عصير البرتقال بين تحديات الأسعار وتغير العادات الغذائية

استعاد البيض رواجه في الولايات المتحدة مع زيادة الإقبال على البروتين بعد تراجع استهلاكه لسنين عديدة بسبب مخاوف المستهلكين من تسببه بارتفاع الكوليسترول. وكذلك الزبدة التي استغنى عنها الأميركيون طيلة عقود واستبدلوا بها الزبد النباتي، فقد عادت إلى موائد الطعام هي الأخرى. حتى الجبن القريش المثير للجدل الذي لطالما كان رمزاً للحميات الغذائية التقليدية، وجد طريقه مجدداً إلى ثلاجاتهم. لكن عصير البرتقال ما يزال ينتظر عودة شعبيته.
محاولات لاستعادة شعبية العصير
إن الولايات المتحدة هي السوق الاستهلاكية الأكبر لعصير البرتقال بفارق كبير عما سواها من الدول . بعد أن بلغ الإقبال على هذا المشروب ذروته في منتصف التسعينيات، تراجع بأكثر من النصف مع نهايتها، ليصل في 2024 إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، ولا يبدو أن الوضع سيكون أفضل هذا العام، وفقاً لبيانات وزارة الزراعة الأميركية.
5 سلع جديرة بالمتابعة هذا الأسبوع.. من النفط والذهب إلى عصير البرتقال
مع تغير النزعات الغذائية اليوم، إذ تتصدر البروتينات المشهد وتواجه الصبغة الحمراء رفض المستهلكين، يمكن أن يفقد أي صنف طعام رواجه في أي لحظة، لكن استعادة عصير البرتقال لمكانته تبدو مهمة بالغة الصعوبة.
يشكك بعض المستهلكين اليوم في فوائد عصير البرتقال الغذائية، خاصة أنه قد يحتوي في كوب واحد على كمية سكر كالتي تحويها عدة ثمار فاكهة. كما يضرب التضخم عصير البرتقال، بسبب ازدياد حدة الأعاصير التي ضربت فلوريدا والأمراض التي ألمت بالمحاصيل، ما ألحق الضرر بعدد من المواسم الماضية. لقد ارتفع سعر مركّز عصير البرتقال المجمد إلى رقم قياسي بلغ 9.36 دولار للكيلوغرام في الولايات المتحدة، بزيادة 30% مقارنة بالعام الماضي، بحسب بيانات مكتب إحصاءات العمل الأميركي.
يحاول صانعو العصير إعادة المشروب إلى ثلاجات الأميركيين من خلال زيادة الإنفاق على التسويق وضخّ منتجات بشكل ثابت في السوق. مثلاً، أعادت “تروبيكانا”، أكبر علامة تجارية لعصير البرتقال في الولايات المتحدة، في 2023 تقديم منتجها “تروبيكانا لايت” المحلى بالستيفيا، الذي كان يُعرف سابقاً بـ “تروب 50” (Trop50)، مستهدفةً المستهلكين الحريصين على تقليل الكربوهيدرات.
وتخطط لتطرح في مارس نوعاً جديداً من عصائر متنوعة تضم البرتقال والتفاح والإجاص والماء، وهو خليط أقل كلفة، يحمل اسم “تروبيكانا إيسانشيلز” (Tropicana Essentials). يحوي هذا المنتج على عصير بنسبة 80% بلا سكر مضاف، ويبلغ سعر اللتر منه حوالي 2.86 دولار، مقارنة مع 3.45 دولار للتر منتج “بيور بريميوم” (Pure Premium) وهو عصير خالص.
البحث عن خيارات صحية
قالت تينا لامبرت، المديرة التنفيذية للتسويق في مجموعة “تروبيكانا براندز” (Tropicana Brands)، التي حوّل فريقها “إسينشالز” من فكرة إلى منتج متوفر على الرفوف في غضون تسعة أشهر فقط: “ركزت أبحاثنا على تقديم نكهة البرتقال بارزة المذاق، مع الإحساس المميز الذي يحبّه الناس في عصير البرتقال، إلى جانب القوام المثالي… وهذا ما أنجزه فريق البحث والتطوير”.
