مركز شحن سري يُغذي الصين بالنفط الإيراني
على بُعد نحو 64 كيلومتراً (40 ميلاً) شرق شبه الجزيرة الماليزية، يقع أكبر تجمع لأسطول بحري يعمل في الخفاء بالعالم. هذه السفن القديمة التي تعمل تحت أعلام الملاءمة (أعلام دول تمنح تسهيلات تنظيمية ومزايا قانونية) ودون تأمين في معظم الأوقات، تتوافد يومياً إلى هذه النقطة لنقل حمولتها بعيداً عن أعين المراقبين. وهكذا يجد النفط الإيراني الخاضع للعقوبات، والتي تبلغ قيمته مليارات الدولارات، طريقه إلى الصين كل عام، رغم أن بكين لم تستورد رسمياً ولا قطرة واحدة منذ أكثر من عامين.
ووفقاً لتحليل “بلومبرغ” لصور التقطتها الأقمار الاصطناعية على مدى خمس سنوات لهذه المنطقة الساخنة، يتكشف الحجم الهائل لهذه الممارسات التي ازدهرت وسط تشديد الولايات المتحدة العقوبات على إيران.
تشير تحليلات أجرتها “بلومبرغ نيوز” استناداً إلى تقارب السفن في الأيام التي تتوفر فيها صور الأقمار الصناعية، إلى أن عمليات نقل النفط بين السفن في هذه المنطقة تحدث على الأقل بمعدل يزيد بأكثر من ضعف ما كانت عليه في عام 2020. وفي الأيام الأكثر ازدحاماً، تم رصد أكثر من عشرة لقاءات منفصلة من هذا النوع.
لا يمكن تحديد كمية النفط المنقولة بهذه الطريقة بدقة. لكن حتى بافتراضات متحفظة بشأن حجم الناقلات، تشير البيانات إلى أن نحو 350 مليون برميل من النفط تم تبادلها في هذه المنطقة الساخنة خلال الأشهر التسعة الأولى من هذا العام.
واستناداً لمتوسط أسعار النفط لعام 2024 والخصم المفروض على سعر بيع النفط الخاضع للعقوبات في الحسبان، تصل قيمة هذه الكمية إلى أكثر من 20 مليار دولار. ومن المرجح أن تكون القيمة الحقيقية أعلى بكثير.
وفقاً لسبعة أشخاص مطلعين يعملون في قطاع النفط أو الشحن أو الأمن البحري، فإن معظم النفط المنقول في هذه العمليات يعود إلى منشأ إيراني. كما أن معظم السفن التي تحققت منها “بلومبرغ” مرتبطة بشحنات إيرانية (إذ إن الطريق القادم من روسيا روسيا لا يبدو ذا جدوى اقتصادية).
تستند جميع البيانات إلى الأيام التي مرت فيها الأقمار الاصطناعية فوق الموقع، وهو ما حدث في حوالي ثلث الوقت. واستخدمت “بلومبرغ” خوارزمية مخصصة للكشف عن السفن في هذه الصور، لتصنيفها إما كناقلة فردية أو جنباً إلى جنب، بناءً على الشكل المميز الذي يظهر خلال نقل الشحنات من سفينة لأخرى.
أسطول الظل حبل نجاة إيران
من الممكن أن تكون بعض السفن التي تعمل في هذه المنطقة غير مرتبطة بذلك الأسطول. ومع ذلك، أكد خبراء أمن بحري ووسطاء شحن متعددون أنه لا يوجد سبب واضح يدفع مشغلي السفن الشرعية لإجراء عمليات نقل بعيداً عن الساحل، حيث تكون المخاطر والتكاليف اللوجستية مرتفعة.
بالنسبة لطهران، التي تحتاج بشدة إلى الإيرادات وتفتقر إلى مشترين راغبين، يُعد رهان بحر الصين الجنوبي وسيلة للبقاء. أما بالنسبة للصين، التي لا تخضع للعقوبات الأميركية ولا تعترف بها، فإن الشبكة المعقدة من الوسطاء والسفن المملوكة لشركات وهمية توفر لمصافيها الصغيرة وسيلة للحصول على النفط الرخيص. كما أن هذه الترتيبات تتيح للشركات الصينية الكبرى تجنب العقوبات الثانوية بسهولة. (يمكن للولايات المتحدة أن تقيّد أو تحظر الوصول إلى نظامها المالي لأي شركة أو شخص يثبت تورطه في تجارة مع إيران).
وقالت إيريكا داونز، الباحثة البارزة في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا والمتخصصة بأسواق الطاقة والأوضاع الجيوسياسية في الصين: “كل هذه العوامل تعطي الصين فرصة الإنكار المقبول، فيمكنها، إذا أرادت، أن تقول إنها لا تستورد النفط الإيراني”.
ثغرات في العقوبات
يمثل هذا المركز البحري تهديداً مباشراً لجهود الغرب في تقليص الإيرادات المالية التي تتدفق إلى طهران وموسكو وكاراكاس، ويقدم كذلك تفسيراً واضحاً لصعوبة تنفيذ العقوبات. وقد صرح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، بنيته زيادة الضغط على إيران عند عودته إلى منصبه، لكن الشبكات الواسعة التي تحرك النفط عبر الشبكات الخفية حول العالم غالباً ما تعمل بدون تورط كيانات كبرى بشكل واضح. وكان الوضع مصدر إحباط حتى للإدارة الأميركية الحالية، التي دعت ماليزيا لبذل المزيد لمعالجة مثل هذه الثغرات، ولكن دون جدوى.
قالت وزارة الخارجية الصينية، دون التعليق بشكل محدد على عمليات نقل النفط، إن تجارتها مع إيران مشروعة ومعقولة، ويجب احترامها وحمايتها.
وفي المقابل، لم ترد كل من وزارتي الخارجية والنفط الإيرانيتين، ووزارة الخزانة الأميركية، ووزارة الخارجية الماليزية، ومكتب رئيس الوزراء الماليزي على طلبات التعليق.
مخاطر ملاحية
هناك مخاوف أخرى ذات صلة ولا تقل إلحاحاً. يحذر خبراء الأمن البحري من أن هذه المجموعة المتنوعة من السفن، التي تنقل النفط مع الحد الأدنى من الرقابة، تعني أن حدوث تسرب كارثي هو مجرد مسألة وقت. وفي الوقت نفسه، يشعر مالكو السفن الشرعيون بالقلق إزاء المخاطر التي تهدد أساطيلهم بسبب العدد الهائل من سفن الظل غير المؤمنة التي تعبر ممرات مائية مزدحمة، وغالباً ما تكون أجهزة التتبع الخاصة بها مغلقة. هذا الأمر يجعل اكتشافها صعباً، خصوصاً ليلاً أو أثناء العواصف، مما يزيد من خطر حدوث تصادم.
وقال تشارلي براون، خبير الأمن البحري المقيم في سنغافورة والذي يشغل منصب كبير المستشارين في منظمة “متحدون ضد إيران النووية” (United Against Nuclear Iran)، إن “نطاق وحجم عمليات نقل الشحنات من سفينة لأخرى غير المشروعة في هذه المنطقة أكبر كثيراً مقارنة بالمناطق الأخرى. حيث توجد ميزة جغرافية تتمثل في الطقس الجيد في معظم الأوقات، والقدرة على التنفيذ دون تدخل السلطات”.
نمو أسطول الظل العالمي
يُعد مضيق ملقا الشريان الملاحي الأكثر ازدحاماً بناقلات الوقود في العالم، وطالما تزدحم المياه المحيطة به بمرور حركة التجارة الكبيرة والمشروعة، بدءاً من ناقلات النفط وسفن الحاويات ووصولاً إلى قوارب الصيد.
لكن منذ غزو أوكرانيا والعقوبات الغربية اللاحقة التي تهدف لخفض إيرادات روسيا من الطاقة، نما أسطول الظل العالمي بشكل كبير، وتزايد النشاط بدرجة كبيرة في أهم المواقع البحرية لنقل الشحنات من سفينة لأخرى، ومن بينها على امتداد ساحل اليونان، وخليج عُمان، وخارج ذلك الشريط البحري الضيق بين ماليزيا وإندونيسيا، حيث تزايد عدد السفن التي تعمل لصالح إيران بشكل كبير، بينما تسعى، كمثيلاتها من نفس الدولة، إلى تجنب الموانئ والمياه الإقليمية حيث تكون المراقبة والرصد أشد حزماً.
أما نقطة التجمع في بحر الصين الجنوبي، فتبعد بمسافة مناسبة عن سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا، تمكّن الناقلات من تجنب قدرات إنفاذ القانون لخفر سواحل الدول الثلاث. وبدلاً من ذلك، تتواجد هذه السفن في المنطقة الاقتصادية الخالصة لماليزيا، وهي منطقة تملك فيها ماليزيا اختصاصاً على الموارد الطبيعية، لكن سيطرتها محدودة فيما عدا ذلك.
بمقدور السفن الشرعية استخدام المنطقة كذلك، وهذا ما تفعله، لكن تغلب على نقطة التجمع الصغيرة العلامات المميزة لأسطول الظل، حيث تعمل بها سفن بلغ عمرها 20 عاماً أو أكثر، (العمر الذي تُفكك عنده معظم السفن القانونية)، وغالباً ما تكون مؤمنة من جهات مجهولة أو حتى من شركة “إنغوستراخ” الروسية. ومن بين الدول التي ترفع هذه السفن أعلامها دول غير ساحلية مثل إسواتيني ومنغوليا، أو دول أخرى مصنفة كـ”مصدر قلق” من قبل المنظمة البحرية الدولية.
