كيف تهدد رسوم ترمب مستقبل الإنتاج السينمائي في العالم؟

أثار إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن نيّته فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الأفلام المُنتجة خارج الولايات المتحدة موجةً من الدهشة والقلق في أوساط صناعة السينما العالمية، وسط تساؤلات حول الجدوى القانونية والعملية لهذه الخطوة، التي قد تُحدث اضطراباً واسع النطاق في قطاع يعتمد على بنية إنتاجية دولية مترابطة.
ترك الإعلان عدة تساؤلات معلّقة دون إجابة، من بينها الآلية التي يمكن من خلالها فرض رسوم على محتوى يُنتَج رقمياً ويُوزّع عبر الإنترنت، والأساس القانوني لهذا القرار، إضافة إلى إمكانية تنفيذه في ظل المعايير التجارية الدولية، وهو ما يُعقّد آليات التتبع والجباية، ويضع شركات الإنتاج ومنصات البث في مواجهة مباشرة مع جهات تنظيمية متعددة، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل أيضاً في دول قد ترد بإجراءات مماثلة.
وتأتي هذه الخطوة في سياق رغبة ترمب في التصدي لما يعتبره “نزيف إنتاجي” نحو الخارج، حيث تقوم شركات إنتاج أميركية بتنفيذ أعمال كبرى في بلدان مثل المملكة المتحدة وكندا، التي تقدّم حوافز مالية منافسة، ما أدى إلى تراجع في عدد الوظائف المرتبطة بالإنتاج في ولايات مثل كاليفورنيا.
لكن فكرة فرض رسوم شاملة على جميع الأعمال المُنتجة في الخارج تثير اعتراضات، إذ من شأنها أن تطال أيضاً الأعمال التي يتم تصويرها في الخارج لأسباب فنية أو سردية، لا اقتصادية فقط.
صادرات الصناعة السينمائية الأميركية
بلغ حجم صادرات الصناعة السينمائية الأميركية في عام 2023 نحو 22.6 مليار دولار، محققةً فائضاً تجارياً قدره 15.3 مليار دولار، مع فائض في التبادل التجاري مع كل الأسواق الكبرى، بحسب بيانات جمعية الأفلام الأميركية (MPA)، وهو ما يثير تساؤلات حول منطق فرض رسوم على قطاع يُساهم إيجابياً في الميزان التجاري الأميركي.
وفي حال مضي ترمب في مسعاه لفرض الرسوم الجمركية، فإن شركات البث الرقمي مثل “نتفليكس”، و”أمازون برايم”، و”ديزني+” قد تكون من بين الأطراف الأكثر تأثراً سلباً، إذ تعتمد هذه المنصات بشكل متزايد على إنتاجات دولية تجذب جماهير متعددة اللغات والأسواق، وهي تتبنى نماذج إنتاج موزعة عالمياً، ما يجعل التمييز بين “الإنتاج المحلي” و”الإنتاج الأجنبي” معقداً من الناحية القانونية والفنية.
فرض رسوم على المحتوى الأجنبي قد يُعيد تشكيل استراتيجيات هذه الشركات في السوق الأميركية، سواء عبر إعادة توطين بعض عمليات الإنتاج، أو تعزيز الإنفاق على المحتوى المحلي على حساب التنوع الثقافي.
معوقات قانونية أمام الرسوم الجمركية
يواجه الرئيس الأميركي تحديات قانونية كبيرة، في حال مضى قدماً في تنفيذ تلك الخطة، وفق ما أكده خبراء قانونيون واقتصاديون في مجال التجارة الدولية.
ورغم استناده في حملته التصعيدية الأخيرة على قانون الصلاحيات الاقتصادية في حالات الطوارئ الدولية (IEEPA) الصادر عام 1977، إلا أن تعديلات قانونية لاحقة تُعرف باسم “تعديلات بيرمان” تستثني صراحة المواد الإعلامية، بما فيها الأفلام، من صلاحيات الحظر أو الرسوم، والتي اصطدم بها ترمب نفسه في عام 2020 أثناء محاولته حظر تطبيق “تيك توك”، والتي أوقفها القضاء بسبب هذه التعديلات نفسها.
وتتركز إحدى العقبات الرئيسية في أن الأفلام ليست منتجاً مادياً يُفرض عليه رسم دخول، بل محتوى رقمي يُوزع غالباً عبر الإنترنت، ما يثير تساؤلات حول آلية فرض رسوم جمركية عليه.
بعض الدول، مثل الصين وفرنسا، اتخذت نهجاً مختلفاً عبر فرض حصص على عدد الأفلام الأجنبية أو ضرائب على مبيعات التذاكر، وليس على الاستيراد بحد ذاته.
في الوقت ذاته، يرى بعض المحللين أن ترمب قد يحاول اللجوء إلى مواد قانونية بديلة، مثل “المادة 301” التي تُستخدم لمواجهة الممارسات التجارية غير العادلة، أو “المادة 232” التي تتيح فرض رسوم باسم الأمن القومي، لكن ذلك يتطلب تحقيقاً طويلًا قد يستغرق عدة أشهر.
ويرجع تعديل “بيرمان” الذي قدمه النائب الديمقراطي هوارد بيرمان، ممثّل هوليوود لخمسة عشر دورة في الكونجرس، إلى عام 1988 بعد أن قامت الحكومة حينها بمصادرة كتب ومجلات من دول خاضعة للعقوبات.
وقال بيرمان في خطابه آنذاك: “اختلافنا مع حكومة لا ينبغي أن يحرمنا من الحوار مع شعوبها، نحن أكثر تأثيراً عندما نجسد الحريات التي يصبو إليها الآخرون”.
جذب رأس المال الثقافي العالمي
في ظل غياب إطار قانوني واضح، قد يُنظر إلى هذه السياسات باعتبارها إجراءات تمييزية، تُعرض الولايات المتحدة لمزيد من التوترات التجارية، وتُضعف قدرتها على جذب رأس المال الثقافي العالمي.
فمن المؤكد أن فرض الرسوم قد يؤدي إلى نتائج عكسية على مستوى الاستثمار، إذ قد تُفسَّر هذه الخطوة كرسالة سلبية تُجاه الشراكات الدولية، ما يضعف من جاذبية السوق الأميركية أمام المنتجين والممولين من الخارج.
على مدى العقود الماضية، شكّلت الولايات المتحدة وجهة مفضّلة للإنتاج المشترك، بفضل بنيتها التحتية المتطورة وسوقها الاستهلاكية الواسعة، غير أن سياسات من هذا النوع قد تدفع بعض الشركات إلى إعادة تقييم جدوى التصوير أو الاستثمار في مشاريع تُنفَّذ داخل الأراضي الأميركية.
وما لا يدركه ترمب ومستشاروه في هذا الأمر، هو أن تقييد تدفق الإنتاج الأجنبي قد لا يؤدي إلى استعادة الوظائف المفقودة بقدر ما يفتح الباب أمام تحركات انتقامية من أسواق كبرى مثل أوروبا والهند وكوريا الجنوبية، وهي دول تتمتع بعلاقات إنتاجية واسعة مع هوليوود.
ردود فعل حذرة تجاه خطوة ترمب
قُوبلت تصريحات ترمب بردود فعل حذرة من أبرز النقابات في القطاع، وقالت نقابة العاملين في الكواليس (IATSE)، إنها تشارك القلق من تراجع فرص العمل نتيجة الإنتاج الخارجي، لكنها شددت على أهمية عدم الإضرار بأعضائها في كندا أو بالقطاع ككل.
وقال رئيسها الدولي، ماثيو لوب: “نُوصي بإقرار حوافز فيدرالية للإنتاج السينمائي، وتعديلات ضريبية محلية تدعم العمال الأميركيين، لا نزال ننتظر تفاصيل أوفى بشأن خطة الرسوم، لكننا نؤكد موقفنا بأن أي سياسة تجارية يجب ألا تضر بالأعضاء الكنديين ولا بالصناعة عموماً”.
من جهته، أشار دانكن كراب تري-أيرلند، المدير التنفيذي لنقابة الممثلين (SAG-AFTRA)، إلى أن النقابة تشارك في الأهداف المتعلقة بإعادة “وظائف الطبقة الوسطى” إلى الولايات المتحدة، لكنها تنتظر الاطلاع على تفاصيل الخطة المقترحة قبل تبني أي موقف.
وحتى الآن، لم تعلن جمعية الأفلام الأميركية (MPA)، التي تمثّل مصالح كبرى الاستوديوهات، موقفاً رسمياً من مقترح الرسوم، ما يعكس حذر الصناعة بأكملها من الانزلاق إلى مواجهة تجارية لا تُحمد عقباها مع الشركاء الدوليين في صناعة باتت عابرة للحدود.
تحرك برلماني ضد ترمب
وفي الكونغرس، يعمل السيناتور الديمقراطي عن كاليفورنيا، آدم شيف، على إعداد مشروع قانون لإطلاق حافز فيدرالي للإنتاج السينمائي، وقال في بيان: “الرسوم الشاملة قد تؤدي إلى نتائج عكسية غير مقصودة. أرحب بالعمل مع الإدارة وزملائي الجمهوريين لتمرير حافز فيدرالي تنافسي يُعيد الإنتاج الفار إلى الداخل”.
ولكن الولايات المتحدة لا تملك، حتى الآن، برنامجاً فيدرالياً موحدًا لدعم الإنتاج السينمائي، فيما تكتفي بالحوافز على مستوى الولايات.
على سبيل المثال، لا تقدّم ولاية كاليفورنيا إعفاءات ضريبية تصل إلى 25% من النفقات المؤهلة، بينما تمنح جورجيا حوافز قابلة للتحويل تصل إلى 30%، ما يجعلها من الوجهات المُفضلة للإنتاج المحلي. بالمقابل، تتمتع كندا بنظام دعم سخي يشمل ائتماناً ضريبياً قابلاً للاسترداد يتراوح بين 25% و35% حسب المقاطعة، ويشترط إنفاقاً محلياً أو محتوى كندياً.
أما المملكة المتحدة، فتقدم إعفاءات تصل إلى 25% من تكاليف الإنتاج، شريطة اجتياز اختبار ثقافي والإنفاق المحلي، وتقدم كلا من الإمارات والأردن والمغرب حوافز واسترداد نقدي تصل نسبته إلى 35%، في حين تقدم السعودية استرداد نقدي يصل إلى 40%.
هذه الأرقام تعكس اتساع الفجوة التنافسية وتشير إلى أن أي تحرك أميركي مستقبلي، مثل خطة آدم شيف لإطلاق حافز فيدرالي، يجب أن يتماشى مع هذا الواقع العالمي للحفاظ على قدرة هوليوود التنافسية، والحصول على نصيب وافر من الإنفاق العالمي المتوقع على الإنتاج، والذي قدرته شركة “Ampere Analysis” بنحو 248 مليار دولار خلال عام 2025.
تراجع أسهم شركات السينما
تراجعت أسهم كبرى شركات الترفيه في وول ستريت، الإثنين، على وقع هذه التصريحات. هذا التراجع جاء رغم محاولة البيت الأبيض تهدئة المخاوف، إذ قال المتحدث كوش ديزاي إن “لا قرارات نهائية” اتخذت بشأن الرسوم، وإن “جميع الخيارات قيد الدراسة”.
لكن الأسواق أظهرت حساسيةً واضحةً تُجاه النبرة التصعيدية في منشور ترمب على منصته “تروث سوشال”، حيث قال إن “الأفلام القادمة من أراضٍ أجنبية” تُهدد الصناعة الأميركية، وأمر ببدء إجراءات فرض الرسوم “فوراً”.
وفي مذكرة تحليلية، قال بن سوينبرن، كبير محللي الإعلام في “مورغان ستانلي”، إن تقييم الأثر الفعلي لهذه التهديدات “يكاد يكون مستحيلاً حالياً”، نظراً لغياب تفاصيل رسمية واضحة.
لكنه حذّر من أن “فرض رسوم بنسبة 100% على بعض أو كل تكاليف الإنتاج قد يُؤدي إلى انخفاض عدد الأفلام، وارتفاع تكلفتها، وتراجع أرباح جميع العاملين في هذا القطاع”، بحسب مجلة “فارايتي”.
وأشار إلى أن “نتفليكس” تُعد حالياً أكثر شركة إنتاج أفلام في العالم، حيث تمثل الأفلام ما بين 25% إلى 30% من حجم المشاهدة على المنصة في عام 2024.
وأضاف أن “الواقع الإنتاجي معقد للغاية، إذ قد يتم كتابة الفيلم في بلد، وتصويره في آخر، وتنفيذه بصرياً في ثالث”، مما يطرح صعوبات هائلة في تعريف ما هو “فيلم أجنبي” فعلياً.
ارتباك في استوديوهات أوروبا
تتوزع حالياً عشرات الإنتاجات السينمائية، من الأفلام المستقلة منخفضة التكلفة إلى الأعمال الضخمة لهوليوود، على مواقع في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والمجر، كما يستعد المخرج ميل جيبسون، أحد “سفراء هوليوود” المعينين من قبل ترمب، لتصوير الجزء الثاني من “The Passion of the Christ” في إيطاليا هذا الخريف.
وأثارت القرارات حالة ارتباك في استوديوهات أوروبا، ففي باريس، حذّر رئيس المركز الوطني الفرنسي للسينما، جايتان برويل، من أن فرض رسوم على الخدمات السمعية البصرية “سيعود بالضرر أولاً على الصناعة الأميركية”، مشيراً إلى أن “الأعمال الأميركية تُمثل نحو 60% من المحتوى المستهلك في أوروبا”.
وفي روما، أبدت استوديوهات “تشينيشيتا” التي ستستضيف تصوير فيلم “جيبسون” تحفظاً دبلوماسياً، وقالت مديرتها التنفيذية مانويلا كاتشاماني: “نراقب باهتمام كبير ما يصدر عن سوق مهمة مثل أميركا، لكننا نؤمن بأن التبادل الثقافي يجب أن يبقى دائرياً ومتبادلاً”، وأضافت: “أميركا تستفيد من حوافزنا ومواقعنا ومواهبنا.. ومن الجودة التي لا تُستنسخ”.
أما في المجر، فرأى مفوض السينما تشابا كايل أن تطبيق مثل هذا القرار سيأخذ “وقتاً طويلاً”، مؤكداً أن الصناعة المحلية “ستستمر في تطوير شراكاتها الدولية”.
وعبّر المستشار الإعلامي الدولي هانس فريكين، وهو مفوّض سابق في أبوظبي وكيبيك، عن قلقه من تأثير القرار المحتمل على الاستثمارات الإقليمية، قائلاً لمجلة “فارايتي”: “نعمل حالياً مع ولاية هندية تبني مدينة للإنتاج السينمائي، مثل هذا القرار قد يُربك حسابات الدول التي تعوّل على تدفقات هوليوودية”.
وأضاف فريكين أن هذه الرسوم “قد لا تزيد فرص العمل داخل أميركا كما يُروّج، بل تُسرّع اعتماد الاستوديوهات على الذكاء الاصطناعي لتقليص النفقات”.
تهديد قوة هوليوود
في ظل غياب تفاصيل تنفيذية واضحة، تبقى خطة دونالد ترمب لفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الأفلام المُنتجة خارج الولايات المتحدة بين التصعيد السياسي والتعقيد القانوني.
فبينما يدّعي أنها وسيلة لحماية الوظائف واستعادة الريادة الأميركية، يراها كثيرون تهديداً لمنظومة إبداعية تعتمد على التعاون العابر للحدود.
وإذا ما تحوّل هذا التهديد إلى سياسة فعلية، فقد تُعيد هذه الخطوة رسم خريطة الإنتاج السينمائي العالمي، لا عبر دفع الاستوديوهات نحو الداخل، بل بدفع الشركاء الدوليين بعيداً.
وفي صناعة باتت العولمة شرطاً لبقائها، فإن الانغلاق قد لا ينتج سوى عزلة فنية واقتصادية تضعف من قوة هوليوود التي لطالما بَنَت نفوذها على الانفتاح والتعدد.