صراع على هوية الكباب
في مقال نُشر في مجلة “ذا سبكتاتور” (The Spectator) عام 1965، أشارت الكاتبة البريطانية المتخصصة في الطعام، إليزابيث ديفيد، إلى الجهود التي بذلها أحد المطاعم في باريس في أواخر القرن التاسع عشر لجعل الوجبات الإنجليزية التي يقدمها تبدو أكثر إنجليزية.
كانت هذه المحاولة صادقة لتلبية رغبات زبائنه البريطانيين، حيث قدم لهم نخاع العظم المشوي مع الخردل الإنجليزي والبطاطس المقلية. ومع ذلك، لم تحقق التجربة النجاح المتوقع. وكتبت ديفيد: “نخاع العظم من بين الوجبات النادرة التي لا يفضل الشخص البريطاني تناول البطاطس معها”.
تركيا تطالب بشروط صارمة على “الدونر”
في بداية القرن الحادي والعشرين، ازدادت حساسية الدول تجاه أطباقها الوطنية وأصول تلك الأطباق. ففي يوليو، قدّم “الاتحاد الدولي للدونر”، الذي يقع مقره في إسطنبول، طلباً إلى الاتحاد الأوروبي يطالب فيه بفرض قواعد صارمة على طريقة تحضير وجبة الدونر. تشترط هذه القواعد أن يتم شواء اللحم على سيخ عمودي ثم تقطيعه إلى شرائح بشكل أفقي، وفي حال عدم التزام المطاعم بهذه الطريقة التقليدية، لن يُسمح لها باستخدام اسم “دونر” أو “دونر كباب” في تسمية منتجاتها.
أعربت ألمانيا عن احتجاجها الشديد على الطلب المقدم من “الاتحاد الدولي للدونر”، وذلك لأن معظم الأشخاص من أصل تركي القاطنين في البلاد قد جعلوا “الدونر” جزءاً أساسياً من وجباتهم الشعبية، ويقدمونه بطرق مبتكرة ومتنوعة، مشابهة لما يفعله المكسيكيون مع وجبة “آل باستور” واليونانيون مع “الغايروس”.
في الواقع، يُمكن القول بجدية أن “الدونر كباب” هو الطبق الوطني غير الرسمي لألمانيا. إذ يدعي بعض الأتراك المقيمين في ألمانيا أنهم أول من ابتكر شطيرة الكباب باستخدام خبز البيتا أو لفها في الخبز المسطح، وهي طريقة تختلف عن الطريقة التقليدية المعروفة في تركيا.
يعود انتشار هذه الشطيرة في ألمانيا إلى السبعينيات، وهناك مطاعم تتباهى ببيع “الدونر الألماني” في مدن مثل كوبنهاغن ولندن وغيرها خارج ألمانيا. ومن المحتمل أن يؤدي قبول الطلب التركي إلى حرمان آلاف مطاعم “الدونر” في ألمانيا من استخدام الاسم، مما قد يتسبب في أزمة كبيرة، حيث يبلغ حجم مبيعات هذا القطاع سنوياً 7 مليارات يورو (7 مليارات دولار). حتى إعادة تصميم جميع اللافتات والإعلانات ستكون تحدياً بحد ذاتها.
إلى جانب ذلك، فإن ارتفاع أسعار الكباب لن يكون في صالح المستشار الألماني أولاف شولتس، في وقت يبرز التضخم كقضية سياسية حساسة.
غضب إيطالي من المعكرونة المعبأة
في تطور مشابه، أثار طرح شركة “كرافت هاينز” أول منتج لها من المعكرونة المعبأة منذ عقد، وهو “اسباغيتي كربونارا”، غضب خبراء الطعام الإيطاليين. وكانت الشركة قد قدمت سابقاً وجبتي “اسباغيتي بولونيز” و”رافيولي” معبأتين.
وصف أحد الطهاة الإيطاليين المنتج بأنه “طعام يناسب القطط”، بينما علّق مستخدم على منصات التواصل الاجتماعي، عرّف نفسه بأنه من جزيرة صقلية، قائلاً إن الوجبة تعد “تحريضاً على الانتحار”. ورغم أن أصل وجبة “كربونارا” لا يعود إلى صقلية، بل إلى منطقة روما وإقليم لاتسيو، إلا أن ردود الفعل جاءت غاضبة.
في الوقت الحالي، يبدو أن الغضب الإيطالي موجه بالأساس إلى السوق البريطانية، حيث لم تطرح “هاينز” وجبة “كربونارا” إلا في المملكة المتحدة، وتباع العبوة بسعر جنيهين إسترلينيين (2.6 دولار).
تزايد الخلاف حول الأطباق الوطنية
هذا النوع من الحماس المبالغ فيه تجاه الأطباق الوطنية، الذي كتبت عنه قبل عام، ليس بالأمر الجديد، ولكنه تفاقم مؤخراً بسبب النقاشات المتزايدة على الإنترنت، حيث يُظهر بعض الخبراء وطنيتهم كما يُلوحون بالسواطير. شهدنا اشتعالاً مبكراً لهذا النوع من النزاعات خلال الحرب بين موسكو وكييف، عندما وصلت القضية إلى منظمة “اليونسكو”، وسط ادعاءات حول أن حساء البورش أصله أوكراني وليس روسياً.
وفي آسيا، اندلع غضب بين مواطني البر الرئيسي الصيني تجاه كتب الطهي في تايوان، التي لم تعترف بما يكفي بدور الصين في تطوير الأطباق الوطنية التايوانية. وإذا كان الإيطاليون قد استاؤوا من منتجات “هاينز”، فإنهم قد يزدادون غضباً إذا علموا أن الفلبينيين يفضلون تناول الإسباغيتي على الطريقة التي تقدمها سلسلة “جوليبي”، وهي لينة ومطهية أكثر من المعتاد.
ما يغفله معظم القوميين هو أن مفهوم “الطبق الوطني” حديث نسبياً، فالدولة الإيطالية الحديثة لم تتشكل إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. والأطباق الشهيرة الآن، مثل البيتزا والطعام الإيطالي الفاخر، ربما اكتسبت شعبيتها من مجتمعات المهاجرين في الأميركتين، الذين ألهم نجاحهم الإيطاليين في وطنهم الأم.
والأهم من ذلك، أن أصول “كربونارا” الغامضة يمكن تتبعها إلى مطبخ الجيش الأميركي أو إلى مؤن جنوده التي كانت تشمل البيض، اللحم المقدد، والشعيرية، وذلك خلال فترة تواجدهم في شبه الجزيرة الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية.
الأصناف العثمانية تطغى على المنطقة
في الوقت الحالي، قد يؤدي انتصار تركيا في معركة “الدونر” إلى تغير جذري في جميع أنحاء دول البلقان، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، حيث سيعد سابقة من نوعها في هذا الشأن. فالكثير من الأطباق الوطنية في هذه المناطق لها جذور تاريخية ترتبط بالإمبراطورية العثمانية، سواء بالاسم أو بطريقة التحضير. تلك الإمبراطورية، التي انهارت في عام 1922، وقامت عقبها دولة تركيا الحديثة على أراضي الأناضول والمنطقة المحيطة بإسطنبول. لكن السلاطين حكموا إمبراطورية واسعة، وانتشرت تأثيرات المطبخ العثماني في أنحاء البحر المتوسط، مما أثر على تطور العديد من الأطباق في تلك المناطق.
على سبيل المثال، الصنف الذي يطلق عليه اسم الـ”بُرك” في تركيا التي يحكمها الرئيس رجب طيب أردوغان، يتشابه مع الـ”بوريك” في صربيا وكرواتيا وبقية دول يوغوسلافيا السابقة، فيما يسمى بوريكي في اليونان، والـ”بوراك” في الجزائر، والـ”بريك” في تونس. حتى اليهود السفارديون لديهم طريقتهم الخاصة في إعداد هذا الصنف.
ورغم اختلاف طرق التحضير عبر المناطق، إلا أن الاسم بقي ثابتاً، وشاهداً على ارتباطه بأصل عثماني مشترك. وينطبق هذا الأمر على العديد من الأطباق الأخرى ذات الجذور العثمانية، ما يجعل الادعاء الحصري لأي دولة بأنها المصدر الوحيد لهذه الأطباق مسألة حساسة. فالصراعات التي تشهدها المنطقة تكفي، دون الحاجة لافتعال نزاعات حول الأطباق التراثية.
فنون الطهي تعكس الهوية الوطنية
يظهر تاريخ الطهي بوضوح أن الطعام لا يعترف بحدود الدول، ويكفي النظر إلى هجرة الأطعمة والنكهات عبر العصور: الفلفل الحار جاء من الأميركتين، الشاي من الصين، البطاطس من بيرو، وسكر النبات من الهند. وينطبق الأمر ذاته على طرق إعداد الطعام، حيث تُبتكر أساليب جديدة لتعزيز النكهة في مكان ما، ثم تنتقل وتنتشر إلى أماكن أخرى. وهكذا، تندمج الأطباق الوطنية وتتلاقح الأفكار بشكل مستمر، ما يؤكد أن الطعام هو عنصر مشترك بين الثقافات، وليس حكراً على بلد معين.
عند تحليل المكونات بشكل تفصيلي، لن نجد دولة تملك طبقاً وطنياً خالصاً، ولن يتوقف الناس عن تناول أطعمتهم المفضلة حتى لو أُعلن أن دولة أخرى هي من ابتكرتها. ورغم ذلك، يبقى الطعام أسرع طريق إلى قلب دولة ناشئة. على سبيل المثال، المملكة العربية السعودية ما زالت في طور استكشاف فنون الطهي ضمن جهود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لبناء هوية ثقافية مستقلة عن النفط والدين. فما هو الطبق الذي سيصبح رمزاً للمملكة؟ قد يُستدل بالاختيارات الشعبية، تماماً كما اكتشفت تايلندا طبق “باد تاي” المقلي.
تطور طبق “باد تاي”، الذي يتكون من الشعيرية والتوفو والبيض، من وصفات قدمها المهاجرون الصينيون، وتم دمجها مع التوابل المحلية في أربعينيات القرن الماضي، عندما شجعت الحكومة التايلندية على استهلاك الشعيرية وسط أزمة نقص الأرز. سرعان ما تم تبنيه كطبق وطني يعكس هوية البلاد للسياح وفي العالم أجمع.
وأصبح “باد تاي” جزءاً من العلامة التجارية لتايلندا، حيث يتصدر قوائم الطعام في المطاعم التايلندية حول العالم، وغالباً ما تدعمه الحكومة رسمياً. لقد أصبح رمزاً للوحدة الوطنية، لكن يُفضل عدم التطرق بصوت عالٍ إلى أصوله الصينية.