وفقاً لبيانات من “ستاربورد مارين تايمز”، كان هناك في المتوسط 114 ناقلة نفط في مركز نقطة التجمع تلك خلال شهر أكتوبر. وفي الأيام الأكثر ازدحاماً، وُجدت فيها سبع سفن كانت قد أمضت أكثر من عام في البحر -وهو مؤشر خطر- بالإضافة إلى ما لا يقل عن عشر سفن خاضعة للعقوبات الأميركية، بما في ذلك سفن أُدرجت في قائمة العقوبات في مطلع أكتوبر.
الناقلتان “تايتن” و”وين وين”
عند وصول مراسلي وكالة “بلومبرغ” إلى الموقع في أوائل أكتوبر، على متن سفينة إمدادات مستأجرة للرحلة التي استغرقت سبع ساعات من سنغافورة، كان الحجم الهائل للعمليات واضحاً. عشرات السفن العملاقة، التي تجاوز طول بعضها 305 أمتار (1000 قدم)، ظهرت من بين الضباب.
وبالقرب من حافة التجمع، كانت ناقلتان تابعتان لأسطول الظل راسيتين جنباً إلى جنب، استعداداً لنقل النفط من خزان إحداهما إلى الأخرى. وكانت السفينة “تايتن” (Titan)، البالغ عمرها 21 عاماً، وتحمل علم الكاميرون، منخفضة في المياه بسبب حمولتها الثقيلة من النفط الخام. تُعرف “تايتن” بنقلها النفط الإيراني، وهي سيئة السمعة في أوساط الشحن. ففي تفتيش رئيسي في ميناء تشينغداو بالصين في أبريل 2023، تم احتجاز السفينة بعد العثور على أكثر من 20 مخالفة شملت مجالات مثل قوارب النجاة، والسلامة من الحرائق، والوثائق، ومنع التلوث، وفقاً لقاعدة بيانات الشحن “إيكواسيس”.
لا يّعرف عن “تايتن” أي معلومات عن الشركة المؤمنة عليها، ولا مالكها النهائي. وتفاصيل الاتصال الوحيدة المسجلة لمالكها هي عنوان صندوق بريد في سيشيل. وعندما أرسلت “بلومبرغ” خطاباً يطلب التعليق، رُدت الرسالة مع إخطار لم يستدل على العنوان.
أظهر استعراض السجل الرقمي العام للسفينة أنها كانت بالقرب من مضيق هرمز في 5 سبتمبر. توقفت قبل دخول الممر المائي وبدلاً من ذلك بدأت بالإبحار في دوائر لأكثر من أسبوع، وهي مناورة تُعتبر عادة علامة واضحة على أن السفينة تشارك في عملية نقل نفط من سفينة إلى أخرى.
وأشارت شركة “كبلر” (Kpler) لتحليل بيانات السلع الأولية إلى اعتقادها أن السفينة استلمت بالفعل شحنة من ناقلة أخرى، سبق تحميلها في جزيرة “خرج” التي يوجد بها موقع محطة التصدير الرئيسية في إيران.
ظهرت “تايتن” لاحقاً محملة بالنفط، واتجهت نحو جنوب شرق آسيا، حيث اتخذت في كثير من الأحيان مسارات ملاحية مستقيمة، يستحيل الإبحار فيها في المياه المفتوحة. وبحلول أوائل أكتوبر، كانت تعبر مضيق سنغافورة متجهة شرقاً. تُظهر بيانات تتبع السفن وصور الأقمار الاصطناعية التي حللتها “بلومبرغ” أن السفينة سلكت نفس المسار مراراً من المياه القريبة من إيران إلى بحر الصين الجنوبي.
أظهرت الصور أن السفينة “تايتن” كانت بجانب السفينة “وين وين” بحلول 3 أكتوبر. ويقدم مسار “وين وين” (Win Win) الجزء الآخر من اللغز، حيث تسافر بين مقاطعة شاندونغ وبحر الصين الجنوبي. في 19 سبتمبر، كانت السفينة التي تبلغ من العمر 22 عاماً وترفع علم بنما راسية في محطة بميناء تشينغداو المزدحم.
توضح الإشارات المنبعثة من “وين وين” قيامها برحلة مستحيلة في خط مستقيم، لتصل في النهاية إلى المياه قبالة الساحل الشمالي الشرقي لتايوان في أواخر سبتمبر،قبل أن تتجه جنوباً. تحدث مثل هذه المسارات عندما تقوم السفينة بإيقاف جهاز الإرسال والاستقبال الخاص بها وتبحر دون كشف، ثم تعيد تشغيله في موقع بعيد تماماً. بعد أن استراحت “وين وين” في ماليزيا، اتجهت نحو ميناء دونغ جيكاو، جنوبي تشينغداو، الذي تستخدمه مصافي التكرير الخاصة في الصين.
رفض مسؤول في المقر المسجل للشركة المالكة في لندن، الذي يضم عدداً من الشركات، التعليق حول العملاء أو تقديم بيانات اتصال.
بعد أن أفرغت “تايتن” حمولتها في تلك المناورة، استلمت لاحقاً شحنة أخرى من سفينة إيرانية، بحسب “كبلر”، وتقف منذ مطلع نوفمبر قبالة الساحل الشرقي للصين.
رسمياً، لا يحدث شيء من هذا القبيل. وفقاً لبيانات الجمارك، لم تستورد الصين قطرة نفط واحدة من إيران منذ منتصف عام 2022. وتشير السجلات إلى أن الكميات التي انخفضت بشكل حاد بعد إعادة فرض القيود الأميركية في عام 2018 انقطعت تماماً. لكن في الواقع، تشير تقديرات المحللين والأكاديميين وبيانات تتبع السفن إلى أن الكيانات الصينية تشتري نحو 90% من صادرات إيران النفطية، وهو ما يعادل حوالي 10% من واردات الصين من الخام.
تصاعد المخاطر
كانت واردات الصين من ماليزيا (حيث يُصنف الكثير من هذا النفط المهرب) قريبة من ثمانية أضعاف ما كانت عليه في الفترة نفسها من عام 2018، قبل أن يُعاد فرض العقوبات الأمريكية بالكامل. في عام 2023، استوردت الصين أكثر من 1.1 مليون برميل يومياً من ماليزيا، وفقاً لبيانات الجمارك، وهو رقم يتجاوز بكثير إجمالي إنتاج ماليزيا من النفط الخام، الذي بلغ 508000 برميل يومياً في العام نفسه، بحسب بحسب تقرير المراجعة الإحصائية للطاقة العالمية التي أجراها “معهد الطاقة”.
وفقاً لموقع “تانكر تراكرز” (TankerTrackers.com)، الذي يراقب جميع أنشطة النقل بين السفن، تم رصد 409 عمليات نقل بين السفن في منطقة جزر رياو، وهي منطقة أكبر من المياه التي حللتها “بلومبرغ”، وذلك من يناير حتى نهاية أكتوبر. مقارنة بـ279 عملية فقط خلال عام 2023 بأكمله، وفقاً لما ذكره سمير مدني، المؤسس المشارك لمنصة تتبع السفن.
وقال مدني: “من اللافت جداً أن الأرقام ارتفعت بهذا الشكل الكبير هذا العام. قيامهم بذلك دون مساعدة، دون قوارب سحب، ودون حماية، يمثل إشارة تحذير كبيرة”.
نقل النفط بين السفن في عرض البحر ليس بحد ذاته أمراً غير قانوني. فهناك أسباب مشروعة للقيام بذلك، وتستخدمه الشركات أحياناً لتجنب ازدحام الموانئ، أو للوصول إلى المرافئ المحلية والأقل عمقاً، أو للتعامل مع جداول زمنية ضيقة. لكن معظم هذه الأنشطة تتم عادةً داخل الموانئ أو بالقرب منها، أو في مناطق مخصصة، ويتم إخطار السلطات مسبقاً كما تتطلب المنظمة البحرية الدولية والقواعد الدولية لمنع التلوث البحري. ويتطلب الأمر عمالة ماهرة، ورقابة، وإجراءات تفتيش.
لكن لا يبدو أن هناك أي شفافية في هذه العمليات. لا يظهر سوى المعدات الأساسية المعتادة مثل الخراطيم وواقيات الاصطدام. (غالباً ما تُرصد بقع نفطية بأحجام مختلفة في المياه حول جنوب ماليزيا، على الرغم من أن أسبابها الدقيقة غير معروفة).
قد يكون أي تسرب كبير كارثياً على الدول الساحلية التي تعتمد اقتصاداتها على السياحة والصيد. وللتوضيح، أسفر حادث بسيط في سنغافورة بعد تصادم سفينتين شرعيتين داخل الميناء في يونيو عن تسرب 400 طن من الوقود. واستغرقت حكومة الدولة المدينة الثرية شهوراً لإزالته. بينما يمكن لناقلة نفط عملاقة واحدة حمل 700 ضعف هذه الكمية من الخام.
