مبدأ حرية التعبير المطلقة الذي يؤيده إيلون ماسك مليء بالعيوب
يكاد لا يمر يوم دون أن يعلن إيلون ماسك عن اعتقاده الراسخ بالأهمية المطلقة لحرية التعبير، ويصر على أن “التحكم في المحتوى مجرد مصطلح دعائي للرقابة”، وأنه لا يجب حذف أي منشور ما لم يخالف القانون، كما لا يجب التدخل في آراء الآخرين، مهما كانت غريبة. وقال إنه إذا كان موقع التواصل الاجتماعي “إكس” الذي يملكه سيمثل ساحة عامة تجمع الناس من شتى أنحاء العالم، فيجب أن يكون منصة لحرية التعبير.
على الرغم من أن منشورات ماسك عن حرية التعبير زادت بشكل كبير منذ خلافه مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بسبب الدور الذي أدته “إكس” خلال أعمال الشغب التي شهدتها البلاد في الآونة الأخيرة، فلا شك أنها لا تمثل القناعات الرئيسية لماسك وحده، بل ولنخبة “وادي السيليكون” أيضاً.
في 2019، قال زميله قطب التكنولوجيا مارك زوكربيرغ لجمهور في جامعة جورج تاون إنه يجب علينا “التصدي لرغبة وضع تعريف للتعبير”، وأبدى ندمه قبل أيام قليلة على الرضوخ لضغط إدارة بايدن “لفرض رقابة” على محتوى مرتبط بكورونا.
من يربح معركة الأفكار؟
تقوم الحجة المؤيدة لحرية التعبير المطلقة على مفهوم ما يزال يمثل جوهر الليبرالية إلى الآن، لكن المنصة التي يملكها ماسك نفسها هي من تهدم ذلك المفهوم، وتفيد تلك الحجة بأن معركة الأفكار ستؤدي إلى انتصار حتمي للحقيقة على الزيف، والديمقراطية على الاستبداد، والمغلوب على أمرهم على أصحاب النفوذ والسلطة.
أنصت لما قاله ثلاثة من أبرز مؤيدي الليبرالية؛ تسائل جون ميلتون: “هل رأى أحدكم يوماً هزيمة الحقيقة في نقاش حر مفتوح؟”. وأصر جون ستيورات ميل على أن الحقيقة ستنبعث حتماً من “الصراع بين الأفكار المختلفة”. واستنتج أوليفر وندل هولمز أن الاختبار الأمثل للحقيقة يكمن في قدرتها على الانتصار “في السوق الحرة للأفكار”.
إن معركة الأفكار مفيدة للديمقراطية، إذ تمكن الأفضل من الفوز في الساحة العامة، ونافعة للنظام العام لأنها تتيح للجميع التعبير عن خلافاتهم قبل الخضوع للإرادة الديمقراطية. كما أنها تفيد سلامة المجتمع بشكل عام، إذ تسمح للشعب بمحاسبة أصحاب السلطة، وقال ماسك صراحةً إن “حرية التعبير هي أساس الديمقراطية”.
رغم ذلك، فشلت حرية التعبير التي تُمارس على “إكس” ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى في كل تلك الاختبارات. فالتغريدات المثيرة تنتشر بشكل أكبر وأسرع من مثيلتها الرزينة، والشخصيات التي تمارس الاستقطاب تجذب متابعين أكثر من نظرائها أصحاب الآراء المنطقية، وآليات النقاش المتاحة، مثل نشر الردود والتصحيح، أضعف من آليات الدعاية والشهرة.
الأخبار المغلوطة تهدد الديمقراطية
في العالم الواقعي، يلتزم معظم الناس الحذر حيال اختيار معارفهم، أما في العالم الافتراضي، فيتخلون عن كل هذا الحذر، ينصتون لأشخاص كانوا سيتحاشون الظهور معهم علناً، إما لأن المتابعة بدافع الفضول، أو لأن خوارزمية “تويتر” تدفع بهذه الشخصيات أمامهم، وهو السبب الأرجح.
هكذا تحولت القيمة التقليدية لشبكة التواصل الاجتماعي، فبدلاً من “تنظيف” المحتوى وتنقية المعلومات، يجمع النظام بين الحقيقي والزائف، والمصادر الموثوقة والمشبوهة. رغم ذلك، فالأسوأ أن المستخدم لم يعد قادراً على التمييز بين آراء الأشخاص الحقيقيين والمصطنعين.
كشفت دراسة أجراها الباحثون بجامعة “كارنيغي ميلون” على 200 مليون تغريدة عن فيروس كورونا تم إرسالها خلال الأشهر القليلة الأولى من عام 2020 أن 45% منها أرسلتها روبوتات وليس بشر على الأرجح، وكانت تهدف إلى بث الانقسام في الولايات المتحدة.
لذلك، بات احتمال أن تُضعِف “تويتر” الديمقراطية أكبر من أن تعززها؛ اندلعت أعمال الشغب في المملكة المتحدة بالآونة الأخيرة عندما غرّد مستخدم خبراً زائفاً عن أن الرجل الذي قتل 3 فتيات في ساوث بورت كان لاجئاً مسلماً وصل البلاد على متن قارب صغير. (ربما انتشرت تلك الشائعات دون “تويتر” بالطبع، لكن حقيقة أن المنصة تصل إلى عدد هائل من الناس وتنشر الشائعات غير المؤكدة إلى جانب مصادر الأنباء الموثوقة في المنشورات الجديدة جعلت الأمر أكثر خطورة).
تتعمد القوى الأجنبية، على الأخص روسيا، استخدام معلومات مضللة تنشرها جهات مشبوهة في بعض الأوقات، وروبوتات في أوقات أخرى، بهدف تأجيج التوتر الاجتماعي، ونشر الشائعات، والدفع إلى الارتياب العام.
دوافع منصات التواصل الاجتماعي تجارية
أما فيما يخص السلطة، انقلب النموذج الليبرالي القديم رأساً على عقب تماماً. فكان يُفترض أن تمكّن حرية التعبير الشعب من محاسبة الحكومات القوية، لذلك، كانت الصحافة هي الوحيدة التي خصها الآباء المؤسسون بالذكر في التعديل الأول على الدستور الأميركي.
لكن حالياً، أصبحت المنصات، وليس الحكومات، من بيدها السلطة، فهي تعمل في جميع أنحاء العالم (عدا الصين التي تقبع حالياً خلف “جدار الحماية العظيم”) وفق مبادئ لا يفهمها إلا نخبة قليلة في “وادي السيليكون”. حيث بلغ عدد المستخدمين النشطين شهرياً على “إكس” 368 مليون مستخدم، فيما تجاوز عددهم على “فيسبوك” أكثر من 3 مليارات. لذلك قد يظن ماسك نفسه جورج واشنطن العصر الحديث، إلا أنه في الحقيقة أقرب إلى كونه الملك جورج الثالث.
تعد المشكلة الأعمق في منصات التواصل الاجتماعي أنها لا تمثل ساحات عامة تهدف إلى التشجيع على النقاش المفتوح والتفكير الديمقراطي، فهي شركات تجارية مصممة لجذب الانتباه وتعزيز التفاعل، وأهم مقياس لديها ليس انتصار الحقيقة على الزيف، بل عدد النقرات والإعجابات وإعادة التغريد التي تحصل عليها المنشورات. وهذا الرقم لا علاقة له بالبحث عن الحقيقة أو التفكير الديمقراطي مقارنة بعكسه؛ المواد التي تمارس الاستقطاب والمثيرة تسبب زيادة إفراز الدوبامين الذي نتوق إليه، وتدفعنا إلى مواصلة التصفح وإعادة التغريد.
حرية التعبير لا تعني غياب القيود
يتعين علينا خوض نقاش حيوي حول كيفية الموازنة بين الحرية والمسؤولية، ولإحراز أي تقدم في هذا النقاش، علينا التخلص من الحدود المطلقة (الحرية مقابل الاستبداد) وأن نأخذ في اعتبارنا نوعين من الفروق الدقيقة. يتمثل النوع الأول في وجود أنواع مختلفة من التعبير عن الرأي، بدءاً من الرأي السياسي (الذي يتفق معظم الناس على ضرورة حمايته)، إلى الرأي التجاري، وانتهاءً بالترهيب.
لكن التزام أميركا بالتعديل الأول (للدستور) لم يمنعها من فرض قيود على الرأي غير السياسي على أساس الصحة أو الدقة. فعلى سبيل المثال، تتحكم هيئة الأوراق المالية والبورصات في ما قد يقوله الناس عند بيع منتجات مالية، فيما تحدد إدارة الغذاء والدواء ما يجب أو ما لا يجب أن يُقال عن منتجات بعينها، كما تحظر لجنة التجارة الفيدرالية الرأي “المجحف والمضلل” في ما يتعلق بالتجارة والتداول.
أما الفرق الدقيق الثاني، فهو وجود عدد كبير من أنواع التنظيم المختلفة، بدءاً من الشامل ووصولاً إلى البسيط. سيغريني تطبيق النموذج البريطاني للبث على المنصات الإخبارية، فللحصول على ترخيص للعمل، يتعين على مقدمي البث البريطانيين إثبات أنهم “أشخاص لائقين ومؤهلين”، وعليهم الموافقة على نقل الأخبار “بالحيادية اللازمة والدقة الواجبة”.
أما بالنسبة للأشخاص الذي يرون تلك المتطلبات قاسية، هناك المزيد من المعايير الأقل شدة، مثل إلزام مستخدمي “إكس” -الذين يتابعهم عدد كبير- بالالتزام بأعلى المعايير بدرجة أكبر من المستخدمين العاديين، أو حظر مثيري المشاكل المعروفين.
تفرض جميع المجتمعات الرشيدة قيوداً على قدرة الناس على الصراخ بكلمة “حريق” في مسرح مكتظ، رغم ذلك، فهذا بالتحديد ما يفعله عدد كبير مقلق على منصات التواصل الاجتماعي. لم يعد ممكناً قبول الفرضية القديمة بأنه يجب السماح لتلك المنصات بفعل ما يحلو لها تحت راية حرية التعبير عندما تملك هذا القدر الكبير من النفوذ، وتتضارب دوافعها التجارية مع السعي وراء الحقيقي بشكل واضح.