اخر الاخبار

كيف تُستخدم الفضلات البشرية لمكافحة الأمراض؟

تصل كلّ بضعة أشهر حافلة بيضاء محمّلة بشحنة ضخمة من الفضلات البشرية إلى معمل تابع لشركة “مآت فارما” (MaaT Pharma) في ضواحي مدينة ليون، جنوب شرق فرنسا. وتُنقل بعدها العينات المبردة المعبأة بعناية داخل أكياس محكمة الإغلاق إلى مختبر احتواء بيولوجي، حيث يحقن عامل تقني كلّ كيس بمحلول كيميائي يساعد على تسييل محتواه من أجل زيادة حجم “المادة” التي يمكن استخراجها، مع الحرص على حماية البكتيريا من الضرر.

تحظى الفضلات بهذا القدر من العناية بما أنّها المكوّن الرئيسي في علاج طبي ناشئ يستخدم الجراثيم التي تحتويها هذه الفضلات من أجل تحسين صحة الأمعاء. إذا ما وجدت ذلك مضحكاً، فلست وحدك، فحتى العاملين على المشروع يدركون كمّ النكات التي يمكن إلقاؤها حوله. مع ذلك، فإن العمل يتسم بالجدية، فـ”مآت” واحدة من الشركات الرائدة في استخدام العلاجات المستندة إلى الفضلات في علاج السرطان.

يخضع المتبرعون بالفضلات إلى شروط أشد صرامة حتى من تلك التي يخضع لها الأشخاص الذين يتبرعون بالدم. وتنص المعايير على أن يكون عمر المتبرع بين 18 و65 سنة، ويتمتع بوزن صحي، ولا يعاني من مشكلات هضمية أو أمراض مزمنة مثل الاكتئاب أو السكري أو ارتفاع ضغط الدم. كما لا يجوز للمتبرع أن يكون قد تناول أي مضادات حيوية في الأشهر الثلاثة الماضية قبل التبرع، أو لديه طفل مريض في المنزل، أو سافر خلال الأشهر الستة الماضية إلى مناطق يرتفع فيها خطر الإصابة بالعدوى. كما يترتب عليه الخضوع إلى ثلاثة فحوصات طبية، وتُسحب عينات دم منه عدة مرات ويخضع لمسحات أنفية، من أجل التأكد من خلوه من أكثر من 50 نوعاً من الأمراض المعدية.

علاجات مستندة إلى الميكروبيوم

قالت رئيسة شؤون التقنية في شركة “مآت”، كارول شفينتنر، “نوضّح للمتبرعين أن فضلاتهم ستُستخدم لعلاج مرضى يعانون من حالات حرجة للغاية، وبعضهم على شفير الموت. لذلك نطلب منهم أن يخبرونا بكل تفاصيل حياتهم”.

قد تبدو الفكرة غريبة للوهلة الأولى، لكنها منطقية جداً. فالمخلفات البشرية تُعد مصدراً غنياً بالكائنات الدقيقة، بما في ذلك البكتيريا والفطريات والفيروسات، التي تعيش داخل أجسامنا وعلى أسطحها. وعلى الرغم من أن العلاقة المحددة بين الميكروبيوم، أي المجموعة الفريدة من الكائنات الدقيقة لدى كل فرد، وبقية الجسم لا تزال غير مفهومة بشكل كامل بغض النظر عن ادعاءات بعض اختصاصيي العافية، فإن العلماء يجمعون على أهمية الميكروبيوم في العديد من الوظائف الحيوية، مثل استقلاب الأدوية، ومكافحة مسببات الأمراض، والتأثير على المزاج ووظائف الدماغ.

تثق “مآت” بأن تزويد الأمعاء بالميكروبات المفيدة يمكن أن يحسّن فعالية أدوية السرطان، وفي الوقت نفسه يخفف من الآثار الجانبية للعلاجات مثل العلاج الكيميائي الذي قد يؤدي إلى ضعف المناعة والغثيان وزيادة خطر الإصابة بالعدوى وسوء التغذية. وقالت شفينتنر “لا أتوقع أن يكون منتجي دواءاً شافياً من سرطان، لكنه قد يشكّل خطوة على هذا الطريق”.