ويشير “مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف” (Centre for Research on Energy and Clean Air)، وهو منظمة بحثية غير هادفة للربح تركز على قضايا الطاقة وتلوث الهواء، إلى أن تكلفة إزالة التسرب النفطي قد تتجاوز 16 ألف دولار لكل طن متري، فيما تبلغ حمولة ناقلة نفط عملاقة واحدة، وهي السفن الأكثر شيوعاً في الاستخدام، نحو 300 ألف طن.
غياب الرقابة قد أدى بالفعل إلى عواقب وخيمة. ففي مايو من العام الماضي، تسبب انفجار على متن السفينة “بابلو”، وهي ناقلة تابعة للأسطول المظلم كانت قد شوهدت في المياه الإيرانية، في مقتل ثلاثة من أفراد الطاقم. وظلت السفينة المحطمة لعدة أشهر قبالة سواحل ماليزيا، محترقة، ودون أن يطالب بها أحد. وفي النهاية تم ترتيب عملية الإنقاذ بتكلفة بلغت ملايين الدولارات. وظهر وكيل المالك لفترة قصيرة لدفع جزء من التكلفة نقداً، وفقاً لمصدر في مجال الشحن طلب عدم ذكر اسمه لأن القضية خاصة. ولكن الوكيل اختفى لاحقاً.
كما وقع حادث آخر في يوليو الماضي بين ناقلة منتجات نفطية وأخرى تنقل النفط الخام ضمن أسطول الظل، مما أدى إلى نشوب حرائق على كلتا السفينتين. وأظهرت صور الأقمار الصناعية لاحقاً أن السفينة التابعة للأسطول، التي كانت تحمل آثار حروق جزئية، ابتعدت عن ماليزيا. وفي النهاية احتجزتها السلطات الماليزية، إلا أنه تم رصدها لاحقاً وهي تتجه شمالاً نحو الصين.
ويقول وسطاء شحن وخبراء التأمين والقانون البحري إن وقوع المزيد من الحوادث في المياه المزدحمة قبالة ولاية جوهور الماليزية ليس إلا مسألة وقت. وبالنسبة لمالكي السفن الشرعيين، فإن عواقب التورط في حادث مع ناقلة من سفن الظل يشكل مصدر قلق كبيراً، بحسب خالد معين الدين هاشم، المدير الإداري لشركة Precious Shipping Pcl، وهي شركة شحن مدرجة في تايلندا تدير 40 سفينة.
وقال خالد معين الدين هاشم، وهو مالك سفن ذو خبرة تمتد لأكثر من أربعة عقود: “سفن الأسطول تنفذ أنشطتها التجارية المحظورة دون رادع. وهذا يعرض مالكي السفن الآخرين، بما في ذلك مالكي سفن نقل السلع الجافة مثلنا، لمخاطر كبيرة، حيث قد نواجه معاناة لا توصف إذا تورطت سفننا مع هذه الناقلات غير المؤمّنة التي تعمل في التجارة المحظورة، خاصة في حال حدوث تسرب نفطي”.
تجهز اتحادات التأمين المتبادل نفسها أيضاً لوقوع حادث يتعلق بإحدى السفن التي تعمل خارج نطاق تأمين الحماية والتعويض الحالي، و”المجموعة الدولية لنوادي الحماية والتعويض” (International Group of P&I Clubs) التي تشمل غالبية سفن الشحن البحري على مستوى العالم.
قال توني بولسون، مدير قطاع آسيا في نادي غرب إنجلترا للحماية والتعويض، أن النوادي اعتادت التأمين على نحو 95% من أساطيل ناقلات التي تعمل في أعالي البحار، لكن في نتيجة غير مقصودة لنظام العقوبات على نقل النفط الروسي، خرج نحو 800 ناقلة خلال السنوات الماضي، ونغطي حوالي 80% في الفترة الحالية. وأضاف أن “رؤية مئات السفن التي تنقل النفط الخام ويحتمل تشغيلها في إطار منظومة خارج معايير القطاع المقبولة يجب أن تمثل مصدر قلق للدول”.
قدرات محدودة للتصدي لأسطول الظل
تشكل طبيعة الإجراءات المحددة التي يمكن اتخاذها بشأن الأسطول مسألة معقدة، فتبذل ماليزيا جهودها لاحتجاز السفن التي ترسو بشكل غير قانوني قرب الساحل، وبالأخص في منطقتي غرب شبه جزيرة ماليزيا ومدخل مضيق ملقا. لكن بخلاف ذلك، فهناك مزيج يجمع بين الأوليات المتغيرة، والقدرات غير الكافية، والقيود الفعلية على حقوق إنفاذ القانون خارج المياه الإقليمية، ما يعني تراجع شدة الرصد والمراقبة بشكل سريع.
مثل العديد من دول جنوب شرق آسيا، تتردد ماليزيا في تطبيق قيود لم توقع عليها، ولا تُظهر اهتماماً يُذكر بالجدل الأخلاقي. ونتيجة لذلك، أعربت واشنطن علناً عن استيائها، إذ تسعى لتقييد تدفق الأموال إلى طهران، دون أن ترغب في خنق الإمدادات إلى درجة تدفع الأسعار العالمية إلى الارتفاع.
خلال زيارة إلى كوالالمبور في مايو الماضي، أشار مسؤولو وزارة الخزانة الأميركية إلى إن قدرة إيران على نقل النفط تعتمد على مقدمي الخدمات الماليزيين، وتعهدوا بمناقشة الأمر مع الحكومة. وفي الشهر الماضي أُعيد توجيه الرسالة بأن الدول الساحلية نفسها عليها أن تأخذ المخاطر في الاعتبار.
ومع ذلك، لا يوجد دليل يُذكر على اتخاذ أي خطوات بناءً على هذه الرسالة. تمتلك ماليزيا علاقات وثيقة مع إيران وروابط تجارية مهمة مع الصين. كما تواجه تحديات بحرية داخلية أكثر إلحاحاً، بما في ذلك مكافحة تهريب الوقود والإتجار بالبشر. ورداً على المبعوثين الأميركيين، نفى رئيس الوزراء أنور إبراهيم في وقت سابق من هذا العام حدوث أي عملية لنقل شحنات للنفط الإيراني من سفينة لأخرى، قائلاً إنه “ليس هناك أي دليل ملموس”، مضيفاً أن ماليزيا لديها قدرات محدودة في المراقبة.
هذا صحيح جزئياً. يقول غريغ بولينغ، مدير برنامج جنوب شرق آسيا ومبادرة الشفافية البحرية في آسيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: “يمكن القول إن ماليزيا تمتلك واحدة من أقل القوات البحرية تجهيزاً بين الدول الساحلية في المنطقة”. لكن القصة لا تقتصر على ذلك. “السرد الذي يقدمه أنور أيضاً هو أن ماليزيا صديقة للجميع”.
تحديات قانونية ومالية
ويتفق المسؤولون والأكاديميون في كوالالمبور على أن هناك رغبة محدودة في التورط في ما يُعتبر صراعاً يخص أطرافاً أخرى. (مثل الصين، ماليزيا ليست ملزمة بالعقوبات الأمريكية). كما أظهر جيرانها، الذين يواجهون أيضاً مخاطر من أي حادث محتمل، رغبة محدودة في المشاركة.
أفادت هيئة الملاحة البحرية والموانئ السنغافورية في بيان بأن لديها لوائح صارمة بشأن الأنشطة التي تجري في مياه الدولة، وإنها تطبق كل قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالدرجة القصوى، فيما أضاف متحدث رسمي بعدم الحاجة إلى إخطار الهيئة بعمليات نقل الشحنة من سفينة لأخرى التي تتم خارج مياه الدولة.
لم ترد وكالة الأمن الملاحي البحري الإندونيسية ولا الوزير المنسق للشؤون السياسية والقانونية والأمنية على طلبات الحصول التعليق.
في المنطقة الاقتصادية الخالصة (EEZ)، تصبح الصلاحيات معقدة. وبينما يحق لخفر السواحل الماليزي الاقتراب من السفن لطرح الأسئلة أو فحص الوثائق، فإن الصعود على متن السفن يتطلب عادةً إثبات حدوث ضرر بيئي، مثل تسرب جارٍ، أو تعاوناً من الدولة التي ترفع السفينة علمها. وعن ذلك قال جيريمي جوزيف، الشريك الإداري في شركة المحاماة “جيريمي آند بارتنرز”، ومقرها في كوالالمبور، إن “قدرات الإنفاذ محدودة إلى حد ما بموجب القانون الدولي، لا سيما خارج المياه الإقليمية”.
ثم هناك سؤال ما إذا كان هناك حافز مالي حقيقي للتحرك. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهد مضيق ملقا ارتفاعاً ملحوظاً في عمليات القرصنة. ولكن لم تتخذ القوى الإقليمية إجراءات فعالة إلا بعد أن صنفت لجنة الحرب المشتركة في لويدز المنطقة كـ”منطقة حرب عالية الخطورة” في عام 2005، مما أثر على تكاليف التأمين والصورة العامة. ونتيجة لذلك، تم إضفاء الطابع الرسمي على دوريات مضيق ملقا، وهي عملية تنسيق أمني، في العام التالي. وقد أثبتت هذه الجهود نجاحها في تقليل حوادث القرصنة بدرجة كافية دفعت لويدز إلى إزالة التصنيف عالي الخطورة في نفس العام.
لكن التهديد بالعقوبات الثانوية لم يُنظر إليه بعد على أنه كافٍ. كما أن خطر عدم وجود شركة تأمين مسؤولة عن دفع التعويض في حالة حدوث تسرب نفطي أو اصطدام لا يبدو أنه يمثل دافعاً كافياً للتحرك.
حاجة إلى التنسيق
يستغل أسطول الظل البحري جميع الثغرات الغامضة. تقوم السفن بنقل النفط، وتبادل الشحنات، وعند الحاجة، تتلقى الإمدادات والأطقم بمساعدة وسطاء ومنسقين.
هناك أيضاً شبهات بوجود أنشطة إجرامية أخرى تُستغل في نفس المنطقة الرمادية البحرية وباستخدام نفس تكتيكات أسطول الظل. في العام الماضي، تم احتجاز سفينة ترفع العلم الصيني للاشتباه في قيامها بجمع غير قانوني لحطام سفينتين من الحرب العالمية الثانية، هما HMS Prince of Wales وHMS Repulse. تم احتجاز السفينة مرة أخرى في يوليو ثم أُفرج عنها لاحقاً. ولم يرد مالكوها على طلب التعليق.
يُعد الكيان التنسيقي الأقرب مسافة للمنطقة هو “المركز الدولي لدمج المعلومات” (International Fusion Centre) في سنغافورة، وهو عبارة عن شبكة أمن بحري تستضيفها البحرية السنغافورية منذ 2009 وتدعمها مجموعة الدول في جنوب شرق آسيا والغرب، من بينها المملكة المتحدة وأميركا. ويجمع المركز المعلومات عن التجارة غير المشروعة من التقارير الدورية التي يقدمها مسؤولو الاتصال ووسائل الإعلام.
بصفته كياناً دبلوماسياً قائماً على التوافق ويعتمد على علاقاته بالدول الأعضاء، لا يمكن للمركز اتخاذ إجراءات دون طلب من ماليزيا. لذلك، فإن النجاحات التي حققها كانت في مجالات أقل إثارة للتوترات السياسية، من بينها القرصنة والهجرة غير الشرعية والتهريب. ورفض المتحدث باسم “المركز الدولي لدمج المعلومات” التعليق.
دعم مالي أميركي
أشار بولينغ، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أنه يجب على الولايات المتحدة تغيير موقفها من الاكتفاء بإصدار البيانات التوبيخية إلى الإنفاق، لتتمكن من حشد الزخم إلى جانبها، عبر “خفض التكلفة وتسهيل الإجراءات على الدول الساحلية، وزيادة قدراتها ومشاركة العبء معها، وليس بتوجيه الانتقادات العلنية”.
كما يجب أن تستعد الولايات المتحدة لمواجهة تأثير أي تراجع ملموس في الإمدادات على أسعار النفط بشكل عام، فرغم أن إيران أشارت إلى أن نتيجة انتخابات الرئاسة الأميركية “لا تمثل مصدر اهتمام خاص”، ولا ترى في إعادة انتخاب ترمب سبباً للقلق، إلا أنه يُتوقع أن تتزايد الضغوط على طهران. وسيفضي فرض أي عقوبات شديدة على إيران وأي دولة تتعامل معها تجارياً إلى ارتفاع التكاليف، وزيادة العقبات، وتوجيه مزيد من التجارة إلى سفن الظل القديمة، لكن يُستبعد أن يؤدي ذلك إلى توقف تدفقات النفط المتجهة إلى الصين.
لفت ترونغ إنغوين، الزميل الباحث في مركز القانون الدولي بجامعة سنغافورة الوطنية، إلى أن هناك إجراءات يمكن تنفيذها، “تطورت المخاطر الناجمة عن سفن الظل من الخسارة الاقتصادية إلى تهديد أمن وسلامة الدول الساحلية”.
تُعد زيادة الرصد والمراقبة نقطة البداية، حيث يفرض قانون الملاحة البحرية على السفن المشاركة في عمليات نقل الشحنة لسفينة أخرى إخطار الدول الساحلية باعتزامها ذلك، واتباع إجراءات متفق عليها، كما يمثل التسبب في التلوث مخالفة لهذا القانون، لذلك، قد تبدأ السلطات بتشديد المراقبة، إذا أرادت.
واستطرد إنغوين أن في غياب أي إجراءات، فإن المنطقة التي يعيش فيها ملايين الأشخاص،وتعتمد على السياحة والتجارة البحرية والصيد، والتي تُعد واحدة من أكثر الممرات الملاحية ازدحاماً في العالم، ستتنظر وقوع الأسوأ. الدول لا تتجاوب إلا عند وقوع كارثة، مثلما حدث في حالة القرصنة أو التلوث البحري، لكن عندما يتعلق الأمر بسفن الظل ومخاطرها المحتملة، فعلى الدول ألا تكرر الخطأ نفسه.
منهجية التحليل
ركّز تحليل “بلومبرغ” للطابع المتغير لتجارة النفط في بحر الصين الجنوبي على قطاع بمساحة 3,670 كيلومتراً مربعاً (1,417 ميلاً مربعاً) من المنطقة الاقتصادية الخالصة لماليزيا، التي تقع شرق أقصى جنوب شبه جزيرة ماليزيا، وحُددت إحداثيات المنطقة محل الاهتمام بناءً على المعلومات الأولية من موقع “تانكر تراكرز”، وهو منصة خدمات إلكترونية مستقلة تتبع نشاط أسطول الظل وتعد تقارير عنها، إلى جانب بيانات “بلومبرغ” لتتبع السفن.
لتحليل مسار حركة السفن وعمليات نقل الشحنات من سفينة لأخرى، استخرجت “بلومبرغ” صور الأقمار الاصطناعية المتاحة للعموم على مدى 566 يوماً ما بين 1 يناير 2020 و4 أكتوبر 2024، التي التقطها القمران الصناعيان “سنتينل 1” و”سنتينل 2″، اللذان تشغلهما وكالة الفضاء الأوروبية، ثم استخدمنا خوارزمية مخصصة للتعرف على السفن على هذه الصور، وصنفناها إلى “سفينة منفردة” أو “سفينتين متجاورتين” استناداً إلى شكلها المميز. كما صُورت مواقع السفن وأختامها الزمنية واستخدمت في تحليل العينة.
لم تُلتقط الصور في كل الأيام، إما لأن القمران الصناعيان لم يمرا أعلى المنطقة محل الاهتمام، أو لأن الصور لم تكن واضحة رغم المزج بين التصوير البصري والتصوير بالرادار، وخلال المدة بأكملها، شمل التحليل 566 يوماً فقط من 1739 يوماً.
وفي هذه الأيام، كشف التحليل عن اتخاذ 2006 سفن الشكل المتجاور، الوضع الذي يشير إلى إجراء عملية نقل الشحنة من سفينة لأخرى، من بين 25699 سفينة تبحر عبر المنطقة، ومن بين الصور التي لدينا لمدة 566 يوماً، تأكدنا من الشكل المميز لنقل الشحنة من سفينة لأخرى مرة واحدة على الأقل خلال 319 يوماً.
كان اليوم الأكثر ازدحاماً في تحليلنا هو 15 يوليو 2024، بما يزيد عن 20 عملية محتملة لنقل الشحنات، ومن بين الأيام العشرة الأكثر ازدحاماً، 6 منها كانت في 2024.
خلال الفترة الممتدة ما بين 1 يناير و4 أكتوبر 2024، حددنا 570 سفينة متجاورة، ما يناهز 285 عملية نقل للشحنات. ورغم عدم التمكن من استبعاد احتمال أن تكون بعض هذه السفن شرعية، يشير خبراء الملاحة البحرية إلى عدم وجود سبب وجيه لتعمل فيه الشركات العادية بهذه الطريقة، نظراً للتكاليف الإضافية المرتبطة بتنفيذ هذه العمليات خارج الميناء.
عادةً ما يُنقل النفط الإيراني على ناقلات نفط عملاقة، ومع التقدير المتحفظ لتكوين الأسطول، وافتراض أن ثلثه من الناقلات العملاقة والثلث من ناقلات “سويزماكس” (Suezmax) والثلث المتبقي من ناقلات “أفراماكس” (Aframax)، ما يكوّن مزيجاً معقولاً، يشير ذلك إلى نقل نحو 350 مليون برميل من النفط. وبضرب هذه الكمية بمتوسط سعر النفط خلال 2024، بعد حساب التخفيض على سعر الخام الخاضع للعقوبات، تتجاوز الحصيلة 20 مليار دولار.
رغم التأكد من نقل النفط الإيراني من سفينة لأخرى أكثر من مرة، وأن هذه العملية قد تستغرق 48 ساعة، يرتفع خطأ حدوث ازدواج في العد، بينما يشير حجم السفن والنطاق الفعلي لنقطة التجمع والأيام التي كانت الطقس فيها مليئاً بالغيوم، إلى أن هذا التقدير أقل من الواقع.
لا يمكن التأكد بشكل قاطع من منشأ كل شحنة جرى نقلها في هذه المنطقة، لكن مصادر الأمن البحري ووساطة السفن تقول إن الغالبية تأتي من إيران، إضافة إلى كميات صغيرة من النفط الفنزويلي، وأحياناً شحنات من النفط الروسي. بينما ارتبطت السفن التي تحققت منها “بلومبرغ” بشحنات إيرانية.