كيف يُعيد المليارديرات الخفيون تشكيل الاقتصادات من وراء الستار؟

في زمن يُغرّد فيه المشاهير من الأثرياء بصور حفلاتهم الصاخبة، هناك طريقة أكثر هدوءاً –أو قل صمتاً – لإبرام الصفقات، دون صور “سيلفي” مع الأبراج الزجاجية أو تصريحات نارية في المؤتمرات الاقتصادية.
هؤلاء هم “المليارديرات الخفيون”. لا يختبئون خشية ملاحقة كما يظن البعض، بل يتلمظون بحثاً عن صيد ثمين يُعزز نفوذهم الحقيقي خلف الكواليس. هُم ببساطة أفراد يمتلكون ثروات طائلة ولكنهم يختارون البقاء بعيداً عن الأضواء أو تشارك تفاصيل حياتهم أو ممتلكاتهم بشكل علني. معروفون في مجال عملهم أو في دوائر معينة، ولكنهم لا يسلطون الضوء على ثرواتهم بشكل مباشر.
لا ينخرطون بالضرورة في أنشطة غير قانونيّة أو تهرّب ضريبي، بل يعتمدون التأثير الهادئ كوسيلة لتجنب تسييس توجهاتهم أو الابتزاز المجتمعي، والسماح بتوجيه رأس المال نحو أهداف تنموية أو استراتيجية طويلة الأمد.
ورغم أنهم نادراً ما يظهرون في الإعلام، فإن قراراتهم تُحرك أسواقاً وتُعيد رسم خرائط اقتصادية. في هذا التقرير، نكشف كيف يُعيد هؤلاء تشكيل الاقتصادات من وراء الستار، من مجلس إدارة إلى آخر، ومن براغ إلى ساو باولو، مروراً بأوروبا وآسيا وأفريقيا، في كل مكان تلوح فيه الفرص.
دانيال كريتنيسكي – التشيك (أوروبا):
في مشهدٍ نادر لصناعة تُعدّ من أكثر القطاعات استهلاكاً للكربون، قرّر الملياردير التشيكي دانيال كريتنيسكي، مؤسس مجموعة “إي بي إتش” (EPH)، أن يضع بصمته في قلب صناعة الصلب الألمانية، فنجح في فرض التحوّل البيئي من داخل الصناعات الثقيلة.
في أبريل 2024، اشترى حصة 20% من وحدة الفولاذ في شركة “تيسين كروب” (Thyssenkrupp). بموجب هذه الشراكة، بدأت الشركة في بناء مصنع بقيمة 3 مليارات يورو لإنتاج “الفولاذ الأخضر” باستخدام الهيدروجين بدلاً من الفحم.
وقد حصل المشروع على دعم حكومي بقيمة مليارَي يورو، إلا أنّ الرئيس التنفيذي للشركة، ميغيل لوبيز، صرّح في مارس 2025 قائلاً: “في ظلّ الظروف الحالية، لا يوجد ضمان بأنّنا سنتمكّن من تشغيل المصنع بشكل اقتصادي في المستقبل المنظور”.
رغم هذه المخاوف، استمرّ كريتنيسكي في الدفع بالمشروع إلى الأمام، ويسعى الآن لزيادة حصّته إلى 50%، مما يجعله شريكاً في صنع توجّهات واحدة من أعرق شركات أوروبا الصناعية.
توبي لواني – نيجيريا (أفريقيا):
في أفريقيا، يبرز اسم توبي لواني، الشريك المؤسّس لشركة “هليوس إنفستمنت بارتنرز” (Helios Investment Partners)، كأحد العقول الاستثمارية الهادئة التي غيّرت مشهد التكنولوجيا المالية في القارة.
من خلال استثماره في شركة “إنترسويتش” (Interswitch)، ساعد لواني على تحويل الأخيرة إلى واحدة من أكبر منصات الدفع الإلكتروني في أفريقيا. في عام 2019، شاركت “هليوس” في تمويل تجاوز 200 مليون دولار، ساعد الشركة على التوسّع إلى أكثر من 20 دولة.
لم يقتصر دوره على التمويل، بل شارك في المجلس الاستشاري للشركة، مؤثّراً في تبنّي استراتيجية تركّز على دمج المستخدمين من خارج النظام المصرفي الرسمي، وهو ما ساهم في تعزيز الشمول المالي وتوسيع الاقتصاد الرسمي في نيجيريا وغانا وكينيا.
الوليد بن طلال – السعودية (آسيا):
يُمثّل الأمير الوليد بن طلال نموذجاً كلاسيكياً للملياردير ذي الحضور الاستثماري المكثّف، لكنه نجح في أن يكون صاحب تأثير هادئ، فهو يُعدّ المال الصامت في وول ستريت ووادي السيليكون.
من خلال شركة “المملكة القابضة”، استطاع الأمير الاستثمار في مؤسسات كبرى مثل “سيتي غروب”، و”تويتر” (إكس حالياً)، ومجموعة فنادق “فور سيزون”، وشركة “سناب شات”.
في عام 2023، رفعت “المملكة القابضة” حصتها في “سيتي غروب” إلى 2.2% باستثمار قدره 450 مليون دولار.
كما كان من أوائل داعمي إيلون ماسك في استحواذه على “تويتر”، إذ لعب الأمير دوراً محورياً في منح الصفقة شرعية مالية دولية، دون أن يخرج بتصريحات إعلامية صاخبة.
يقول الأمير: “لن أصبح جيف بيزوس أو ماسك أو بيل غيتس أبداً. لكن علينا أن نحصل على نصيبنا العادل على الأقل”.
استثمارات الوليد بن طلال لم تكن محدودة بالعائد المالي، بل انعكست في اختياره لشركات ذات طابع استراتيجي، كدعم الابتكار في الإعلام الرقمي والسياحة الفاخرة والخدمات المصرفية. يُوصف أسلوبه بأنّه تأثير صامت مبنيّ على الثقة طويلة الأجل.
عاد الملياردير السعودي مؤخراً إلى دائرة الأضواء بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض. فمنذ 2017 لم يكن له حضور يذكر، لكن مؤخراً بدأ يروّج لاستثماراته، وأجرى حوارات مع وسائل إعلام دولية من بينها “بلومبرغ” كشف فيها خطواته التالية.
مارتين إسكوباري – البرازيل (أميركا اللاتينية):
يُمثّل مارتين إسكوباري نموذج رأس المال الموجّه نحو التعليم الرقمي، ورغم أنّه من الأسماء غير المعروفة جماهيرياً، إلا أنه فاعل مؤثّر في الاقتصاد المعرفي في البرازيل وأميركا اللاتينية.
بصفته شريكاً إدارياً في “جنرال أتلانتيك” (General Atlantic)، قاد استثمارات استراتيجية في شركات التعليم والتكنولوجيا. من أبرزها دعمه لشركة “أركو بلاتفورم” (Arco Platform) التي جمعت 331 مليون دولار في طرحها الأولي ببورصة ناسداك خلال عام 2018.
تحت إشرافه في مجلس الإدارة، وجّهت الشركة توسّعها نحو المدارس الريفية وتطوير منصّات تعليم رقمي تفاعلية. وقد نال إسكوباري تكريم “شخصية العام” من غرفة التجارة البرازيلية الأميركية، بفضل ما وصفته بـ”قيادة استثمارية تركّز على بناء الإنسان”.
ديفيد مارتينيز – المكسيك (أميركا الشمالية):
يُعدّ ديفيد مارتينيز من أبرز المستثمرين المكسيكيين، وفي الوقت نفسه ذلك الشخص الغامض الذي يُعيد تشكيل الشركات من وراء الستار.
بصفته مؤسّساً ومديراً لشركة “فينتك أدفايزوري” (Fintech Advisory)، يُشرف مارتينيز على استثمارات كبيرة في ديون الشركات والحكومات، خاصة في أميركا اللاتينية.
في عام 2013، استحوذت “فينتك” على حصة 68% في شركة “سوفورا” للاتصالات (Sofora Telecomunicaciones)، وهي الشركة القابضة التي تُسيطر على “تيليكوم أرجنتينا”، مقابل 960 مليون دولار أميركي.
هذا الاستثمار مكّن مارتينيز من التأثير في قطاع الاتصالات بالأرجنتين، حيث ساعد في تحديث البنية التحتية وتحسين الخدمات المقدّمة للمستخدمين. وبالإضافة إلى ذلك، لعب مارتينيز دوراً مهماً في إعادة هيكلة ديون العديد من الحكومات، مثل الأرجنتين في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، حينما بلغت قيمة الديون التي تم التفاوض عليها أكثر من 100 مليار دولار أميركي.
كما شارك في هيكلة ديون الإكوادور عام 2008، وبلغ تأثيره أوروبا حيث قدّم المشورة لحكومة اليونان بعدما وصل الدين الحكومي خلال 2012 إلى حوالي 206 مليارات يورو، في أكبر عملية إعادة هيكلة دين سيادي في التاريخ حتى ذلك الوقت.
رأس المال غير الصاخب.. لكنه حاسم
من السعودية إلى نيجيريا، كثيراً من القرارات الحاسمة التي تشكّل مصير صناعات أو مجتمعات، تتمّ خلف الكواليس، من قِبل فاعلين يفضّلون الصمت – لكنهم لا يغيبون عن التأثير.
“الملياردير الخفي” ليس صورة رومانسية لرأس مال متواضع، بل هو جزء من هندسة دقيقة لاستخدام المال كأداة استراتيجية لتوجيه العالم نحو ما يراه هؤلاء مستقبلاً أفضل، سواء في خفض الانبعاثات، أو دعم التعليم، أو بناء بنية رقمية منفتحة.
وربما، في عالمٍ تزداد فيه الضوضاء، يكون الأثر الحقيقي لمن يملكون القدرة على التأثير بلا ضجيج.