في شركة “كوكا كولا”، توسعت علامة “مينوت ميد” (Minute Maid) لتضمّ إلى جانب العصائر التقليدية مياهاً غازية بنكهات الفاكهة والخلائط التي تحوي نبيذاً. يخضع قسما العصائر وحليب “فيرلايف” (Fairlife) لإدارة قسم واحد، ما يفتح الباب أمام مزيد من الابتكارات. سألت بيكا كير، رئيسة قسم وحدة التغذية في “كوكا كولا” خلال مقابلة في الصيف: “هل هناك مساحات يمكن أن يجتمع فيها العصير ومشتقات الحليب… هل هذا مجال مناسب للابتكار؟”.
ظلّت الابتكارات في مجال عصير البرتقال محدودة بتعديلات بسيطة طوال سنوات، مثل إضافة اللب أو إزالته، مع كالسيوم مضاف أو عصير صافٍ 100%. لكن المستهلكين اليوم يبحثون عن مشروبات تقدم فوائد تتجاوز مجرد الانتعاش، فتحتوي مثلاً الكافيين والإلكتروليتات والعناصر الغذائية أو البروتين، ويبدو أن كثيرين مستعدون لدفع المزيد مقابل الخيارات الصحية.
تسعى شركة العصائر المستقلة “أنكل ماتس أورغانيك” (Uncle Matt’s Organic) لمواكبة إقبال المستهلكين على المكونات المفيدة. خلال جائحة كورونا، أطلقت الشركة عصير برتقال “ألتيميت إميون” (Ultimate Immune) المدعّم بالبيلسان وفيتامين د والزنك، وما تزال مبيعاته تسجل ارتفعاً سنوياً مع حلول موسم البرد والإنفلونزا، وفقاً لمؤسس الشركة مات مكلين.
تقدم الشركة مشروباً آخر أيضاً يعتمد على عصير البرتقال، مضافاً إليه الكركم والبروبيوتيك اللذان يساعدان عملية الهضم. ويشير مكلين إلى أن الطلب الذي ارتفع خلال الجائحة ما يزال قوياً، رغم أن سعر التجزئة لزجاجة 1.54 لتر قفز من 6 دولارات قبل أربع سنوات إلى نحو 10 دولارات حالياً.
تحسن بالطلب خلال الجائحة
في الناحية الأخرى من نطاق الأسعار، لا يزال المتسوقون يقبلون على شراء مثلجات اسطوانية الشكل من مركز العصير، وهي التي أسهمت في انتشار عصير البرتقال في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية.
ازداد الإقبال على عصير البرتقال خلال النصف الثاني من القرن العشرين بفضل حملات تسويقية مكثفة، بينها حملة وطنية شارك فيها بينغ كروسبي، بالإضافة إلى رعاية ميكي مانتل لبعض المنتجات، كما أقيم جناح مخصص لتذوق عصير البرتقال المنتج في فلوريدا خلال معرض نيويورك الدولي عام 1964، حيث تضمنت التجربة عروضاً حية للدلافين.
وفي التسعينيات وأوائل الألفية، زاد انتشار المشروبات المعصورة غير المركزة من جاذبية عصير البرتقال، ما ساهم في ارتفاع الطلب حتى بلغ ذروته عام 1998، لدرجة أن بلغ استهلاك الأسر الأميركية 1.1 مليون طن سنوياً.
لكن سرعان ما بدأ خبراء التغذية يدقون ناقوس الخطر، فتناول العصير، على عكس أكل ثمرة فاكهة كاملة، يزيل الألياف التي تبطئ امتصاص السكر في مجرى الدم. توصي الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال الآن بألّا يتجاوز استهلاك الأطفال دون السابعة حوالي 175 ميليلتر من عصير الفاكهة الطبيعي يومياً، وبتجنب إعطائه تماماً للرضع.
إن هذا تغير جذري مقارنة بما كان يحدث في العقود الماضية، حين كان يصل الحد ببعض الأسر أن تعطي أطفالها قناني رضاعة تحوي عصير البرتقال ليتناولوها قبل أن يخلدوا للنوم.
استعاد عصير البرتقال بعضاً من شعبيته خلال العام الأول من جائحة كورونا، إذ التفت إليه المستهلكون بحثاً عن أي وسيلة لدعم المناعة بفضل احتوائه على فيتامين سي. ووفقاً لبيانات شركة “سيركانا” (Circana) البحثية، قفزت مبيعات عصير البرتقال المبرد بنحو 15% بين 2019 و2020.
لكن منذ ذلك الحين، ومع استمرار الربط بين هذا العصير وكمية السكر فيه، تراجعت مبيعاته باضطراد.
هل استنفد البرتقال “رصيد” كورونا؟
تحديات متعددة
أطلقت “تروبيكانا” حملة إعلامية تسعى إلى “دحض الأساطير” حول عصير البرتقال، مستعينة بمؤثرين عبر الإنترنت لطمأنة المستهلكين بأن منتجات “بيور بريميوم” ليس فيها سكر مضاف. مع ذلك، تواجه الشركة ضغوطاً على جبهات أخرى. فقد خفضت “إس أند بي غلوبال ريتنغز” (S&P Global Ratings) التصنيف الائتماني للشركة إلى (CCC)، على خلفية الانخفاض المستمر في الربحية واستهلاكها المستمر للمال، وزيادة خطر عجزها عن سداد قروضها أو إعادة هيكلة ديونها خلال العام المقبل.
تملك شركة الأسهم الخاصة “بي إيه أي بارتنرز” (PAI Partners) أغلبية “تروبيكانا براندز” فيما تحتفظ “بيبسيكو” بالحصة المتبقية.
قد يتلقى القطاع ضربة أخرى نتيجة خلافات الرئيس دونالد ترمب التجارية المحتملة مع أقرب جيران الولايات المتحدة. استهدفت كندا، وهي أكبر سوق تصدير لعصير البرتقال الأميركي، هذا المنتج ضمن خطتها للردّ على اقتراح الإدارة الأميركية فرض تعريفات جمركية بنسبة 25% عليها، وهذا يهدد صادرات البرتقال إلى الجارة الشمالية وتقدر قيمتها بأزيد من 100 مليون دولار سنوياً. كما سيرتفع سعر عصير البرتقال المستورد من المكسيك الذي يسهم في سد فجوات الإنتاج الأميركي، إن طُبقت الرسوم الجمركية الجديدة.
حتى لو نجح القطاع في مساعيه لزيادة الطلب، سواء من خلال طرح منتجات جديدة أو إضفاء تحسينات على المنتجات المتوفرة أصلاً أو من خلال ابتكارات يُروج لها عبر الإنترنت، ومنها مثلاً “صانعة ميموزا”، يبقى عليه معالجة تحد أساسي، هو الحصول على ما يكفي من البرتقال.
يواجه مزارعو البرتقال في الولايات المتحدة والبرازيل منذ سنوات مرض الاخضرار المدمر لأشجار الحمضيات، ولا يبدو أن ثمة بوادر حلّ لهذه المشكلة قريباً. إذ يتوقع أن تنتج فلوريدا، أكبر ولاية صانعة لعصير البرتقال، 12 مليون صندوق من هذه الفاكهة التي تشكل رمزاً للولاية، وهذه هي أقل كمية منذ عام 1930. يعني ذلك استمرار ارتفاع أسعار البرتقال على مستهلكين رغبتهم بشراء هذا المنتج مهتزة.
اقرأ أيضاً: الجفاف في البرازيل يهدد محاصيل البرتقال والقهوة عالمياً
خيبات أمل متتالية
في الخريف، بدا أن إمدادات البرتقال بدأت تتحسن، مع تطوير مضادات حيوية واعدة، في حين أعادت زراعة الأشجار بعض الأمل بينما كانت بساتين فلوريدا تتعافى من آثار إعصار “إيان” الذي ضربها قبل سنتين وإعصار “إيرما” قبل خمس سنوات. لكن في أكتوبر، وجه إعصار “ميلتون” ضربة قاضية لبعض المزارعين.
أدى الإعصار الذي اجتاج الولاية إلى تكسر أغصان الأشجار وتساقط ثمار البرتقال قبل نضجها، وما عاد يمكن الاستفادة منها. بعد نحو ثلاثة أشهر، أعلنت شركة “أليكو” (Alico) المورّد الرئيسي لـ “تروبيكانا”، أنها ستتخلى عن قطاع الحمضيات، وستستخدم الأرض لأغراض زراعية أخرى أو لأغراض التطوير العقاري.
قال جون كيرنان، الرئيس التنفيذي لشركة “أليكو”: “لم نُقصر قط في تكاليف العناية. كنا نقدم للأشجار أفضل ما لدينا. لكن للأسف، استمر الإنتاج بالتراجع… لقد خاب أملنا لأننا جربنا كل شيء من أجل الحفاظ على نجاحنا في مجال الحمضيات”.