من الطبيعي التشكيك بالعلاجات المستندة إلى الميكروبيوم. فهذا المفهوم الذي انتشر خلال السنوات القليلة الماضية ترافق مع الكثير من الادعاءات الخاطئة، بل حتى الجنونية. أقصد أي صيدلية، وستقع على منتجات شتّى، من الوجبات الخفيفة المصنّعة إلى المشروبات الغازية وكريمات الوجه والشامبو المزودة بالبكتيريا الحية. كما يمكنك من خلال بحث سريع على “جوجل” أن تجد عشرات العروض لإجراء مسح للميكروبيوم الخاص بك. (غالباً ما تُوصي هذه الشركات بتلقي تركيباتها الخاصة من البروبيوتيك كحل للمشكلات المزعومة). إلا أن عمليات زرع جراثيم البراز تستند إلى أساس علمي متين. فقد أثبتت جدواها على مدى العقد الماضي كعلاج معتمد للنوبات المتكررة من الإسهال الحاد الناجم عن بكتيريا المطثية العسيرة. 

مع ذلك، لم يكن طريق العلاجات القائمة على الميكروبيوم نحو التوسع التجاري سهلاً. حتى الآن، حصل علاجان فقط على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية، بينما تعثرت العديد من العلاجات الواعدة الأخرى. المشكلة الرئيسية هي أن الباحثين لم يتمكنوا بعد من تحديد الجراثيم البرازية الأكثر فاعلية، أو تلك التي تؤثّر بشكل مباشر على أمراض معيّنة. (فعلى سبيل المثال، ما قد يكون مفيداً لعلاج الاكتئاب قد لا يساعد على علاج مرض السكري).

لتجنب خطر استبعاد أي مكوّن أساسي عن طريق الخطأ، تعتمد شركة مآت” نهجاً مختلفاً عن بعض منافسيها. فهي تقدم للمرضى المجموعة الكاملة من الميكروبات الموجودة في البراز، بدلاً من تقليصها إلى عدد محدود من السلالات البكتيرية. وقد أثبت هذا النهج نجاحه في المراحل المبكرة من التجارب، ما يقرّب “مآت” من أن تصبح أول شركة تحصل على موافقة لعلاج يستند إلى الميكروبيوم لعلاج السرطان.

تاريخ طويل لاستخدام البراز لأهداف علاجية

يُتوقع أن تعلن الشركة خلال الأشهر القليلة المقبلة عن النتائج التي توصّلت إليها في المرحلة المتقدمة من تجربتها على منتجها الرئيسي “مآت013″ (MaaT013)، وهو علاج للمرضى الذين يصابون بمضاعفات قاتلة تلي خضوعهم لزراعة نخاع العظام، فيما يُعرف بـ”مرض الطعم حيال المضيف”. وقد أظهرت المؤشرات الأولية للتجارب نتائج واعدة جداً. 

وكان الباحثون أعلنوا في الشهر الماضي عن نتائج دراسة شملت 154 مريضاً تلقوا العلاج لأسباب إنسانية. من بين المرضى الذين لم تنفعهم العلاجات التقليدية، كان 49% لا يزالون على قيد الحياة بعد 12 شهراً، مقارنة بمعدل بقاء على قيد الحياة متوقع يبلغ 15%. 

قالت كليمينس تيير، المحللة المتخصصة بالتقنية الحيوية لدى شركة “ستيفل فاينانشل” (Stifel Financial Corp) في باريس، إن سوق هذا العلاج المحدد صغير نسبياً، لكن إثبات فعالية العلاج القائم على الميكروبيوم في تحسين معدلات نجاة المرضى المصابين بالسرطان سيحدث “ثورة” في القطاع، وسيمهد الطريق لمنتجات أخرى. ولكن إذا فشلت التجربة، فسيكون ذلك كارثياً، ليس فقط على شركة “مآت”، بل قد يثني أيضاً شركات أخرى عن الاستثمار في المجال. وأضافت “جميع المعنيين في القطاع يترقبون النتائج”.

المفاجئ أن لاستخدام الفضلات البشرية من أجل أهداف علاجية تاريخ قديم. ففي القرن الرابع، وصف أحد الأطباء علاجاً كريهاً للتسمم الغذائي الحاد، كان عبارة عن مرق أصفر مصنوع من البراز المجفف أو المخمّر المستحصل عليه من شخص يتمتع بصحة جيدة.

وعلى مرّ القرون الماضية، استُخدمت عمليات نقل البراز من أجل معالجة البشر والحيوانات، ولكن هذا الإجراء ظلّ بدائياً، وأقرب إلى خدعة تسويقية.

 ثمّ في 1958، استخدم بنجيمن أيسمان، كبير الجراحين في مستشفى إدارة المحاربين الأميركيين القدامى في كولورادو، عينات من براز نساء في جناح الولادة، مفترضاً أنهن بصحة جيدة، وصنع منها حقناً شرجية لمعالجة أربعة مرضى يعانون من التهاب حاد في الأمعاء. تعافى المرضى في غضون ساعات، وقد جذب تقريره الذي نشره في إحدى الدوريات الطبية بعض الاهتمام. ولكن العلاج لم ينتشر على نطاق واسع، لأسباب منها ما يثيره من اشمئزاز وأيضاً لعدم وجود بروتوكول مدعوم بالأدلة يوضح للأطباء كيفية تطبيق هذا العلاج بأمان وفعالية. بالتالي، اقتصرت عمليات زرع جراثيم البراز خلال نصف القرن التالي على مجموعة صغيرة من الأطباء عملوا بعيداً عن الأضواء على علاج مرضى يعانون من أمراض معوية مميتة أو منهكة لدرجة أنهم كانوا مستعدين لتجربة أي شيء.

علاج واعد

تعيّن الانتظار حتى مطلع القرن الحادي والعشرين من أجل انتعاش الاهتمام بالقدرات الشفائية للبراز، عقب تطوير أدوات حديثة تختص بدراسة الجزيئيات. ففي عام 2007، أطلقت المعاهد الوطنية للصحة “مشروع الميكروبيوم البشري” لدراسة الجراثيم التي تعيش داخل الجسم وعلى سطحه، ودورها في رسم معالم الصحة والمرض. كشف هذا المشروع، الذي استمر عقداً كاملاً أن هذه الكائنات الدقيقة تفوق عدد خلايا الجسم البشري بنسبة 10 إلى 1. وتُعد الأمعاء، التي تضم حوالي 100 تريليون كائن دقيق في قناتها الممتدة بطول نحو 8 أمتار، أغنى مصدر لهذه الميكروبات التي تنتج الفيتامينات وهرمونات مثل الدوبامين، ومواد كيميائية تنظم الالتهابات عبر تفاعلات معقدة مع الخلايا المناعية.

برزت الأهمية الطبية للميكروبيوم في عام 2013، عندما نشر أطباء في أمستردام نتائج تجربة عشوائية مُنضبطة قارنت بين فعالية التبرع بالبراز والعلاج بالمضادات الحيوية الذي كان المعيار السائد آنذاك لعلاج المرضى المصابين بعدوى بكتيريا المطثية العسيرة. ولكن التجربة أوقفت مبكراً لأسباب أخلاقية، إذ أظهرت النتائج تحسناً ملحوظاً وسريعاً لدى المرضى الذين تلقوا زراعة جراثيم البراز، ما جعل من غير المبرر حرمان بقية المشاركين في الدراسة من هذا العلاج الواعد.

إلى جانب النتائج السريرية اللافتة، سجل الباحثون زيادة ملحوظة في تنوع البكتيريا البرازية لدى المرضى الذين خضعوا لزراعة ميكروبيوتا البراز. هذا التطور لم يقتصر على إثبات الإمكانيات العلاجية لهذا الإجراء، بل زاد أيضاً الاهتمام باستكشاف إمكانيات تعزيز الميكروبيوم لاستخدامات طبية أخرى.

كانت إيزابيل دي كريمو، وهي مستثمرة تدير صندوقاً بقيمة 1.1 مليار يورو (1.2 مليار دولار) متخصصاً في علوم الحياة، جزءاً من هذا الحراك. فقد استثمرت في أكثر من 100 شركة متخصصة في أبحاث الميكروبيوم، ولكن اهتمامها ظلّ منصباً على البحث عن شركة تستخدم كامل الميكروبات البرازية في علاجات السرطان، بدلاً من اختيار سلالات معينة. عندما لم تجد مثل هذه الشركة، كلفت هيرفي أفاغارد، وهو مهندس متخصص في تقنية المعلومات يتمتع بخبرة في أنظمة الإنتاج، بتأسيس واحدة.

عوّض أفاغارد افتقاره إلى خبرة علمية من خلال التعاون مع جويل دوريه، أحد أبرز رواد علوم الميكروبيوم الذي عمل لأكثر من 40 عاماً على دراسة الميكروبات المعوية في المعهد الوطني الفرنسي للبحوث الزراعية والغذائية والبيئية. (وقد تم الاستشهاد ببحوثه أكثر من 76 ألف مرة).

 

علاج مرض الطعم حيال المضيف

بينما ركز جويل دوريه على تطوير تقنية مبتكرة لحفظ الميكروبيوتا الموجودة في البراز، كان هيرفي أفاغارد يجتمع مع عدد من الأطباء لاستكشاف سبل تطبيق هذه التقنيات. في هذا السياق، التقى بمحمد معطي، رئيس قسم أمراض الدم والعلاج الخلوي في مستشفى سان أنطوان العريق في باريس. كان معطي توصّل قبل فترة إلى اكتشاف بالصدفة خلال استخدامه تقنية نقل جراثيم البراز من أجل معالجة مرضى تلقوا زراعة نخاع العظام وكانوا مصابين بعدوى بكتيريا المطثية العسيرة. فقد لاحظ أن أولئك المرضى لا يصابون بمرض الطعم حيال المضيف الذي يعدّ من المضاعفات الخطيرة التي تصيب نحو 30% إلى 50% من المرضى الذين يتلقون خلايا جذعية دموية من متبرعين.

توصّل بعدها أفاغارد ومعطي إلى فكرة وهي: ماذا لو جمعا عينات براز من المرضى المشخصين حديثاً بالسرطان، حين تكون ميكروبيوتا الأمعاء لا تزال سليمة لديهم، ثمّ عالجا هذه العينات وحوّلاها إلى حقن شرجية يتلقاها المرضى قبل زراعة نخاع العظم.

مع انضمام معطي كمستشار طبي، وبدعم مالي أولي قدره مليونا يورو من إيزابيل دي كريمو، تأسست شركة “مآت” رسمياً في ديسمبر 2014 وبدأت رحلتها.

ما كادت تمرّ سنتان حتى أطلقت الشركة أول تجربة سريرية لها شملت مرضى مصابين باللوكيميا النخاعية الحادة. وقد وجد العلماء الذين أشرفوا على الدراسة، وبينهم محمد معطي وجويل دوريه، أن استخدام علاج بواسطة الحقن الشرجية يمكن أن ينجح في إعادة بناء 90% من ميكروبيوتا الأمعاء المتضررة بسبب العلاج لدى المرضى. لكن الفريق واجه عقبة كبيرة، فقد أظهرت الفحوصات الأولية أن أكثر من نصف المرضى يحملون بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية في أمعائهم، ما حال دون إمكانية تلقيهم عينات من برازهم الخاص.

اضطرت “مآت” للاستعانة بمتبرعين أصحاء للحصول على المواد اللازمة، ولكن تلقي البراز من عدة متبرعين يعني اختلاف تركيبة المنتج من دفعة إلى أخرى، ما يحول دون اتساق نتائج التجارب السريرية. وقالت كارول شفينتنر، رئيسة الشؤون التقنية في “مآت”: “قبل عشر سنوات، كان الاتجاه السائد في القطاع هو البحث عن المتبرع الخارق، أي الشخص الذي يمكن أن تناسب عيناته علاج أي مريض. ولكن تم التخلي عن هذا المفهوم تماماً، لأنه ببساطة غير موجود. لم نعثر عليه أبداً”.

 

5 آلاف يورو مقابل التبرع بالعيّنات

وجد العلماء أن الحل الأمثل بعد التخلي عن فكرة “المتبرع الخارق” هو جمع عيّنات البراز من عدة متبرعين. فتجري الشركة تحليلاً وراثياً دقيقاً لكل تبرع، مازجة المواد لصنع مجموعة متجانسة، ما يضمن أن يحتوي كل علاج على نسبة ثابتة من الميكروبات الأساسية، ويزيد من احتمال أن يتلقى المريض ميكروبات من متبرع متوافق. تشبّه شفينتنر هذه العملية بمطعم يقدم قوائم متنوعة لتحسين فرصة أن يجد الزبائن وجبة تناسب أذواقهم. وقالت “هذا بالضبط ما يحدث مع المرضى، حيث يتلقى كل منهم البكتيريا المناسبة التي اختارها من القائمة الكاملة”.

عادةً، كلما زاد عدد المتبرعين في الخليط، تحسنت استجابة المرضى للعلاج. وأوضحت شفينتنر “هذا منطقي لأن لكل منا ميكروبيوتا فريدة، وليست جميعها متوافقة مع بعضها بعضاً”.

من بين 250 شخصاً جمعت “مآت” عينات براز منهم، برز متبرع واحد بشكل خاص، يُلقب بـ “شوشو” (Chouchou)، وهو اسم يعني “شخص عزيز” بالفرنسية. تبرع هذا الشخص بعينات على مدى ست سنوات، حيث تميزت عيناته بتنوع ميكروبي مثالي وغني، على حدّ وصف شفينتنر. هذا المتبرع الفرنسي يخصص المبالغ التي يحصل عليها مقابل تبرعاته، والتي تصل إلى 5 آلاف يورو، للأعمال الخيرية.

تحويل هذا البراز إلى منتجات دوائية عملية دقيقة، بعيدة كلّ البعد عن الخزعبلات التي قد تقرأ عنها على موقع “ريديت”، حيث قد يقترح أحد المشاركين استخدام خلاط نظيف من المطبخ من أجل مزج براز جديد لا يتجاوز عمره خمس ساعات مع “محلول ملحي على سرعة منخفضة حتى يصبح سائلاً”، فيما يناقش آخرون تصفيته باستخدام أكياس ترشيح القهوة أو المناخل، قبل أن يحقن الشخص نفسه به بواسطة حقنة شرجية يشتريها من دون وصفة طبية. (حتى أنهم ينصحون بالتمدد على الجانب عند القيام بذلك). زدّ على كون هذه العملية غير صحية ومقززة، فهي قد تعرّض الأشخاص أيضاً لخطر انتقال الطفيليات والبكتيريا المسببة للعدوى، ما قد تكون له تبعات خطرة. وقد شكل هذا الأمر خطراً حتى في الأوساط الطبية. في عام 2019، توفي أحد المرضى الذين خضعوا لزراعة نخاع العظام، بينما احتاج مريض آخر يعاني من تليُّف الكبد إلى دخول المستشفى بسبب إصابة في مجرى الدم بعد تناول دواء تجريبي بالفم يعتمد على البراز كانت تتم دراسته في مستشفى ماساتشوستس العام في بوسطن.

تبيّن لاحقاً أن الكبسولات تحتوي على بكتيريا الإشريكية القولونية المقاومة للمضادات الحيويةـ قادمة من متبرع واحد، ما دفع إدارة الغذاء والدواء الأميركية إلى إصدار تحذير بشأن عمليات زراعة الميكروبيوتا البرازية. كما ألزمت الإدارة بإجراء فحوص دقيقة للمتبرعين للكشف عن الجراثيم المقاومة للأدوية. وأشار الباحثون في دراسة نُشرت حول الحادثة إلى أن تطوير مزيج ميكروبي علاجي هدف طبي بالغ الأهمية، مؤكدين على ضرورة تكثيف الجهود لتحسين معايير فحص المتبرعين. ولم يشأ متحدث باسم المستشفى الإدلاء بتعليق إضافي.

 

علاجات ميكروبية مستقبلية

على الرغم من أن شركة “مآت” لم تكن لها أي علاقة بهذه الحوادث، مع ذلك هي ملزمة بالامتثال إلى الإجراءات الأكثر  تشدداً التي نجمت عنها. فلا يُقبل إلا 2% من الأشخاص المتقدمين للتبرع، على أن يحضر المتبرع شخصياً إلى أحد مواقع الجمع في غرب فرنسا. ولا تقتصر عملية التبرع على استخدام المرحاض ببساطة، فالبكتيريا الأساسية لتدعيم الجهاز المناعي والقيام بالوظائف الحيوية، حساسة جداً للهواء، ما يجعلها سريعة التحلّل. ولمعالجة هذه المشكلة، ابتكر أفاغار جهازاً حاز على براءة اختراع يُسميه بـ”المسيّرة”، يمدّد صلاحية البكتيريا المعوية إلى 72 ساعة عند تخزينها في درجات حرارة تتراوح بين 2 و8 درجات مئوية .

الجهاز، الذي يبدو بحجم طبق صغير باللون الأرجواني مع أربعة أذرع بلاستيكية، يشبه في تصميمه أواني المطبخ أكثر من المعدات الطبية. وعند رفع الغطاء الدائري، يظهر كيس مخصص لحفظ البراز. شرح أفاغار العملية قائلاً “تضع الجهاز على المرحاض، وعند الانتهاء، تسحب الأكسجين”. ثم عرض طريقة الاستخدام عبر ضغط الكيس البلاستيكي الشفاف لطرد الهواء القاتل للبكتيريا نحو قفل محكم. ويساعد هذا الإجراء أيضاً في منع حصول أي تلوث محتمل.

بالنسبة إلى أفاغارد، لهذه المهمة بعد شخصي إلى جانب بعدها المهني. ففي 2015، بعد فترة وجيزة على تأسيس الشركة، قرر فحص عينة من والدته بواسطة التقنيات المتطورة التي كان يعمل عليها. كانت والدته قد شُخصت قبل سنوات بمرض التهاب الأمعاء، لكنه لم يقتنع بأن هذا التشخيص يفسر حالتها بالكامل. استغرقت النتائج ستة أشهر لتظهر، وجاءت النتيجة سيئة. فقد بيّنت الفحوصات أن أمعاءها تعجّ بنوع من البكتيريا يُعرف باسم المتقلبات (بروتيوباكتريا) التي تسبب الالتهابات.

كان الأطباء يعرفون أن ذلك مؤشر سيئ، ولكنهم لم يدركوا ما يعنيه أو كيفية معالجته. وبعد أسبوع، شُخّصت إصابتها بسرطان البنكرياس. كان المرض في مرحلة متقدمة جداً بحيث لم تعد الجراحة تجدي نفعاً، ولم تمضِ أشهر حتى فارقت الحياة.

اليوم، تظهر نتائج الفحوصات نفسها التي خضعت لها والدة أفاغارد في غضون أيام فقط وبتكلفة أقل بكثير. كما اكتشف العلماء أن التركيبة البكتيرية التي وُجدت في قولونها تمثل مؤشراً للتنبؤ بالإصابة بالسرطان الذي أودى بحياتها.

وفي حال سارت الأمور وفق ما هو مخطط له في “مآت”، فإن ذلك قد يفضي إلى المزيد من الخيارات العلاجية قريباً أيضاً. وقال أفاغارد “الأمر يتعلق باتباع نهج غير مسبوق لتغيير مسار المرضى”. وهو يتوقع مستقبلاً يصبح فيه تعديل ميكروبيوم الأمعاء جزءاً من مجموعة العلاجات المتاحة للأطباء، وقال “ستكون هناك العلاجات المناعية، والجراحات، والعلاجات الكيميائية، تضاف إليها العلاجات الميكروبية”.

تطلّع لاستخدام الذكاء الاصطناعي

لهذه الغاية، خصصت “مآت” أرضاً لإنشاء مصنع جديد يهدف إلى زيادة القدرة الإنتاجية بواقع عشرة أضعاف بحلول 2030.

تنمو الميكروبات البرازية بطريقة أشبه بالتخمير. فهي تتكاثر بسرعة هائلة إذا وُضعت في ظروف ملائمة، مثلاً في درجة حرارة الجسم ومستوى منخفض أو معدوم من الأكسجين، وزُوّدت بالتغذية المناسبة. تمكّن فريق البحث في “مآت” من إنتاج 4 آلاف لتر من الميكروبات البرازية باستخدام أقل من ملعقة صغيرة من البراز السائل خلال 15 يوماً فقط.

يتطلع أفاغارد إلى مستقبل تُستخدم فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي لمزج وتنسيق كميات من ميكروبات الأمعاء التي تنشأ في حاضنات عملاقة ضمن المجموعة الواسعة من العينات المجمدة لدى “مآت”. ويمكن بعد ذلك تجفيف هذه الميكروبات بالتجميد وتحويلها إلى تركيبات فموية تناولها أسهل، يسميّها البعض “الكبسولات البرازية”.

تتميز هذه الكبسولات بلونها الأبيض غير الشفاف، كما أنها دون رائحة، إذ تظل الميكروبات البرازية في حالة جفاف إلى أن يُعاد تنشيطها في الأمعاء. ورغم أن عامل “الاشمئزاز” قد يستمر في تنفير البعض، فإن تناول هذه الكبسولات أسهل على المرضى مقارنة بالطريقة الحالية التي تعتمد على الحقن الشرجية. كما أنها أرخص بكثير. إذ تُعتبر التكلفة المرتفعة للعلاجات الميكروبية التي قد تصل إلى عشرات آلاف الدولارات، وأحياناً تتجاوز 130 ألف دولار لكل دورة علاجية، من أبرز العوائق التي تعرقل انتشارها. كما أن احتمال أن تحظى العلاجات بتغطية تأمينية يختلف من دولة إلى أخرى، وأيضاً بحسب المنتج وشركة التأمين.

