شركات الذكاء الاصطناعي تجد ضالتها مع توجه ترمب لتخفيف القيود
يضج عالم التقنية بأصوات كثيرة تبشر بأننا سنبلغ مرحلة الذكاء الاصطناعي العام القادر على التفوق على البشر في معظم المهام في غضون أربع سنوات. إن صحّ ذلك، فإنه يعني أن الأميركيين انتخبوا توّاً دونالد ترمب ليكون أول رئيس في عصر الذكاء الاصطناعي العام.
حتى الآن، تبدو مقاربة ترمب المزمعة للتعامل مع هذا التحوّل التاريخي مشرذمة ومرتبكة. فقد وصف الذكاء الاصطناعي الخارق عبر بودكاست مع نجم اليوتيوب لوغان بول في يونيو قائلاً: “إنه ذكاء اصطناعي رائع”، فيما أعرب عن شيء من القلق حيال التزوير العميق، مستخدماً نعوتاً على شاكلة “مخيف… مقلق… مكدّر”.
لكنه كان مبتهجاً حيال النماذج اللغوية الضخمة التي أذهلته حين أنتجت نصاً لخطاب، ووصف عملها بأنه “لا يُصدق… وسريع جداً”، وقال إن “صياغتها بالغة الجمال”، وأضاف الرجل المعروف بالخروج عن النص في خطاباته مازحاً إن الذكاء الاصطناعي أصبح جيداً لدرجة أنه قد يغنيه عن كاتب خطاباته.
تعجل وتؤدة
في وادي السيليكون، تبلورت معسكرات متعاكسة من حيث تعاملها مع الذكاء الاصطناعي وباتت هنالك مصطلحات تعرف عنها. من جهة، هناك حركة “التسريعيين” أو (e/acc)، التي تعارض القيود التنظيمية. ومن جهة أخرى، هنالك دعاة نموّ الذكاء الاصطناعي مع الحفاظ على الأمان، ومنهم ناشطون يعملون عبر ما يعرف بمجال “اتساق الذكاء الاصطناعي”، وهم معنيون بتطوير ذكاء اصطناعي يلتزم بالقيم الإنسانية.
في أوساط “التسريعيين”، يُسمى من يخالفهم الرأي “المبطئون” (decels)، فيما يُشار إلى من يخشون أن يقضي الذكاء الاصطناعي على البشرية على أنهم “المرجفون”.
تشير التوقعات إلى أن ترمب وفريقه سيكونون من “التسريعيين”، لأنهم سيتجنبون فرض قيود ناظمة جديدة على هذه التقنية، وقد يسعون إلى إلغاء بعض الساري منها. كتب صاحب حساب (bayeslord@)، وهو أحد مؤسسي هذه الحركة، في تعليق عبر منصة “إكس” فيما كانت نتائج الانتخابات الأميركية تتكشف: “قد نكون على أعتاب عصر جديد من تسارع تقني غير مسبوق، دون عوائق في الأفق على طريق مفتوح أمامنا… يبدو هذا كما لو كان جدولاً زمنياً إلهياً”.
المنافسة مع الصين
أعلن ترمب عزمه إلغاء الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس جو بايدن في 2023 بشأن الذكاء الاصطناعي، ووضع عبره إطاراً بغرض تفادي بعض المخاطر المرتبطة بهذه التقنية. وقد انتقد الجمهوريون بشكل خاص الطريقة التي يتعامل بها هذا الأمر التنفيذي مع تأثير الذكاء الاصطناعي على زيادة التحيز والتمييز في قرارات التوظيف.
قال دين بال، الباحث في مركز “ميركاتوس” بجامعة “جورج ميسون” إن هذه الفكرة “أثارت نفور” بعض الناس في الأوساط المتخوفة من تنامي حركة “الووك” (اليقظة).
كذلك، يتوقع محللو السياسات أن يعمل ترمب على تفكيك أو إعادة تشكيل معهد أمان الذكاء الاصطناعي الأميركي الذي أنشئ العام الماضي، ويديره الباحث بول كريستيانو، المعروف بتركيزه على اتساق الذكاء الاصطناعي.
انتقد ترمب أيضاً قانون الرقائق والعلوم، وهو المبادرة الرئيسية التي أطلقتها إدارة بايدن بغرض إعادة تنشيط صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة. إن سلسلة توريد الرقائق ذات أهمية بالغة بالنسبة للذكاء الاصطناعي، الذي تعتمد أنظمته على رقائق عالية التطور تُصنع في تايوان.
رغم ذلك، يظلّ الأمل قائماً لدى البعض في المعسكرين بأن يكون انتقاد ترمب للقانون مجرد تهديد فارغ، ويعقدون رهاناتهم على أنه سيتقبل الحجج التي تؤكد ضرورة الحفاظ على التفوق على بكين في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد قال ترمب في مقابلته مع بول: “يجب أن نكون في الصدارة… وينبغي أن نكون متقدمين على الصين”.
مخاوف الجمهوريين
من جهتهم، يرى دعاة الأمان في الذكاء الاصطناعي أن إدارة ترمب قد تكون أكثر انفتاحاً على أفكارهم مما يعتقده خصومهم “التسريعيون”. قالت سنيها ريفانور، مؤسسة منظمة “إنكود جاستس” (Encode Justice) المعنية بالشباب القلقين من مخاطر الذكاء الاصطناعي: “كثير من الناس يرون الأمور من منظور سطحي، حيث يعتقدون أن ترمب سيقاوم أي نوع من التنظيم، وسينتشلهم من نيران البنى التنظيمية الليبرالية”، لكن في الواقع “مواقف الحزبين ليست واضحة التباين”.
الجمهوريون ليسوا محصنين ضد القلق من مخاطر الذكاء الاصطناعي. ولعلّ أكثر اللحظات الصادمة في هذا السياق جاءت حين تطرقت إيفانكا ابنة ترمب عبر حسابها على منصة “إكس” إلى “الوعي الظرفي”، وهو بيان من 165 صفحة من إعداد الباحث السابق في شركة “أوبن إيه أي” ليوبولد آشنبرينر استعرض فيه سيناريو مروعاً يتسبب فيه الذكاء الاصطناعي العام باندلاع حرب مع الصين.
أثار منشورها سلسلة ردود أفعال تعبر عن تفاجئ ناشطين متمسّكين بأمان الذكاء الاصطناعي، وكانوا يتساءلون: “كيف بلغ إيفانكا موضوع تخصصي كهذا؟” وإن كانت قد أصبحت حقاً من دعاة الأمان، فهل ما يزال لها ما يكفي من التأثير على والدها لدفعه في الاتجاه نفسه؟.
لقد أعرب آخرون من أوساط ترمب عن تخوفهم بشأن جوانب مختلفة من الذكاء الاصطناعي. قال عضو مجلس الشيوخ جوش هاولي إنه قلق حيال مجموعة واسعة من القضايا المتعلقة بالتراخي في مسألة الأمان لدى “أوبن إيه أي” وشركات أخرى. كما قدم عضو مجلس الشيوخ تيد كروز مشروع قانون لمكافحة المواد الإباحية الانتقامية يشمل حظر الصور والفيديوهات المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي. وفي مارس، نشر نائب الرئيس المنتخب جيه دي فانس على منصة “إكس” قائلًا إن “أحد أكبر مخاطر” الذكاء الاصطناعي هو تحيزه لليسار.
دور إيلون ماسك
في غضون ذلك، تتجه الأنظار نحو إيلون ماسك الذي يسبغ عليه “التسريعيون” مكانةً بطولية، ويرون أنه قد يساعد ترمب على تسريع تطوير الذكاء الاصطناعي. مع ذلك، كان ماسك قد صرّح في مقابلة مع تاكر كارلسون في أكتوبر أنه يؤيد إنشاء هيئة ناظمة “تتابع ما تقوم به الشركات، وتستطيع أن تقرع جرس الإنذار”.
حتى أنه أيّد مشروع قانون (SB 1047) المتعلق بأمان الذكاء الاصطناعي في كاليفورنيا الذي عارضته “أوبن إيه أي” وغيرها من الشركات الكبرى محاججةً بأنه يفرض عليها متطلبات شاقة. (رغم أن حاكم كاليفورنيا غافين نيوسوم نقض المشروع في سبتمبر، إلا أن مشرعين في الولاية يعتزمون إعادة طرحه بصورة ما).
لعلّ آراء ماسك في هذا الشأن نابعة عن خلافه الشخصي مع “أوبن إيه أي” التي أسهم في تأسيسها ثم تركها في 2018، وهو يكيل لها منذئذ انتقادات علنية، حتى أنه رفع دعوى قضائية ضدها، وأسس شركة “إكس. إيه أي” (X.ai) كمنافسة لها.
خلال الأشهر المقبلة، سيتعين على الجمهوريين تحديد موقفهم حيال بعض التناقضات الجوهرية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. عليهم أن يقرروا ما إذا كانوا يتخوفون من تنامي نفوذ وادي السيليكون، وهو القطاع الذي لطالما وجهوا له انتقادات حادة، بأكثر من خشيتهم من أن ترجح كفة الصين بسبب عدم تسريع التطوير إلى الحدّ الأقصى. وإن كانوا يعتقدون أننا سنبلغ مرحلة الذكاء الخارق في عهد ترمب، فهل يمكن أن يتشربوا شيئاً من فكر المرجفين؟
يعتقد كيسي موك، كبير مسؤولي السياسات في مركز التقنية الملتزمة إنسانياً أن المشرعين الجمهوريين سيركزون على ما يفعله الذكاء الاصطناعي حالياً أكثر ممّا قد يفعله في المستقبل. ويقول إنه علينا أن نتوقع أن نسمع عن الهموم اليومية، مثل انتشار صور عارية مصنوعة بواسطة التزوير العميق في المدارس، واستخدام الطلاب للذكاء الاصطناعي للغشّ في الواجبات المنزلية. قال: “هم مطالبون بالتعامل مع قضايا من هذا النوع، أكثر من التصدي لمخاطر وأضرار غير ملموسة”، مثل احتمال خروج الذكاء الاصطناعي العام عن السيطرة.