اخر الاخبار

مزيج الحرية والحظ وصفة بيل غيتس للنجاح

يجمع كتاب مذكرات طفولة بيل غيتس (Source Code: My Beginnings) الذي نشرته دار “نوبف” في 4 فبراير، بين المنفعة ومسرّة النظر إلى المراحل الأولى من ولادة عبقرية واثقة تتحلى بالنباهة والانضباط والتوثب والتأهب. أجمل ما في الأمر أن البوابة التي كانت مفتوحة قيد أنملة تتيح لمحات من ذلك العالم، باتت اليوم مُشرعة.

لا يقف الكتاب عند هذا، بل يتجاوزه بأسلوب سلس وفضولي يوحي للقارئ بثقة فيه، مستكشفاً بيل غيتس: الأسباب الخفية التي صاغت شخصيته الفريدة، فهو ليس فقط أول من غزا العالم من قامات التقنية، بل ربما أصبح في مرحلة لاحقة من حياته أفضلهم.

نشأة في وسط محترم

يميل أمثال غيتس إلى كتابة (أو تكليف الآخرين بكتابة) سير ذاتية تستعرض حياتهم بأكملها، فتجدهم يروون أفضل ما لديهم من قصص ويُصفون حساباتهم مع الآخرين. لكن هذا هو الكتاب الأول من ثلاثية يُزمع نشرها، ولا يتناول سوى مرحلة واحدة من حياة غيتس، تبدأ من طفولته المبكرة حتى 1978، حين قاد رائد الأعمال بسن 23 عاماً 12 موظفاً في “مايكروسوفت” من ألبوكيركي إلى مسقط رأسه في سياتل.

لكن كتب المذكرات الأميركية الأيقونية الحديثة التي تتناول مراحل الطفولة، سواء الأدبية منها أو الأكثر مبيعاً من كتب فرانك كونروي إلى ماري كار وتارا ويستفير، غالباً ما تسلط الضوء على طفولة جامحة تحت رعاية بالغين طائشين لا يستحقون قدراً عالياً من احترام. إن غاية تلك المذكرات سرد كيفية النجاة من طفولة كهذه والتمكن من الكتابة عنها لاحقاً. لقد قالت الروائية فرجينيا وولف: “لا نستحضر الماضي إلا حين يكون الحاضر هادئاً كجريان نهر عميق”.

بيل غيتس يجمع مليار دولار لتطوير مشاريع طاقة نظيفة

على النقيض من ذلك، كان الوسط الذي نشأ فيه غيتس محترماً جداً وصحياً، لدرجة أنه كان العنصر الفوضوي الوحيد فيه.

تطرق كتاب (Source Code) إلى قدر قليل من أحداث عنيفة، كان منها وفاة أحد زملاء غيتس في المدرسة في حادث تسلّق، واستفزاز غيتس لوالده فسكب عليه كوب ماء. إلى جانب تصرفات طائشة، مثل أن غيتس جرب عقار “إل إس دي” والحشيش، لكنه فضّل على ذلك مشروبات “شيرلي تيمبل” و”تانغ” غير الكحولية. ويخلو الكتاب من مغامرات عاطفية تذكر، باستثناء إشارة عابرة إلى دعوة غيتس لفتاة كان معجباً بها لحفل تخرجه، ورفضها طلبه.

من حيث إنه كتاب من 300 صفحة ما يزال دون سلسلة تكمل ما يرويه، فإنه يبدو مشروعاً غريباً وممتعاً في آن معاً، فلا يرجح أن يكون كثير من القراء متلهفين لمعرفة كيف كان غيتس في سنته المدرسية الثالثة.

الفضل للعائلة

مع ذلك، لهذا الكتاب جاذبية خاصة. صحيح أن إدراكنا بأن النتيجة النهائية ستكون شركة عامة تصل قيمتها إلى ثلاثة تريليونات دولار يساهم في جذب اهتمامنا، لكن حتى هذه الميزة لا تفي هذه المذكرات حقها.

يستعير الكتاب مصطلح المبرمجين: “الكود المصدري” (Source Code) كتعبير مجازي عن الأسس التي بنى عليها غيتس نجاحه. كما يبدو أنه إشارة إلى أسلوب مستمد من تفضيلات غيتس في البرمجة، إذ يعتمد على أكواد “فعّالة وبسيطة” كانت ضرورية في عصر الكمبيوترات محدودة القدرات في العصر الذي يتناوله الكتاب.