يعوّل أفاغار على تحقيق التجارب السريرية نتائج إيجابية من أجل جذب مستثمرين إضافيين يمتلكون موارد مالية أكبر لدعم الدراسات اللازمة حول العلاجات التجريبية المعززة بالذكاء الاصطناعي. (تُقدّر تكلفة التجارب واسعة النطاق عادةً بمئات ملايين الدولارات).

من بين الدراسات الحالية، واحدة بلغت مرحلة متوسطة تُجرى على مرضى مصابين بالورم الميلانيني يتلقون مثبطات نقاط التفتيش المناعية، وخاصة عقارَي “أوبديفو” (Opdivo ) و”يرفوي” (Yervoy) من شركة “بريستول – مايرز سكويب” (Bristol-Myers Squibb ). تعمل هذه الأدوية على تعطيل البروتينات التي تمنع الجهاز المناعي من مهاجمة الخلايا السرطانية، ما قد يجعل سرطان الجلد في المراحل المتقدمة مرضاً قابلاً للعلاج.

تهدف التجربة إلى دراسة ما إذا كان علاج “مآت” قادراً على تحسين فعالية هذه الأدوية وتقليل آثارها الجانبية. فرغم الفعالية الكبيرة لهذه الأدوية المنقذة للحياة، إلا أنها قد تتسبب في مضاعفات مثل الطفح الجلدي، والإسهال، والغثيان، بالإضافة إلى التهابات تصيب الغدة الدرقية والكبد والرئتين. حتى الآن، جمعت شركة “مآت” ما يقرب من 130 مليون يورو، منها حوالي 25 مليون يورو كمنح، لكن أفاغار يرى أن الشركة ستحتاج إلى ما بين 300 و500 مليون يورو لتحقيق طموحاتها الواسعة.

إمكانات غير محدودة

 من جهتها، أشارت جينيفر وارجو، أستاذة جراحة الأورام والطب الوراثي في مركز “إم دي أندرسون للسرطان” في هيوستن، إلى وجود خيارات أقل كلفة وإن كانت أبطأ لتحسين صحة الميكروبيوم. وقالت إن استهلاك ما لا يقل عن 20 غراماً يومياً من الألياف التي تحتويها الأطعمة الصحية قد يكون كافياً للحفاظ على ميكروبيوم صحي لدى بعض الأشخاص، كما قد يساعد على الوقاية من السرطان لدى الأشخاص الأصحاء. مع ذلك، هي تؤمن بأهمية البحث الجاري في هذا المجال، قائلة “في نهاية المطاف، أعتقد أن هذه البحوث ستؤثر على جميع مرضى السرطان”. وبينما لم يتضح بعد الدور المحدد للميكروبات المعوية في التسبب بالإصابة بالسرطان، قالت “يصاب الناس بالسرطان لسبب ما، ومن المرجح أن جزءاً من هذا السبب هو اضطراب التوازن الميكروبي في الأمعاء”. ولكن بعد عقود على تشجيع الناس على تحسين أنظمتهم الغذائية، اتضح أن القول أسهل من الفعل.

أظهرت بيانات جمعتها بلومبرغ أن شركات تطوير العلاجات القائمة على الميكروبيوم أعلنت على مدى العقد الماضي عن شراكات أو صفقات مع معظم شركات الأدوية العالمية الكبرى. على سبيل المثال، تتعاون شركة “ميرك” (Merck) مع “ميكروبيوتيكا” (Microbiotica) البريطانية لتطوير علاج للسرطان، فيما تعمل “سانوفي” (Sanofi) على تطوير لقاح يعتمد على الميكروبيوم لعلاج حب الشباب. وقال أفاغارد إن شركة “مآت” استقطبت اهتمام أسماء بارزة في المجال، لكنه يركز حالياً على إثبات فعالية نهجه القائم على الذكاء الاصطناعي في تطوير التركيبات. وقال “أنا واثق من النجاح استناداً إلى البيانات التي جمعناها حتى الآن، ولكننا بحاجة إلى إثبات ذلك. وإذا نجحنا، فإن الإمكانات ستكون غير محدودة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *