اخر الاخبار

موسم “الإذلال الأوروبي” لن ينتهي قريباً

صفقة الرسوم الجمركية التي أبرمها الاتحاد الأوروبي مع أميركا، والتي وُصفت على نطاق واسع في القارة العجوز بأنها استسلام وخضوع وإذلال، باتت أسوأ اليوم مما بدت عليه عند الإعلان عنها يوم الأحد، حين ظهر دونالد ترمب مبتسماً إلى جانب أورسولا فون دير لاين التي بدت أقل حماسةً بكثير.

ورغم أن فرض رسم نهائي بنسبة 15% على السلع الأوروبية جاء بمثابة ارتياح للأسواق المالية، إلا أن وعود الاستقرار في العلاقات الأوروبية-الأميركية تبدو أقل إقناعاً يوماً بعد يوم. فلا تزال المنتجات الدوائية عرضة لتحقيق أميركي، وهناك روايات متضاربة بشأن مستقبل الرسوم الجمركية على الصلب بنسبة 50%، بحسب “بلومبرغ إيكونوميكس”. وقد تعود إدارة ترمب لفرض المزيد من الإجراءات إذا اعتبرت أن الاتحاد الأوروبي أخل بتعهداته بشأن استثمارات ضخمة، من بينها استيراد منتجات طاقة بقيمة 750 مليار دولار.

ظهر وزير التجارة الأميركي هوارد لتنك يوم الثلاثاء وكأنه حريص على إعادة طرح الشكاوى المتعلقة بطريقة تنظيم الاتحاد الأوروبي لشركات التكنولوجيا مثل “ميتا بلاتفورمز”.

شركات التكنولوجيا الأميركية تتفوق في أدائها على الشركات الكبرى الأوروبية

تنازلات أوروبية بلا مقابل

لهذا السبب، فإن محاولات الدفاع عن الصفقة باعتبارها الخيار الأقل سوءاً مقارنة بصراع طويل الأمد مع أميركا لم تعد تقنع أحداً. فالأوروبيون يدركون أن الحمائية الأميركية ستُضعف الاقتصاد الأميركي نفسه؛ لكنهم لا يرون أن الاتحاد الأوروبي يخرج أقوى من هذا الوضع.

إن اعتماد أوروبا على القوة العسكرية الأميركية وتفوقها التكنولوجي يتيح لترمب تبرير تهديداته، كما ظهر خلال قمة الناتو حين وصفه مارك روته بـ”الأب”. أما الاستمرار في تقديم التنازلات، من أجل سوق موحدة تضم 440 مليون مستهلك، فلا يؤدي إلا إلى تأكيد وجهة نظر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن الاتحاد الأوروبي لا يحظى بالهيبة الكافية. وإذا كان الابتزاز مجدياً، فما الحاجة إلى التفاوض؟ يكفي أن يرسل الرئيس الأميركي نسبة الرسوم عبر البريد الإلكتروني.

اقرأ أيضاً: كيف تحولت الولايات المتحدة إلى “المفترس الأعلى” في التجارة؟

في هذه الأثناء، فإن الجبهة الأخرى من حرب أوروبا التجارية، وهي الصين، تزداد سوءاً. فالصين، التي تُعد سوقاً تصديرية رئيسية لشركات مثل “فولكسفاغن” و”مرسيدس بنز”، باتت تلحق بركب التكنولوجيا بل وتتجاوزه، إذ بدأت تتخلى عن السيارات الأوروبية الفاخرة محلياً، وتُسرّع وتيرة تصدير سياراتها الكهربائية إلى الخارج.

انخفضت الصادرات الأوروبية إلى الصين بما يعادل نحو نصف نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي خلال السنوات القليلة الماضية، في حين ازدادت الواردات منها، بحسب براد سيتسر من مجلس العلاقات الخارجية. وبينما تستخدم بكين سيطرتها على المعادن النادرة كسلاح وتعزز آلة صادراتها، يبدو أن الاتحاد الأوروبي يسير نائماً نحو مواجهة غير متكافئة جديدة. فالتوجه الدائم نحو الخيار الأقل سوءاً يمكن أن يتحول إلى خطر متراكم.

عجز الاتحاد الأوروبي في تجارته مع الصين للسنوات 2019 إلى 2024
عجز الاتحاد الأوروبي في تجارته مع الصين للسنوات 2019 إلى 2024 

نحو فخ تاريخي جديد؟

بناءً عليه، بدأت النخب الأوروبية تهمس بمصطلح “قرن الإذلال” الذي قد يواجه القارة، في إشارة إلى فقدان الصين سيادتها في القرن التاسع عشر حين فُتحت أسواقها بالقوة من قبل إمبراطوريات تجارية غربية قوية.

وبغض النظر عن الفظائع الحقيقية التي سبّبها الاستعمار للصين، وفي ذلك شيء من الصواب. بحسب رواية كارل بنديكت فري في كتابه الجديد كيف تنتهي التقدمية، فإن ما أطاح بسلالة تشينغ الحاكمة في الصين لم يكن ضعفاً مباشراً، بل شعور مفرط بالاطمئنان، حيث فشلت المؤسسات والابتكارات التي كانت فعّالة في الماضي في مواكبة الحد التكنولوجي.

اقرأ أيضاً: أميركا ستكون الخاسر الأكبر من اتفاقات التجارة “الرابحة”

أدت السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي دوراً كبيراً في تطوير سلاسل الإمداد والسلع المصنعة، لكن أسواق رأس المال، التي تُعد ضرورية للابتكار، لا تزال مجزأة، ورواد الأعمال في قطاع التكنولوجيا يعانون من نقص التمويل. أوروبا الآن عالقة في “فخ التكنولوجيا المتوسطة”، وهو ما حذر منه رئيس وزراء إيطاليا السابق ماريو دراغي العام الماضي.

3 خطوات لإنقاذ الكرامة الأوروبية

أياً كان الوقت الذي كسبه الاتحاد الأوروبي عبر هذه الصفقة الجمركية، فيجب استغلاله لتقوية دفاعاته التجارية وتقليل اعتماده على الخارج. وكما كتب الاقتصادي ساندر توردوير مؤخراً، هناك 3 أمور ضرورية، أولها الإقرار بأن اعتماد سياسة صناعية منسقة أصبح لا غنى عنه في عالم تُرجّح فيه أميركا والصين كفة الأسواق لصالحها عبر الإعانات الحكومية، والأسواق المحمية، والأفضلية الناتجة عن وفورات الحجم.

ثانياً، من المهم إدراك أن أبطال التكنولوجيا المستقبليين يمكن احتضانهم داخل الشركات الكبرى التي لطالما برعت أوروبا في إنشائها، لا في الشركات الناشئة فقط.

أخيراً، تحتاج أوروبا إلى إعادة التفكير في سياسة المنافسة، كي لا تجد نفسها في منطقة وسطية غير مرضية بين النموذج الصيني القائم على القطاع العام بالكامل، والنموذج الأميركي القائم على القطاع الخاص بالكامل.

النقطة الإيجابية الوحيدة في هذه الضربة التجارية قد تظهر عندما تعيد النخبة الأوروبية تشكيل نظرتها وتُدرك أن التجارة باتت شأناً سياسياً، لا مجرد مسألة سياسات أو تنظيم. وفيما قد تستمر فترة الإذلال الأوروبي لبعض الوقت، لا يزال هناك متسع لتفادي استمرارها قرناً كاملاً. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *