شركة ناشئة تكشف حجم الاضطرابات الناجمة عن الرسوم الجمركية

تابع راين بيترسن، الرئيس التنفيذي لشركة “فليكس بورت” (Flexport) الناشئة المتخصصة في تطوير البرمجيات لقطاع الشحن البحري، حركة السفينة “ماتسون وايكيكي” على هاتفه المحمول، مستخدماً أداة مصمّمة داخلياً لمراقبة حركة السفن.
كانت السفينة “وايكيكي” قد غادرت شنغهاي في 9 أبريل، بعد ساعات فقط من دخول الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضها الرئيس دونالد ترمب على السفن القادمة من الصين، حيّز التنفيذ. ويَعتقد بيترسن أنها أول سفينة تصل إلى الولايات المتحدة محمّلة ببضائع خضعت لرسوم جمركية بنسبة 145%.
تكهن الآتي على وقع تقلبات قرارات ترمب
راح يشرح لي عن كلّ ذلك خلال رحلتنا بعد الظهر على متن عبّارة، مُتجهين إلى ميناء أوكلاند في كاليفورنيا، فيما كانت سفينة “وايكيكي” تشق طريقها عبر المحيط الهادئ. ومع رسو السفينة قرب لوس أنجلس، سيضطر العملاء الذين تنقل لهم بضائع دفع رسوم تفتح الباب أمام جملة تداعيات، من رفع الأسعار على المستهلكين إلى زيادة التكاليف على الشركات وتراجع هوامش الربح وصولاً إلى موجة تسريح موظفين. قال بيترسون إننا لم نلمس بعد التبعات المؤلمة الحقيقية لرسوم ترمب، ما يجعل هذه السفينة نذير اضطرابات اقتصادية تقترب شيئاً فشيئاً.
اقرأ أيضاً: خطوط الشحن البحرية بين أميركا والصين تغرق وسط الحرب التجارية
حاول بيترسن في الأسابيع التي تلت ما يُعرف بـ”يوم التحرير” الذي أعلنه ترمب، وعلى وقع قراراته المتقلبة، التكهّن بتأثير كل تعرفة جمركية جديدة على حركة التجارة. ورغم استمتاعه بنشر تعليقات على منصة “إكس” يشرح فيها آليات عمل الموانئ، فإن الرسوم الجديدة وجّهت ضربة موجعة لأعمال “فليكس بورت” التي تتيح للتجّار حجز مساحات شحن بحري وجوي.
وتشمل شحنات عملاء الشركة سلعاً مثل الملابس والأثاث والمستلزمات المنزلية والإلكترونيات والمواد الغذائية، لكن الحجوزات تراجعت بشكل حاد نتيجة حالة عدم اليقين وارتفاع التكاليف. وكانت “ماتسون وايكيكي” تحمل على متنها 17 حاوية مخصصة لعملاء “فليكس بورت”.
غالباً ما تبدو نقاشات الرسوم الجمركية نظرية ومجردة، لكن مع اقتراب العبّارة من ميناء أوكلاند، أحد أكبر الموانئ على الساحل الغربي للولايات المتحدة، يرسم العدد الهائل من حاويات الشحن صورة أكثر واقعية. من بعيد، تبدو تلك الحاويات الفولاذية أشبه بمكعبات من لعبة “ماينكرافت”، لكن مع الاقتراب منها، يتضاعف حجمها لتبدو كلّ واحدة بحجم شقّة سكنية. أشار بيترسن إلى أعلى نحو الرافعات المتينة التي ترفع الحاويات واحدة تلو الأخرى ببطء، قائلاً إن تفريغ سفينة قد يستغرق ثلاثة أيام نظراً لضخامة الحمولة.
تخوف من دورات ركود
طوال فصول التقلبات في سياسة الرسوم الجمركية، ظل بيترسن يوصي عملاء “فليكس بورت” بالتزام الهدوء. فهو يرى أن الرسوم الحالية المفروضة على الصين كارثية على الاقتصاد الأميركي، بحيث يستحيل أن تصمد. ويُرجّح أن يكون ترمب، كعادته، يتبنّى موقفاً متطرفاً ويتصرّف بشيء من المزاجية، لكنه في نهاية المطاف سيتراجع خلال المفاوضات إلى موقف أقل تشدداً.
مع ذلك، يشعر بالقلق حيال المدى المتوسط أكثر من المدى القريب. وقال: “السؤال الأهم هو إذا ما كان الناس سيستمرون في الشراء. فإذا امتنعوا عن ذلك، تتراجع حركة الشحن، ويبدأ مسلسل تسريح الموظفين… هكذا تبدأ دورات الركود”.
يصف بيترسن إعادة قطاع التصنيع إلى الولايات المتحدة بالهدف النبيل، لكنه لا يرى أن هذه الطريقة المناسبة لتحقيقه. وقال: “لا أحد في صدد نقل نشاطه الصناعي إلى أميركا بسبب هذه الرسوم”، مشيراً إلى أنه التقى “عدداً كبيراً” من أصحاب المصانع الذين كانوا يعتزمون الإنتاج داخل الولايات المتحدة، لكنهم يخططون الآن لنقل عملياتهم إلى دول أخرى، مثل المكسيك، لتفادي الرسوم المفروضة على المكوّنات المستوردة. إلى ذلك، الشركات المصنّعة القادرة على مغادرة الصين بسهولة، على الأرجح سبق أن غادرت، فيما بقيت أخرى لأن منتجاتها، كالإلكترونيات مثلاً، تتطلّب نظاماً تصنيعياً متكاملاً لا يتوفّر إلا في الصين.
التفاف على الرسوم الجمركية
كلّ تعرفة جديدة تولّد حيلاً جديدة، على حدّ قول بيترسن. فعندما مُنحت أشباه الموصلات إعفاءً من الرسوم، بينما لم تُعفَ بطاقات الرسوميات، وهي في الأصل لوحات إلكترونية تحتوي على أشباه موصلات، حفّز ذلك على استيراد المكوّنات بشكل منفصل وتجميعها في بلد آخر. وبعد دخول تعرفة الـ145% حيّز التنفيذ، سجّلت “فليكس بورت” انخفاضاً في الحجوزات القادمة من الصين، في مقابل قفزة مفاجئة في الطلبيات من فيتنام، حيث عمد العملاء إلى نقل المكوّنات من الصين إلى فيتنام، وإجراء تعديلات بسيطة عليها، بما يكفي لتصنيفها كمنتجات “صُنعت في فيتنام”، ثمّ شحنها إلى الولايات المتحدة.
وقال بيترسن: “الأسواق أذكى منك. حين تفرض الحواجز، يجد الناس دائماً طريقة للإنتاج في مكان آخر”.
وكما هو متوقّع، يستند بيترسن في رأيه إلى كون التجارة العالمية قوّة يتعذر إيقافها، ولا يمكن للرئيس أن يُعيد رسمها بشطبة قلم. وأضاف: “نقل سلاسل الإمداد يحتاج إلى عقود من المثابرة. وإذا حاولت فعل ذلك بين ليلة وضحاها، ستصيبها بالشلل”.
يُهدد هذا الشلل إيرادات “فليكس بورت”. فقد تراجعت حجوزات الشحن البحري بشكل ملحوظ، خاصة من الصين، التي تُعد أكبر أسواقها في هذا المجال. كما أن إغلاق ثغرة الإعفاء الجمركي للطرود الصغيرة الذي كانت تستغله شركات مثل “شي إن” و”تيمو” لتسويق منتجاتها بأسعار جدّ منخفضة، سيقلّص الطلب على الشحن الجوي، الذي يشكّل نحو 20% من إيرادات الشركة.
أما الجانب الإيجابي الوحيد وسط هذا المشهد، فهو ازدهار قطاع الاستشارات المرتبط بالرسوم الجمركية. (يُذكر أن بلومبرغ بيتا، الذراع الاستثمارية لرأس المال الجريء التابع لشركة بلومبرغ، من بين المستثمرين في “فليكس بورت”).
قيادة الشركة في فترة مضطربة
أسّس بيترسن شركة “فليكس بورت” عام 2013 بالشراكة مع شقيقه. وفي عام 2022، تنحّى عن منصب الرئيس التنفيذي، ليخلفه ديف كلارك، أحد كبار التنفيذيين السابقين في شركة “أمازون” لكن وبعد عام من الخلافات خلف الكواليس بين الرجلين، قدّم كلارك استقالته، وعاد بيترسن إلى المنصب مجدداً. وقد أعلن عن عودته عبر منشور على تطبيق “إكس” كتب فيه: “لقد عُدت!!”.
بعد وقت قصير، ألقى بريان تشيسكي، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “إير بي إن بي”، خطاباً لاقى صدى واسعاً، طرح فيه مصطلح “وضعية المؤسس” (Founder Mode)، في إشارة إلى نهج يختار فيه مؤسسو الشركات البقاء منخرطين بشكل مباشر ونشط في إدارة أعمالهم، بدلاً من تفويض المهام بالكامل. كان بيترسن حاضراً بين الجمهور، يستمع بحماسة.
اقرأ أيضاً: رسوم ترمب على السفن الصينية تهدد عمالقة الشحن
تذرّع بيترسن بالضغوط والمخاطر الكبيرة التي سادت خلال الأسابيع الماضية من أجل اتخاذ قرارات بأسلوب “وضعية المؤسس”، تحت عنوان قيادة الشركة في ظل هذه المرحلة المضطربة. فهو لطالما رغب في تعديل سياسة العودة إلى المكتب في “فليكس بورت”، وبعد فترة من التردد، رفع قبل أسبوعين الحد الأدنى للعمل الحضوري من ثلاثة أيام أسبوعياً إلى خمسة.
في 20 أبريل، رست السفينة “وايكيكي” في ميناء لونغ بيتش. ومنذ ذلك الحين، تراجعت وتيرة وصول السفن القادمة من الصين، كما أصبحت حمولاتها أخف بكثير.