يظهر هذا الأسلوب الجمالي غيتس وكأنما يسرد الأحداث تسلسلاً، فيحاول تقييم نقاط قوته وضعفه وحدوده بشفافية. وتراه يتقبل أنه صاحب فكر شامل ليس متخصصاً بالضرورة في مجال محدد، يشابه ما يشيد به نيت سيلفر في كتابه الجديد. اكتشف بعدها خلال دراسته في هارفرد أن طالباً مثلَه، رغم براعته الفذة في الرياضيات، لا يتمتع بموهبة الإلهام اللازمة لتحقيق اكتشافات جوهرية في هذا المجال.

يترك غيتس للقارئ أن يعزو مواهبه -مثل قدرته على الاكتفاء بقسط قليل جداً من النوم، وقناعته منذ الطفولة بأن لكل شيء إجابة، بالإضافة إلى تفكيره المنطقي وقدرته على التركيز لفترات طويلة- إلى والديه وأجداده، وخاصة جدته البارعة في لعب الورق، وأيضاً إلى الحظ الذي أتاح له استخدام كمبيوتر قبل معظم المراهقين في العالم.

هامش من الحرية في الطفولة

يصحبنا غيتس بمساعدة من روب غوث في الكتابة والبحث، في رحلة عبر أربعة من مراحل نشأته. بدأت بطفولة فوضوية اختلف فيها عن الآخرين، فكان يتعمق في التفكير، وفي الوقت نفسه يتجاهل تماماً “طقوس الحياة اليومية والمدرسية، كالكتابة بخط اليد والفنون والرياضة”. ثم انتقل إلى مرحلة أصعب، بدأت مبكراً حين كان في التاسعة، حين تحول، كما وصفه والده، إلى “راشد بين ليلة وضحاها… مولع بالجدل، قوي الحجج الفكرية، وأحياناً غير لطيف”.

بدأت المرحلة الثالثة في سنته المدرسية الثامنة، فقد دخل الطموح حياته، بإلهام من صديقه الراحل كينت إيفانز، وتعامل مع كمبيوتر لأول مرة. أما المرحلة الرابعة والأخيرة، فكانت نسخة تجريبية من غيتس كمدير تنفيذي، يدير عملاً تجارياً وهو ما يزال طالباً في الثانوية ثم في جامعة هارفرد، ليتحول إلى منافس وزميل وقائد شرس مهووس بالحفاظ على التفوق المبكر لـ”مايكروسوفت”، الذي تحقق بفضل مصادفات.

إذاً، كيف أصبح أحد أنجح رجالات عصرنا؟ يعود ذلك جزئياً لأن له والدين محبّين قدما نموذجاً يُحتذى به، ولكن من يقرأ الكتاب لا يجدهما في معظم فصوله يمارسان كثيراً من التربية المباشرة. يمكن جمع قراءة (Source Code) مع كتاب “الجيل المرتبك” (The Anxious Generation) لجوناثان هايدت، بل إن غيتس نفسه تحدث عن حسن حظه لأنه نشأ في جيل أكثر جموحاً مقارنةً بالتربية المفرطة التي يمارسها الأهل اليوم. كان والداه ناجحين منشغلين كل في مجاله، لا سيما والدته، التي كانت استثناءً لافتاً بين نساء جيلها، كما كانت طموحاتهما لمستقبله كبيرة.

بيل غيتس يتعهد بتقديم 7 مليارات دولار للصحة والزراعة في أفريقيا
 

مع بلوغه سنته الدراسية الرابعة في مدرسة رسمية مكتظة، كان غيتس “يمضي أياماً دون أن ينطق بكلمة، ولا يغادر غرفته إلا لتناول الطعام أو الذهاب إلى المدرسة”. سئم والداه من تجاهله وإهاناته لهما، فاستعانا بطبيب نفسي اعترف له الصبي قائلاً: “أنا في حرب مع أهلي”. نصح الطبيب ذويه بالاستسلام لأنه سينتصر في نهاية المطاف، وقد أخذا بنصيحته.

