كيف جذبت سوق مستحضرات تجميل الأطفال عيون الصغار وجيوب الكبار؟

طفلة تلهو أمام مرآة والدتها، تلطّخ شفتيها بأحمر الشفاه وتلوّن خديّها بظلال العيون. مشهد ظريف تكرّر في البيوت عبر أجيال. لكن ما كان يوماً لعبة عفوية، أصبح في السنوات الماضية ظاهرة تدرّ مليارات على شركات التجميل.
فلم يعد مستعجباً أن ترى محال المكياج في المراكز التجارية تعجّ بفتيات لم يتجاوزن العاشرة من العمر، يتجوّلن بين الرفوف، يجرّبن ملمّع شفاه من هنا، و يتأمّلن علبة ظلال عيون زاهية من هناك، فيما تمسك بعضهن بفرشاة المكياج ببراعة تتجاوز سنين عمرهن.
ولا يتوقف الأمر عند المكياج، فحتى مستحضرات العناية بالبشرة، من كريمات وأقنعة، صارت جزءاً من روتين يومي لبعضهن، رغم نضارة بشرتهن التي لا يزال شبح التجاعيد بعيداً جداً عنها.
خلف كلّ ذلك حملات تسويقية تستهدف فتيات من الجيل “ألفا” تتراوح أعمارهن بين السادسة والرابعة عشر، عبر محتوى رقمي جذّاب ينتشر على منصات مثل “تيك توك” و”يوتيوب”، تؤدي بطولته فتيات من العمر نفسه. ورغم أن هذه الفئة لا تزال على أبواب مرحلة المراهقة أو بدايتها، إلا أنها أصبحت شريحة أساسية في حسابات كبرى شركات التجميل.
في حين يرى البعض في ذلك مساحة للتجربة والتعبير عن الذات، يبدي آخرون قلقاً متنامياً حيال الأثر الصحي والنفسي لهذه الظاهرة، خاصة فيما يتعلق بصورة الجسد، وضغوط معايير الجمال في عمر مبكر، فضلاً عن المخاوف من استخدام مستحضرات قد لا تناسب بشرة الأطفال الحسّاسة.
1) كم تنفق الصغيرات على مستحضرات التجميل؟
تشير بيانات شركة NielsenIQ إلى أن الأسر الأميركية التي تضم أطفالاً تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عاماً أنفقت ما مجموعه 2.4 مليار دولار على مستحضرات العناية ببشرة الوجه في عام 2023.
كما ارتفع معدل زيارات هذه الفئة إلى متاجر مستحضرات التجميل، حيث تجاوزت زيارات الأسر التي تضم أطفالاً صغاراً المتوسط العام بنسبة 6.3%، فيما بلغت الزيادة لدى الأسر التي تضم مراهقين 17.1%.
ومع انتشار هذه الظاهرة، أُطلق على الصغيرات المهووسات بالجمال والمكياج على وسائل التواصل الاجتماعي لقب “أطفال سيفورا”، من وحي مقاطع الفيديو المنتشرة لفتيات يتجوّلن في فروع متجر مستحضرات التجميل.
اقرأ أيضاً: “ألتا بيوتي” تتجه إلى “الشايع” لفتح أول متجر في الشرق الأوسط
وكان تحليل لبيانات العملاء نشرته سلسلة متاجر مستحضرات التجميل “ألتا بيوتي” (Ulta Beauty) في يونيو 2024 أظهر أن بنات الجيل “ألفا” يبدأن الاهتمام بالجمال في سنّ أبكر من الأجيال السابقة.
وبحسب التقرير، بدأت الفتيات من الجيل “زد” باستخدام مستحضرات التجميل والخدمات الجمالية في سن 13 تقريباً، فيما بنات الجيل “ألفا” فيبدأن قبل ذلك بخمس سنوات، في عمر 8 سنوات في المتوسط.
وبيّن استطلاع لـ”ستاتيستا” (statista) في الولايات المتحدة في أبريل 2024 أن نحو 60% من أولياء الأمور قالوا إنهم اشتروا منتجات للعناية بالشعر لأولادهم خلال الأشهر الثلاثة السابقة، فيما أفاد أكثر من 45% بشراء مستحضرات للعناية بالبشرة، ونحو 30% بشراء مكياج لهم.
وكشفت النتائج أن حوالي 40% من الأهالي ينفقون أكثر من 51 دولاراً شهرياً على منتجات العناية بالبشرة لأطفالهم في سنّ المراهقة أو ما قبلها، بينما أشار 23% إلى أنهم أنفقوا ما يقارب 100 دولار في عملية شراء واحدة لهذا النوع من المنتجات.
2) كيف تسوّق شركات التجميل لمنتجاتها لدى الصغيرات؟
كشف تقرير لشركة “مينتل” (Mintel) في مارس 2025 أن أكثر من نصف الفتيات بين 12 و14 عاماً في الولايات المتحدة يجمعن بين الشراء عبر الإنترنت والتسوّق من المتاجر التقليدية.
كما أن كثير من متاجر مستحضرات التجميل مصممة بأسلوب يستهوي الصغيرات، حيث تُعرض المنتجات بأسلوب بصري مرح نابض بالألوان. وتتيح مساحة لتجربة مستحضرات التجميل.
إلى ذلك، استعانت بعض المتاجر بتقنيات الواقع المعزّز، من خلال مرايا ذكية تمكّن العملاء من تجربة منتجات التجميل افتراضياً، ورؤية كيف ستبدو على الوجه. توفّر هذه التجربة وسيلة مبتكرة وسهلة لاستكشاف المنتجات، خصوصاً بالنسبة لفتيات جيل “ألفا” اللواتي نشأن على التفاعل مع الشاشات والأدوات الرقمية. كما تتيح لهن اختبار عدد كبير من الخيارات خلال وقت قصير.
هكذا أصبحت زيارة متاجر التجميل تجربة ترفيهية بحد ذاتها، تتشارك فيها مجموعة فتيات لحظات الاكتشاف والمرح بين الرفوف الملوّنة والمرايا اللمّاعة.
حتى مراكز الترفيه المخصصة للأطفال بدأت تواكب هذا الاتجاه، فخصّص بعضها أركاناً لتجربة المكياج، تتيح للفتيات الصغيرات تجربة مستحضرات التجميل. وتنظّم أخرى فعاليات وحفلات عيد ميلاد تتمحور حول العناية بالبشرة والمكياج وخدمات “السبا”.
كما عمدت بعض شركات التجميل لطرح ألعاب على شكل نسخ مصغّرة من منتجاتها الشهيرة، مثل جل العين وكريم العناية بالجسم وغيرها، لا تحتوي على مستحضرات فعلية إلا أنها تبدو حقيقية بما يكفي لجذب انتباه الفتيات الصغيرات، ما قد يشجعهن على طلب المنتجات الحقيقية لاحقاً.
3) كيف دعمت وسائل التواصل انتشار المكياج بين الصغيرات؟
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي حلقة الوصل الأولى بين الفتيات الصغيرات وعالم الجمال، ليس كمشاهدات فحسب، بل كصانعات للمحتوى أيضاً. ففي مقاطع “استعدوا معي” (Get Ready With Me) المنتشرة بكثافة على “تيك توك” و”يوتيوب” و”انستغرام”، تظهر طفلات لم يتجاوزن العاشرة من العمر وهن يطبّقن المكياج خطوة بخطوة، أو يستعرضن منتجات العناية بالبشرة خلال جولات في متاجر شهيرة، وسط محتوى بصري مفعم بالألوان والإيقاع السريع يضاهي ما تقدمه المؤثرات البالغات.
فبنات الجيل “ألفا” هن الجيل الأول الذي نشأ بالكامل في عصر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وتعرّفن على الشاشة منذ الولادة. وغالباً ما يثقن بتوصيات المؤثرين أكثر من الإعلانات التقليدية.
وقد باتت بعض المؤثرات من الجيل “ألفا” ينافسن كبار المؤثرين من حيث عدد المتابعين والتأثير التجاري. مثلاً، نورث ويست، ابنة النجمة كيم كارداشيان، البالغة من العمر 12 سنة، يتجاوز عدد متابعيها على “تيك توك” 19 مليوناً، ويقدّر دخلها من المنشور الواحد بما يصل إلى 30 ألف دولار، بحسب مجلة “Hello”.
اقرأ أيضاً: دعاوى قضائية تسعى لحماية الأطفال على منصات التواصل
وتحقق مؤثرات صغيرات أخريات ملايين المشاهدات في مقاطع تتنوّع بين مراجعات منتجات، وروتينات العناية بالبشرة، وتجارب تسوّق تفاعلية.
في معظم الحالات، تكون الحسابات الخاصة بالمؤثرات الصغيرات على منصات مثل “تيك توك” و”إنستغرام” مُدارة من قبل الأهل أو تحت إشرافهم، نظراً لقيود السن التي تفرضها المنصات (عادة 13 عاماً وما فوق).
ما هي المخاطر الصحيةلاستخدام الفتيات تحت العاشرة لمستحضرات التجميل؟
يحذّر أطباء الجلد بشكل متزايد من استخدام الفتيات الصغيرات لمستحضرات عناية بالبشرة مصممة للبالغين، منها تلك المخصصة لمكافحة الشيخوخة، لا سيما التي تحتوي على مكوّنات فعالة مثل الريتينول وفيتامين C المركز، وأحماض التقشير. فإلى جانب كونها غير مفيدة لعمرهن، قد تؤدي هذه المنتجات إلى تهيّج واحمرار البشرة وظهور البثور وغيرها من المشكلات الجلدية، فضلاً عن تأثيرها السلبي المحتمل على الحاجز الطبيعي للبشرة في مراحل النمو.
