اخر الاخبار

كندا والنفط.. إنتاج ضخم يرزح تحت ضغوط داخلية وخارجية

لم تحلّ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض برداً وسلاماً على اقتصاد كندا، بما في ذلك النفط الذي يعاني هبوطاً  حادّاً في الأسعار بفعل تعريفات ترمب الجمركية وانعكاسها على نمو الاقتصاد العالمي، وبالتالي الطلي على الخام. في وقتٍ تشهد البلاد موجة حرائق موسمية قرب الحقول الرئيسية في مقاطعة ألبرتا، تزامناً مع أزمة سياسية داخلية مرتبطة بشكل مباشر بملف النفط.

يسلط التقرير التالي الضوء على قطاع النفط في البلاد، وأبرز التحديات التي تواجهه على المستويين المحلي والعالمي. 

إنتاج ضخم واحتياطيات هائلة

بدأت مسيرة كندا النفطية عام 1717 فعلياً، عندما وجد تاجر الفرو هنري كيلسي رواسب رمال نفطية في عينة جلبها شعب “الكري” من السكان الأصليين، إلى مركز تبادل تجاري لشركة “هدسون باي” في منطقة أثاباسكا في مقاطعة ألبرتا.

ولكن الإنتاج الفعلي بدأ بعد أكثر من قرن، وتحديداً عام 1858، عندما حفر جيمس ميلر ويليامز أول بئر نفط تجاري في كندا بالقرب من “أويل سبرينغز” في أونتاريو، مما أشعل شرارة إنتاج النفط في أميركا الشمالية.

بعد أكثر من 3 قرون على اكتشاف النفط، تمكنت البلاد من أن تصبح قوة نفطية مهمة، رافعة حجم صادراتها من النفط عام 2024 إلى نحو 4.2 مليون برميل يومياً، وفق بيانات “منظمة الطاقة الكندية” الحكومية. بلغت صادرات النفط الثقيل 79.3% من إجمالي صادرات النفط.

وبلغ إجمالي صادرات كندا عام 2024 حوالي 412.5 مليار دولار، شكّل النفط منها أقل من الربع بقليل بواقع 98.5 مليار دولار، تذهب بغالبيتها العظمى عبر إلى أنابيب إلى الجارة الوالايات المتحدة الأميركية.ص

بالإضافة إلى معدل الإنتاج والصادرات الذي يضع كندا بمقدمة الدول النفطية عالمياً، فإن حجم الاحتياطيات المؤكدة مكّن البلاد من احتلال المرتبة الثالثة عالمياً، بعد فنزويلا والسعودية، بحجم يصل إلى 171 مليار برميل، ما يمثل 10% من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم.

أبرز مقاطعات تصدير النفط

لا يمكن الحديث عن قطاع النفط في كندا من دون التركيز على ألبرتا، التي تضم 166.3 مليار برميل من مجمل احتياطيات البلاد المؤكدة.

بلغت صادرات المقاطعة من النفط في 2024 نحو 3.77 مليون برميل، وهو ما يعادل نحو 89% من إجمالي الصادرات.

صدرت مقاطعات “نيوفاوندلاند ولابرادور” و”ساسكاتشوان” و”مانيتوبا” كميات من النفط خلال 2024، ولكن مجمل الصادرات لا يقترب حتى من صادرات ألبرتا من النفط الخفيف.

لم تؤثر الحرائق في كندا المندلعة على قطاع النفط في ألبرتا بشكل مباشر حتى الآن، إلا أنها تشكل تهديداً مستمراً للإنتاج.

وعلى سبيل المثال، تعرضت “فورت ماكموري”، أكبر مركز سكاني بالقرب من عمليات الرمال النفطية الضخمة في ألبرتا، لأضرار جسيمة بفعل حريق عام 2016 الذي أجبر الآلاف على الإخلاء وأدى إلى توقف مؤقت لإنتاج أكثر من مليون برميل يومياً من النفط.

اعتماد على خطوط الأنابيب

تصدّر كندا نفطها بثلاث طرق: القطارات، النقل البحري، وخطوط الأنابيب، وتعتمد بشكل أساسي على الأخيرة، حيث نقلت عبرها 85% من صادرات النفط العام الماضي، مستفيدة من قربها الجغرافي من الولايات المتحدة.

يُعد خط “إنبريدج مينلاين” الأبرز، إذ ينقل منذ عام 1950 نحو 3.22 مليون برميل يومياً على امتداد 7550 كلم من إدمونتن في ألبرتا إلى شبكة “إنبريدج ليكهيد” الأميركية.

اقرأ أيضاً: كندا تشكل احتياطي النفط الحقيقي للولايات المتحدة

كما ينقل خط “كيستون” 591 ألف برميل يومياً بطول 1233 كلم من ألبرتا إلى ولاية نورث داكوتا الأميركية. أما خط “إكسبريس” الذي افتتح عام 1997، فيمتد 439 كلم وينقل 310 آلاف برميل يومياً من هارديستي إلى الحدود الأميركية.

خلاف بين ألبرتا والحكومة الفيدرالية

لطالما خاضت ألبرتا نزاعات مع الحكومة الفيدرالية في أوتاوا حول السياسات المتعلقة بصناعة النفط. تفاقم هذا التوتر خلال ولاية رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو، الذي فرض قيوداً على تطوير خطوط الأنابيب وضرائب على الكربون، ووضع سقوفاً لانبعاثات قطاع النفط والغاز.

حتى مع استقالة ترودو وفوز مارك كارني برئاسة الوزراء، فإن رئيسة حكومة المقاطعة دانييل سميث لا تزال مصرة على تعزيز آفاق القطاع النفطي وتحدي الحكومة الفيدرالية، خصوصاً أن القطاع يشكل 21% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي ويوظف 6% من القوى العاملة في المقاطعة.

تحدثت سميث وكارني بعد توليه منصب رئيس الوزراء في مارس، وطرحت عليه قائمة من تسعة مطالب، أبرزها إلغاء سقف انبعاثات النفط والغاز، وإلغاء مشروع قانون قالت الصناعة إنه يُصعّب إنشاء خطوط أنابيب جديدة.

وحذّرت سميث آنذاك من أن تجاهل هذه المطالب خلال الأشهر الستة الأولى من ولاية كارني قد يؤدي إلى “أزمة وحدة وطنية غير مسبوقة”.

في مايو الماضي، أعادت سميث التأكيد على أنها ستُشكّل مجموعة للتفاوض مع حكومة كارني بهدف إلغاء القوانين التي تُقيّد إنتاج الطاقة. وقالت سميث آنذاك، إن “هذه القوانين تُدمّر ثقة المستثمرين وتُكلّف كندا وألبرتا مئات المليارات من الاستثمارات سنوياً. يجب إلغاؤها”.

ترمب ورقة تفاوض قوية

منذ عودته إلى البيت الأبيض، واصل ترمب الضغط على البلاد لكي تكون الولاية الـ51. رفضت كندا بشكل قاطع هذه الدعوات، وأكدت أن البلاد “ليست للبيع”.

ولكن الضغط الأميركي للاستحواذ على البلاد، تزامناً مع ضغط آخر لخفض العجز التجاري، منح رئيسة وزراء المقاطعة ورقة قوية في المفاوضات مع الحكومة المركزية.

تدرك سميث جيداً قوة اقتصاد المقاطعة، خصوصاً أنها تُعتبر موطناً لـ11.6% من سكان كندا فقط، في حين تشكل رافعة تدعم اقتصاد البلاد.

في عام 2022، كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في ألبرتا، والذي بلغ 5.0%، الأسرع في كندا، وساهم بنسبة 17.9% من نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في كندا، وفق دراسة أعدها “معهد فرايزر”.

كما بلغ صافي مساهمة المقاطعة في الموازنة الفيدرالية من عامي 2007 إلى 2022 نحو 244.6 مليار دولار أميركي، وهو أعلى بخمسة أضعاف من مساهمة مقاطعة بريتش كولومبيا أو مقاطعة أونتاريو. 

في العام ذاته، زادت مساهمة ألبرتا في الإيرادات الفيدرالية بمقدار 14.2 مليار دولار أميركي، عما تلقته من إنفاق فيدرالي.

تلميح بالانفصال عن كندا

منذ انتخابها في 2022، جعلت سميث من أولوية حكومتها العمل على توسيع صلاحيات ألبرتا بعيداً عن سلطة أوتاوا. وكان أول تشريع قدمته بعد تولي السلطة يهدف إلى منع الهيئات الإقليمية والمحلية من تنفيذ القوانين الفيدرالية التي تراها المقاطعة ضارة بمصالحها.

كما درست سميث الانسحاب من خطة المعاشات الوطنية، وإنشاء شركة مرافق حكومية للالتفاف على قواعد الانبعاثات الفيدرالية، وتأسيس قوة شرطة إقليمية بديلة عن الشرطة الملكية الكندية.

خلال حديثها مع كارني، لمحت سميث إلى إمكانية الانفصال عن كندا، وقالت إن حكومتها ستُشكّل لجنة لدراسة الإجراءات التي يمكن أن تتخذها المقاطعة لحماية مصالحها من السياسات الفيدرالية التي تلحق الضرر بها، على أن تُعرض توصيات اللجنة على الناخبين في استفتاء إقليمي العام المقبل.

وأكدت أن حكومتها لن تطرح سؤالاً مباشراً حول الانفصال عن كندا، لكنها أشارت إلى أن تشريعاً صاغته حكومتها سيمنح المواطنين، في حال إقراره، الحق في الدعوة إلى استفتاء عام على الانفصال.

هذه ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها موضوع انفصال ألبرتا عن كندا، إذ شهدت المقاطعة ظهور حركة انفصالية صغيرة وصاخبة بعد إعادة انتخاب ترودو عام 2019، لكنها سرعان ما تلاشت ولم يُجرَ أي استفتاء رسمي.

على المقلب الآخر، لم تُظهر سميث أي استعداد للرضوخ لترمب وتهديداته، إذ تسعى ألبرتا للتوصل إلى اتفاق يضمن وجود ممرات لنقل الطاقة إلى سواحل المحيط الأطلسي والهادئ والمحيط المتجمد الشمالي، بما يُتيح لموارد المقاطعة الوصول إلى الأسواق العالمية، بدل الاعتماد على أميركا فقط.

بين مطرقة ترمب وسندان النفط

رغم أن سياسات ترمب بشأن كندا تشكل رياحاً إيجابية للمقاطعة للضغط على الحكومة، إلا أنها في الوقت ذاته تشكل رياحاً معاكسة لاقتصادها.

أطلق ترمب حرباً تجارية ضد غالبية الدول، وباتت سياساته تؤثر على آفاق الطلب على الخام، في ظل توقعات بحدوث وفرة في المعروض هذه السنة، ما أدى لتراجع أسعار النفط.

تتوقع حكومة سميث بالفعل عجزاً في الميزانية قدره 5.2 مليار دولار في 2025-2026، مع استمرار العجز على مدى العامين التاليين.

يستند عجز هذا العام إلى متوسط ​​أسعار النفط البالغ 68 دولاراً أميركياً للبرميل، كما تتضمن مبلغاً احتياطياً قدره 4 مليارات دولار للأحداث غير المتوقعة، وفق مديرة “سياسات ألبرتا” في “معهد فرايزر” تيغان هيل.

ورأت في مدونة نُشرت على موقع المعهد، أن أي انخفاض بمعدل دولار واحد لأسعار النفط سينعكس خسارة بنحو 750 مليون دولار أميركي في إيرادات المقاطعة.

يُشار إلى أن موازنة المقاطعة للعام المالي 2025-2026 تتوقع سعر خام “غرب تكساس” الوسيط عند 68 دولاراً، في حين تتوقع بلوغ سعر خام “ويسترن كانيديان سيليكت” نحو 73 دولاراً. 

لم يرتفع سعر الخام الكندي الثقيل عن 62.86 دولار منذ يناير الماضي، ووصل في بداية الشهر الجاري إلى 50.83 دولار للبرميل. أما خام “غرب تكساس” فبدأ العام عند 75.74 دولار للبرميل، وهو في مسار نزولي منذ ذلك الوقت، ليصل بداية الشهر الجاري إلى 63.54 دولار للبرميل.

الأسعار تضغط على القطاع

بالإضافة إلى التأثير على موازنة المقاطعة، فإن انخفاض أسعار النفط بدأ بالتأثير على القطاع ككل. 

بدأت الطفرة في مبيعات حقوق الحفر في قلب صناعة النفط في المقاطعة بالتلاشي. إذ تشير بيانات المقاطعة إلى انخفاض متوسط السعر المدفوع لاستئجار أراضٍ لتطوير الرمال النفطية إلى 771 دولاراً كندياً للهكتار العام الحالي، بتراجع 18% مقارنة بمتوسط أسعار العام الماضي، والذي كان الأعلى منذ 2007. أما بالنسبة للأراضي الواقعة خارج مناطق الرمال النفطية، فقد انخفض السعر 25%.

يُعد تراجع أسعار الأراضي مؤشراً مبكراً على احتمال اقتراب نهاية طفرة الحفر التي شهدتها كندا بعد إنجاز مشروع توسعة خط أنابيب “ترانس ماونتن” العام الماضي، والذي أتاح للمنتجين قدرة إضافية تقارب 600 ألف برميل يومياً من سعة الشحن.

رغم ذلك، من المتوقع أن يواصل المنتجون في كندا زيادة إنتاجهم خلال السنوات المقبلة. فبالنسبة لمنتجي مناطق الرمال النفطية، يمكن تعويض انخفاض الأسعار بزيادة حجم الإنتاج، كما أن إنشاء محطة جديدة للغاز الطبيعي المسال في مقاطعة بريتش كولومبيا سيشجع على الحفر في المناطق الغنية بالنفط في غرب كندا، وفق ما قاله كيفن بيرن، كبير المحللين في شؤون أسواق النفط الكندية لدى “ستاندرد آند بورز غلوبال” (S&P Global) لـ”بلومبرغ”.

قطاع باقٍ في مرمى النيران

تمتلك كندا ثالث أكبر احتياطي نفطي في العالم، وتُصدّر ملايين البراميل يومياً عبر شبكة بنية تحتية محكمة، ومع ذلك، فإن صناعة النفط فيها مهددة من الداخل والخارج على حد سواء.

فعوامل عدّة تُنبئ بأن قطاع النفط الكندي، وتحديداً في ألبرتا، سيبقى في مرمى النيران السياسية والاقتصادية والمناخية، في حين أن قدرته على الصمود تتوقف على التوافقات بين المقاطعة والحكومة المركزية، ومسار الحرب التجارية التي أطلقها ترمب ونتائجها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *