البنود لأسباب صحية وأمنية.
ورغم ذلك، ونظراً لقوة الصين كمركز تصنيع عالمي، قد تضطر الدول الأخرى إلى “استخدام أدوات أكثر إبداعاً للضغط”، بحسب بابيتش.
ورقة الخدمات… ونموذج فيتنام
بالنسبة لفيتنام، التي يعتمد ثلث اقتصادها على التجارة مع الولايات المتحدة، فإن نقص النفوذ يجعلها غير قادرة على فعل ما هو أكثر من استخدام لهجة صارمة.
وكانت فيتنام من أوائل الدول التي عرضت شراء منتجات أميركية إضافية، مثل طائرات “بوينغ”، لتقليص الفائض التجاري، لكنها وصفت رسوم ترمب هذا الشهر بأنها “غير معقولة”.
وإذا رغبت الدول الكبرى في تبني نهج أكثر مواجهة، فقد يكون لديها مساحة للتحرك في مجال تجارة الخدمات، وفقاً لكاترينا إيل، رئيسة قسم اقتصاد آسيا والمحيط الهادئ في “موديز أناليتيكس”.
وتُظهر بيانات “موديز” أن الاتحاد الأوروبي وسنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان من بين الدول التي تعاني أكبر عجز في تجارة الخدمات مع الولايات المتحدة.
قالت إيل عبر الهاتف: “الصين تملك نفوذاً كبيراً على الولايات المتحدة بما لا يسمح لواشنطن بالاستمرار في موقفها المتشدد، وهذا لا ينطبق على كثير من الاقتصادات الأخرى”. وأضافت: “ما يجب أن نتذكره هو مسألة النفوذ، ومن يملك هذا النفوذ”.