وفي نوفمبر 2024، أصدر مستشفى كونيتيكت للأطفال بياناً حذّر فيه من أن المنتجات المضادة للشيخوخة أو تلك الغنية بالمكوّنات النشطة لا تصلح للاستخدام من قبل الأطفال والمراهقات. وفي حال الإصرار على استخدام مستحضرات التجميل، يمكن الاكتفاء بروتين مبسّط يتضمن منظفاً لطيفاً وواقياً شمسياً ومرطّباً خفيفاً خالياً من الزيوت.
كما أجرى باحثون من جامعة نورثويسترن تحليلاً لـ 100 مقطع فيديو على “تيك توك” نشروا نتيجته في يونيو 2025، أظهر أن صانعات محتوى تتراوح أعمارهن بين 7 و18 عاماً استخدمن في المتوسط ستة منتجات تجميلية يومياً، بينما استخدم بعضهن أكثر من 12 منتجاً مختلفاً على الوجه. وخلصت الدراسة التي نُشرت في يونيو 2025 إلى أن هذه المنتجات قد تزيد من احتمال اصابتهن بتهيّجات جلدية أو ردود فعل تحسسية.
دفع تنامي هذه الظاهرة ببعض العلامات التجارية نفسها إلى تحذير المستهلكين علناً من أن بعض منتجاتها لا تناسب الأطفال، وعليهم تجنبها.
في ولاية كاليفورنيا، استجاب المشرّعون لهذه الظاهرة المتصاعدة عبر مشروع قانون AB 728، الذي يقترح حظر بيع مستحضرات مكافحة الشيخوخة التي تحتوي على مشتقات فيتامين A لأي شخص دون سن 18 عاماً، يأتي ذلك بعد تسجيل زيادة ملحوظة في حالات الحروق الكيميائية والتهابات البشرة لدى الأطفال والمراهقين الذين يقتدون بروتينات جمال منتشرة على وسائل التواصل.
يضاف كلّ ذلك إلى المكياج الذي يُسوّق له كلعبة للأطفال. وكانت دراسة أعدّها باحثون في كلية الصحة العامة بجامعة كولومبيا عام 2023 كشفت أن معظم الأطفال الأميركيين دون 12 سنة يستخدمون مكياجاً قد يحتوي على مواد سامة مثل الرصاص والأسبستوس والفثالات والفورمالديهايد، ما يعرضهم لمخاطر السرطان والأضرار العصبية.
ومواكبة لظاهرة إقبال الفتيات الصغيرات على مستحضرات التجميل، أطلقت علامات تجارية خطوط إنتاج مخصصة للأطفال، تسوّق لها على أنها مكياج قابل للغسل وخال من المواد الضارة.
ما هي التأثيرات النفسية؟
نشأ جيل “ألفا” وسط وعي متزايد بأهمية الصحة النفسية، بعد الحملات الكثيرة التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتغيرات التي طرأت على أساليب التربية، ما ساهم في نشوء جيل أكثر انفتاحاً على قضايا مثل إيجابية الجسد والتعبير عن الذات. غير أن هذا الوعي لا يحمي الأطفال تماماً من التأثيرات النفسية السلبية لمحتوى الجمال على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأظهرت دراسات عدّة أن التعرّض المتكرر لمقاطع الفيديو التي تروّج لمقاييس الجمال “المثالية”، قد يؤدي إلى انخفاض في تقدير الذات، وشعور الفتيات الصغيرات بالضغط لمجاراة معايير جمالية لا تتناسب مع أعمارهن، ما قد يفعهن إلى السعي لتعديل مظهرهن أو إصلاح شوائب غير موجودة أصلاً.
وكانت دراسة جامعة “نورثويسترن” وجدت أن الفتيات اللواتي شاركن روتينات العناية بالبشرة عبر “تيك توك” في الفيديوهات التي شملها التحليل، ينفقن ما معدله 168 دولاراً شهرياً على مستحضرات التجميل، فيما تصل التكلفة لدى بعضهن إلى 500 دولار. كما لاحظ الباحثون استخداماً متكرراً لتعابير غير مباشرة تفضّل البشرة الأفتح والأكثر إشراقاً.
وقالت الباحثة المشاركة في الدراسة، مولي هيلز “من المثير للجدل أن تطهر الفتيات وهن يكرّسن هذا القدر من الوقت والاهتمام لبشرتهن. نحن نرسّخ معايير مرتفعة جداً لهؤلاء الفتيات. لقد أصبحت العناية بالصحة بمثابة فضيلة في مجتمعنا، لكن مفهوم ‘الصحة’ نفسه بات متشابكاً بعمق مع معايير الجمال، والنحافة، ولون البشرة الأبيض. أما الجانب الماكر في العناية بالبشرة فهو الادعاء أنها تتعلق بالصحة”.