في مراهقته، كان غيتس يذهب في رحلات تنزه في الجبال تمتد لأسبوع مع أصدقائه دون إشراف، بل إنه في إحدى المرات تسلل من المنزل في جنح الظلام واستقل حافلةً ليمضي ليلته في مختبر كمبيوتر.

سلسلة صدف

كل هذه العوامل كان من شأنها أن تقود إلى النجاح في مجالات شتى، إلا أن نجاحه الاستثنائي في عالم البرمجيات ما كان ليتحقق لولا سلسلة مذهلة من الصدف والفرص بدأت في 1968. وهذا مكمن التشويق في الكتاب.

ما يزال غيتس يتعجب من أن مدرسته الثانوية الخاصة “ليكسايد” في سياتل كان يمكنها أن تتصل بكمبيوتر في كاليفورنيا عبر مبرقة كاتبة —آلة تشبه الآلة الكاتبة وفي جانبها قرص هاتف دوّار— بفضل فكرة عابرة خطرت لمدرّس رياضيات، و”لم يكن أحد يعرف كيف يستخدمها”. كان ذلك في وقت لم تكن فيه المنازل أو المدارس الثانوية تملك شيئاً يشبه ذلك.

سرعان ما فتحت تلك الصدفة أبواب الفرص أمامه. في البداية، سمحت شركة لتأجير الوقت على الكمبيوتر كانت على شفير الإخفاق لغيتس وأصدقائه من “ليكسايد”، ومنهم بول ألين، باستخدام حاسوب مركزي لاكتشاف أخطاء البرمجيات. ثم أطلقت “ليكسايد” مشروعاً طموحاً لأتمتة جداول كافة الصفوف، ما تطلب من الطلاب والمعلمين أن يعملوا لليال لإنجازه.

بعد ذلك، طرأت حاجة ماسة لمبرمجين لدى إدارة كهرباء بونفيل—الوكالة الاتحادية المسؤولة عن توزيع الكهرباء في معظم مناطق الشمال الغربي المطل على المحيط الهادئ—لإكمال مشروع حاسوبي تخطى نفقاته المخصصة ووتجاوز الأمد المحدد لإتمامه، وكان يهدف لموازنة إمدادات الكهرباء مع الطلب عليها.

حصل غيتس، الذي كان في سنته الأخيرة في الثانوية، على إذن بالتغيب لمدة شهرين للانتقال إلى فانكوفر بولاية واشنطن، على بُعد 280 كيلومتراً من منزله، ليعمل لدى “بونفيل” إلى جانب بول ألين، الذي حصل بدوره على إجازة من الجامعة.

في 1975، بينما كان غيتس يدرس في هارفرد، وقع بول ألين على مقال عن شركة “إم أي تي إس” (MITS) في ألبوكيركي التي ابتكرت أول مجموعة حواسيب منزلية. كان الجهاز بدائياً، ونموذج العمل بسيط، ميزته الوحيدة الحصول على خصومات كبيرة على معالجات” إنتل”. أدرك ألين وغيتس أن هذه الأجهزة عديمة الفائدة عملياً، بما أن أحداً لم يكن قد طور برامج إلكترونية لها. ومن هنا نشأت “مايكروسوفت”، الشركة التي قادت ثورة أجهزة الكمبيوتر الشخصية.

انتقال نحو الأعمال الخيرية

ظلّ عالم التقنية لفترة طويلة يعتبر البرمجة فكرةً ثانويةً، فقد كان الجميع قادراً عليها لكنهم لم يبادروا إلى تنفيذها. هكذا، أصبح غيتس وفريقه أول من يخصص أكواداً جعلت أجهزة الكمبيوتر، التي كانت تزداد قوة وانتشاراً، مفيدةً فعلياً. 

كلّ هذه تفاصيل ممتعة تستحضر المفارقات والمعضلات التي يواجهها المبتكرون، والتي ظلت تعيد رسم ملامح عالمنا على مدى خمسة عقود خلت. (يستشهد غيتس بمقالة من مجلة “بزنيسويك” من عام 1976 عن شركة “إم أي تي إس”، وهي من أوائل المقالات في الصحافة العامة التي تناولت الكمبيوترات الصغيرة، وقد احتفى ذلك التقرير بشركة تكاد تنهار، وهو حال مألوف.

في هذا الجزء من الكتاب، يستعيد غيتس رجل الكمبيوتر ذكرياته كصبي الكمبيوتر، وهي اللبنة الأساسية التي صنعت بيل غيتس المدير التنفيذي والرائد في مجال البرمجيات والمبادر الأول الذي أبقى “مايكروسوفت” في الصدارة لخمسة وعشرين عاماً، قبل أن ينقل الشعلة إلى ستيف بالمر قبل ربع قرن.

في الوقت نفسه، تقدم هذه المذكرات تفسيراً لربع القرن الأخير من حياة بيل غيتس، الذي كان له أن يعيش أحد أكبر التحولات المفصلية في دور حياتي لإنسان في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، وقد حدث ذلك في حالة جيمي كارتر. لكن سجل غيتس لا يخلو من عيوب.

تحول غيتس من رجل أعمال سريع الانفعال ومتهم بالاحتكار إلى متبرع خيري ملهم للعطاء ومحارب للملاريا وكاتب يحتفي بالكتب والأفكار، إذ أن كتابه (How to Avoid a Climate Disaster) من أبرز ما جاء في مجال محاربة تغير المناخ. أضف إلى ذلك أنه مواطن دمث رحيم. وهذا مسار يختلف تماماً عمّا يسلكه جيف بيزوس أو إيلون ماسك.

تبني قيم الوالدين

يقدم كتاب (Source Code)  سبباً ضمنياً لكل ذلك. كانت التقنية مجرد متنفس له إبان شبابه، وليست مصدر إلهام بحد ذاتها. في معرض سياتل العالمي لعام 1962، كان ألين مفتوناً بجناح “آي بي إم”، بينما يتذكر غيتس الفطائر البلجيكية وركوب أفعوانية “وايلد ماوس”.

أدمن ألين الخيال العلمي، وبينما كان غيتس يقرأ هذا النوع من الأدب، كان مهتماً أيضاً بالتاريخ والنزهات الخلوية.

دمج ستيف جوبز ورفاقه من متابعي (Whole Earth Catalog) ثقافة الستينيات المضادة مع قوة التقنية. أما غيتس فغاب عن مقابلته في معهد ماساتشوستس للتقنية من أجل لعب الفلبر. واختار هارفرد لما توفره من تنوع في الدورات الدراسية. 

كتب غيتس في طلبه للالتحاق بهارفرد أن العمل في مجال الكمبيوتر “كان فرصة رائعة للاستمتاع وكسب بعض المال وتعلم الكثير، لكنني لا أنوي الاستمرار في التركيز على هذا المجال. حالياً، أنا مهتم أكثر بالأعمال أو القانون”.

كان والدا غيتس وأصدقاؤهما يعملون في مجالي الأعمال والقانون، ولو جزئياً. كتب غيتس: “إذا بدا والداي مثاليين وملتزمين بالعطاء والتبرع… فهذا لأنهما كذلك حقاً. كانا يقضيان وقتاً طويلاً في التخطيط والاجتماعات والاتصالات وتنظيم الحملات وكل ما يحتاجه المجتمع”.

يُعتبر كتاب (Source Code) من نواحٍ كثيرة بمثابة رسالة شكر إلى والديه لتقديمهما مثالاً للقيم التي تبناها غيتس لاحقاً، وتحية أيضاً لتلك القيم نفسها المتعلقة بالديمقراطية على نطاق ضيق وبناء المجتمع والفخر المجتمعي المتجذر في التاريخ والمكان.

أعتقد أن كتابة الجزئين التاليين ستكون مهمة أصعب على غيتس، إذ سيضطر للدفاع عن مزيد من الأحداث التي كان جزءاً منها كما سيكون عليه حماية مزيد من المشاعر.

لكن (Source Code) ينجح في طرح نفسه كمقدمة طويلة مبهجة. ربما لأنه على عكس ما يوحي به في أول وهلة، ليس بعيداً عن مذكرات الطفولة الأيقونية الأميركية الأخرى. إن أفضل فصوله هي التي تتناول مراحل مشاكسة الأطفال حين ندعهم لشأنهم. وتتدفق حيويته من تطلعنا الوطني العنيد إلى التفرد، ولا يكمن جوهره فيما نفعله، بل في الخير الذي نستطيع أن نبلغه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *