مالياً ورياضياً.. كيف غيرت الاستثمارات العربية وجه الكرة الأوروبية؟

ليلة البارحة السبت، تمكّن فريق “باريس سان جرمان” الفرنسي، المدعوم قطرياً، من الفوز ببطولة دوري أبطال أوروبا للمرة الأولى في تاريخه. وقبله بأسبوع، استطاع ناديان إنجليزيان مدعومان عربياً، “مانشستر سيتي” المملوك لأبوظبي، “ونيوكاسل يونايتد” المملوك لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، من التأهل لدوري أبطال أوروبا العام المقبل، بعد حلولهما ضمن الخمسة الأوائل. في حين احتل “أستون فيلا” المملوك جزئياً للملياردير المصري ناصف ساويرس المركز السادس ليحجز مكاناً بمشابقة “يوروبا ليغ” الموسم القادم.
هذه المنجزات الرياضية تمثل ترجمةً على أرض المستطيل الأخضر لصعود الاستثمارات العربية في كرة القدم الأوروبية إلى الواجهة العالمية، بعدما تجاوزت حدود الرعاية إلى الاستحواذ الاستراتيجي، ولتصبح أداة مالية ودبلوماسية بامتياز، ومنصات للقوة الناعمة.
قبل عام 2000، اقتصر الحضور العربي على الرعاية الجزئية أو الدعم المالي المحدود من رجال أعمال، وأبرز المشاركات كانت رعايات شركات الطيران الخليجية لقمصان أندية أوروبية كبرى. وفي عام 1997، استحواذ رجل الأعمال المصري محمد الفايد على نادي فولهام اللندني نظير 6 ملايين جنيه استرليني واستطاع الارتقاء به من الدرجة الثالثة إلى الدوري الممتاز، لكنه باع النادي عام 2013 إلى الملياردير الأميركي من أصول باكستانية شاهد خان مقابل 150 مليون جنيه استرليني.
كانت هذه المشاركات تمهيداً لدخول الاستثمارات العربية بشكل أكثر فاعلية وتأثيراً في كرة القدم الغربية، فقد شكل استحواذ “مجموعة أبوظبي المتحدة للتنمية والاستثمار” على “مانشستر سيتي” نقطة تحول في هذا المجال.
ما أبرز الاستثمارات العربية في كرة القدم؟
كانت “مجموعة أبوظبي المتحدة للتنمية والاستثمار”، المملوكة للشيخ منصور بن زايد آل نهيان، بين أولى الجهات العربية التي رسّخت حضورها في كرة القدم العالمية. ففي عام 2008، استحوذت المجموعة على نادي “مانشستر سيتي” الإنجليزي، في صفقة قُدرت حينها بنحو 210 ملايين جنيه إسترليني، لتتحول لاحقاً إلى “مجموعة سيتي لكرة القدم” التي تدير حصصاً في أكثر من 10 أندية حول العالم، منها “نيويورك سيتي” الأميركي و”ملبورن سيتي” الأسترالي و”جيرونا” الإسباني و”باليرمو” الإيطالي، ما يعكس استراتيجية إماراتية لبناء شبكة رياضية عالمية ذات طابع تجاري واستثماري.
وفي عام 2011، استحوذت “قطر للاستثمارات الرياضية”، المدعومة من جهاز قطر للاستثمار، على نادي “باريس سان جيرمان” الفرنسي بالكامل، وتُقدّر الاستثمارات القطرية في النادي بأكثر من 1.5 مليار يورو خلال السنوات الماضية، تشمل شراء اللاعبين والبنية التحتية والتسويق، ما حوّل النادي إلى أحد أغنى أندية أوروبا. يرأس المشروع ناصر الخليفي، واستطاع أن يحقق لنادي العاصمة الفرنسية لقباً تاريخياً طال انتظاره بفوزه على “إنتر ميلانو” الإيطالي 5-0 بنهائي دوري أبطال أوروبا، المرعوفة بالكأس ذات الأذنين.
بدوره، دخل صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) بقوة إلى عالم كرة القدم من خلال استحواذه في أكتوبر 2021 على 80% من أسهم نادي “نيوكاسل يونايتد” الإنجليزي، ضمن صفقة قُدرت قيمتها بـ305 ملايين جنيه إسترليني. يُنظر إلى هذه الخطوة كجزء من استراتيجية أوسع لـ”رؤية السعودية 2030″، الهادفة إلى تنويع الاقتصاد السعودي وتعزيز مكانته الدولية في قطاعات غير نفطية، من بينها الرياضة والترفيه. كما يخطط الصندوق لتوسيع حضوره من خلال شراكات واستثمارات في أندية إضافية حول العالم.
كما يمتلك رجل الأعمال المصري ناصف ساويرس، بالتعاون مع رجل الأعمال الأميركي ويس إيدنز، نادي “أستون فيلا” الإنجليزي عبر شركة “في سبورتس” (V Sports). لم تعلن تفاصيل الصفقة الأصلية بالكامل عند الاستحواذ عام 2018، إلا أن التقارير تُقدّر مساهمة ساويرس في الصفقة بما يفوق 90 مليون جنيه إسترليني. لم يتوقف نشاط “في سبورتس” عند إنجلترا، إذ استثمرت في أندية في البرتغال وإسبانيا، وأسست شراكات استراتيجية مع أندية في مصر واليابان، ما يعكس توجهاً استثمارياً متنوعاً يربط بين العوائد الاقتصادية وتنمية المواهب.
رغم أن الاستثمارات الأردنية في كرة القدم الأجنبية ليست بنفس الحجم أو الانتشار كغيرها من الدول الخليجية، إلا أنها بدأت تبرز من خلال مساهمات رجال أعمال أردنيين بالتعاون مع كيانات عربية أخرى. ومن بين أبرز الأمثلة استحواذ شركة “سكاي لاين إنترناشيونال”، ومقرها قطر، على نادي “إلتشي” الإسباني، حيث يتولى رجل الأعمال الأردني معاوية شطناوي منصب المدير التنفيذي للنادي.
هل كان طريق الاستثمارات العربية سهلاً؟
لم يكن طريق الاستثمارات العربية في كرة القدم الأوروبية مفروشاً بالورود، بل واجه العديد من المصاعب والمعوقات. نستعرض أبرزها فيما يلي:
دعم حكومي يؤثر بالمنافسة: في يوليو 2023، قدّم خافيير تيباس، رئيس رابطة الدوري الإسباني “لا ليغا”، شكوى إلى المفوضية الأوروبية يتهم فيها ناديي “مانشستر سيتي” و”باريس سان جيرمان” بتلقي دعم مالي غير عادل من حكومات أبوظبي وقطر، ما يمنحهما ميزة تنافسية غير عادلة. ورغم أن المفوضية لم تتخذ إجراءات بسبب نقص الأدلة والموارد، إلا أن القضية أثارت جدلاً واسعاً حول تأثير الاستثمارات السيادية على توازن المنافسة في كرة القدم الأوروبية.
قيود وضوابط تحد من حرية ضخ الاستثمارات: الاتحاد الأوروبي لكرة القدم “يويفا” يضع قيوداً تؤثر على حرية التوسع وضخ الاستثمارات، بما في ذلك عدم السماح لأكثر من نادٍ مملوك بالأغلبية لجهة واحدة من المشاركة بنفس البطولة الأوروبية التابعة له، مثلما حدث لـ”مانشستر سيتي” الإنجليزي و”جيرونا” الإسباني، ما دفع مجموعة “سيتي” لتقليص حصتها في “جيرونا” كي يشارك الفريقان في دوري أبطال أوروبا 2024-2025.
تغيير قواعد الرعاية بما يحد من إنفاق المستثمرين العرب: واجهت الاستثمارات العربية مصاعب في الاستفادة من رعاية الشركات التابعة لذات المستثمرين، كما حدث في الدوري الإنجليزي، باستحداث لائحة معاملات الأطراف المرتبطة “إيه بي تي” التي تقيد المعاملات التي يمكن للأندية إجراؤها مع شركات مملوكة لأصحابها، التي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 2021، عندما قام صندوق الاستثمارات العامة السعودي بالاستحواذ على نادي “نيوكاسل يونايتد” الإنجليزي.
كيف انعكس الاستحواذ العربي على الأداء الفني للنوادي مقارنةً بقبل الاستثمار؟
أدت الاستحواذات العربية إلى تحولات جذرية في الأداء الفني للنوادٍ، مقارنةً بما كانت عليه هذه الأندية خلال السنوات الخمس السابقة للاستثمار. وقد انعكست هذه التحولات في النتائج، وجودة التشكيلة، والنهج التكتيكي.
قبل الاستحواذ العربي، عانت أندية مثل “مانشستر سيتي”، “باريس سان جيرمان”، و”نيوكاسل يونايتد” من تراجع في النتائج وغياب شبه دائم عن المنافسات الأوروبية الكبرى، مع تشكيلة تفتقر إلى النجوم واعتماد على صفقات منخفضة الكلفة. كما اتسم النهج التكتيكي بغياب القيادة الفنية عالية المستوى.
أما بعد الاستحواذ، فقد تحسّن الأداء الفني بشكل جذري؛ حيث حصد مانشستر سيتي ألقاباً متتالية في الدوري بالإضافة إلى لقب دوري أبطال أوروبا، وهيمن “باريس سان جرمان” على الدوري الفرنسي وفاز بآخر دوري أبطال محققاً إيرادات مالية ناهز 150 مليون يورو، وتأهل نيوكاسل لدوري الأبطال بعد غياب طويل، ومثله “أستون فيلا”، بينما عزّزت الأندية تشكيلاتها بصفقات عالمية ومدربين من النخبة. ووفقاً لتقارير “فيفا” و”مركز ويلسون”، ساهم الإنفاق الكبير في تغيير المشهد التنافسي وتوسيع الجدل حول العدالة المالية في كرة القدم الأوروبية.
وفيما يلي جدول يبرز كيف تحول أداء النوادي الأربع الأبرز قبل وبعد الاستحواذ:
المعيار |
مانشستر سيتي – الإمارات (2008)
|
باريس سان جيرمان – قطر (2011)
|
نيوكاسل يونايتد – السعودية (2021) |
أستون فيلا – مصر (2018) |
النتائج قبل | مراكز متوسطة في الدوري الإنجليزي. غياب عن البطولات الأوروبية. آخر لقب محلي في 1976. | أداء متوسط. لقبين فقط في تاريخه. غياب عن المنافسات الأوروبية الكبرى. | مراكز متأخرة في الدوري الإنجليزي، هبوطين إلى الدرجة الثانية. غياب عن البطولات الأوروبية. | هبوط من الدوري الإنجليزي الممتاز في 2016، مراكز متوسطة في دوري الدرجة الأولى، وفشل في التأهل عبر التصفيات في 2018. |
النتائج بعد | تحقيق 7 ألقاب دوري إنجليزي، الفوز بدوري أبطال أوروبا 2023، وثلاثية تاريخية في موسم 2022-2023، بقيادة بيب غوارديولا منذ 2016. | هيمنة محلية بتحقيق 9 ألقاب دوري منذ 2011، والوصول إلى نهائي دوري أبطال أوروبا في 2020، والفوز ببطولة 2025، بقيادة لويس إنريكي. | تأهل الفريق إلى دوري أبطال أوروبا في موسم 2022-2023، وفاز بكأس الرابطة الإنجليزية في 2025، وهو أول لقب محلي منذ 70 عاماً، تحت قيادة إيدي هاو. | تأهل الفريق إلى دوري أبطال أوروبا في موسم 2024-2025 لأول مرة منذ 1982، ووصل إلى نصف نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي في 2025ـ تحت قيادة أوناي إيمري. |
النهج التكتيكي وجودة التشكيل قبل
|
تشكيلة تفتقر للنجوم العالميين، والاعتماد على لاعبين محليين وصفقات منخفضة الكلفة، وأساليب لعب تقليدية دون فلسفة تدريبية واضحة.
|
تشكيلة محدودة تعتمد على لاعبين محليين، لا صفقات كبرى، وأساليب لعب دفاعية تقليدية بدون ابتكار. | تشكيلة محدودة الجودة تعتمد على لاعبين محليين، دون استثمارات كبيرة، وأساليب لعب تقليدية دون فلسفة تدريبية واضحة. | تشكيلة محدودة الجودة، معتمدين على لاعبين محليين وصفقات منخفضة الكلفة، وأساليب لعب تقليدية بدون فلسفة تدريبية واضحة. |
النهج التكتيكي وجودة التشكيل بعد
|
استقطاب نجوم عالميين مثل هالاند، دي بروين، ومحرز. اعتمد الفريق على أسلوب الاستحواذ والضغط العالي. | جذب نجوم عالميين مثل نيمار، مبابي، وميسي. تحول الفريق إلى أسلوب هجومي متوازن يعتمد على الضغط العالي والمرونة التكتيكية، مع التركيز على اللاعبين الشباب. | شراء برونو غيماريش، ألكسندر إيزاك، وكيران تريبيير، مع استثمارات تجاوزت 400 مليون جنيه إسترليني، واعتماد أسلوب لعب يركز على التنظيم الدفاعي المحكم والارتداد السريع. | جلب نجوم مثل ماركوس راشفورد، وماركو أسينسيو، مع استثمارات تجاوزت 700 مليون جنيه إسترليني. اعتمد الفريق على أسلوب لعب هجومي متوازن وتنظيم دفاعي محكم، مما أدى إلى تحسن كبير في الأداء والنتائج |
فيما يتجاوز المستطيل الأخضر
لم تُحسن الاستثمارات العربية الأداء الفني فحسب، بل امتد تأثيرها لمجالات أخرى مثل العلامة التجارية، والقيمة السوقية، والبنية التحتية، والتحول الرقمي، وتعزيز التفاعل الجماهيري.
فمن حيث العلامة التجارية، أسهمت الاستثمارات العربية في إعادة تشكيل العلامات التجارية للأندية الأوروبية، فحوّلتها من كيانات محلية إلى رموز عالمية ذات حضور ثقافي وتسويقي واسع. اعتمدت هذه التحولات على حملات ترويجية موجهة، شراكات تجارية قوية، وتطوير الهوية البصرية بما يعكس هوية المستثمر. كما عززت الاستثمارات من التفاعل الجماهيري، ووسعت القاعدة الجماهيرية.
ومن حيث القيمة السوقية، أظهر تقرير دوري “ديلويت” المالي لكرة القدم 2025، احتلال “مانشستر سيتي” المرتبة الثانية عالمياً في إيرادات موسم 2023/2024، محققاً 838 مليون يورو، بفضل هيمنته الرياضية واتساع قاعدة مشجعيه عالمياً.
أما “باريس سان جيرمان”، فقد صعد إلى المركز الثالث بإيرادات بلغت 805.9 مليون يورو، مدفوعة بعقود رعاية ضخمة وانتشار واسع في آسيا والشرق الأوسط. وبدعم سعودي، صعد “نيوكاسل يونايتد” إلى المركز 15 مسجلاً 371.8 مليون يورو، ما يعكس تأثير التأهل إلى دوري الأبطال وتوسيع قاعدة الجماهير، أما “أستون فيلا”، فدخل لأول مرة منذ 2009 قائمة العشرين الكبار بإيرادات بلغت 310.2 مليون يورو، بفضل الأداء المتصاعد والاستثمار في التسويق والبنية المؤسسية.
وفيما يخص البنية التحتية وتجربة الجماهير، فقد استثمر “مانشستر سيتي” 300 مليون جنيه إسترليني في توسعة ملعب الاتحاد، مضيفاً فندقاً ومتحفاً ومنطقة ترفيهية، كما يعمل على تطوير منظومة ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحسين تجربة المشجعين.
وأنشأ “باريس سان جيرمان” مسرّع ابتكار رياضي لاكتشاف المواهب، ورفع عدد مقاعد ملعبه، ما ساهم في ارتفاع إيرادات التذاكر إلى 170 مليون يورو سنوياً، مقارنة بـ40 مليون يورو عام 2013، وأطلق “أستون فيلا” خطة لتجديد “فيلا بارك”، تشمل إنشاء منطقة تفاعلية للجماهير.
قوة كرة القدم الناعمة
مثّلت استحواذات الدول العربية على أندية غربية كبرى أداة فعّالة لتعزيز حضورها الدولي عبر القوة الناعمة إذ رسّخ “مانشستر سيتي” موقع أبوظبي على الساحة العالمية من خلال النجاح الرياضي وتوسيع العلاقات مع بلديات ومؤسسات أوروبية، ضمن مشروع “سيتي فوتبول غروب” (City Football Group) الذي يُستخدم كنموذج دبلوماسي ثقافي واقتصادي.
أما “باريس سان جيرمان”، المدعوم قطرياً، فقد أصبح واحداً من أبرز رموز النفوذ الرياضي والإعلامي للدوحة، خصوصاً خلال تنظيم كأس العالم 2022، ما ساهم في إعادة تشكيل صورة قطر في العواصم الغربية.
وجذب استحواذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي على “نيوكاسل يونايتد” اهتماماً إعلامياً في بريطانيا وأوروبا، وساهم في تسليط الضوء على التطورات التي تشهدها الرياضة السعودية، بما في ذلك دوري “روشن” لكرة القدم الذي أصبح يضم نخبة النجوم العالميين، وعلى المملكة كوجهة سياحية وترفيهية دولية، بما يندرج ضمن مستهدفات رؤية 2030 بتنويع مصادر الدخل بعيداً عن المورد التاريخي النفط.