اخر الاخبار

سياسة أميركا مع سوريا تنقلب.. التركيز على “تلبية التوقعات”

مع انتهاء اللقاء بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره السوري أحمد الشرع، أجمعت العديد من الصحف الإسرائيلية على أن الخطوة “تمثل تحولاً سياسياً أميركياً”.

بعيداً عن المعنى الإسرائيلي المقصود، إلا أن المؤشرات تفيد فعلاً بوجود تحول في المشهد السياسي الأميركي بما يتعلق بالتعامل مع سوريا وملف العقوبات، لتتحول واشنطن من “وضع الانتظار والترقب” قبل رفعها، إلى الحكم وفق مقياس “تلبية التوقعات” الأميركية. 

مع سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، وتسلم الشرع وإدارته سدة السلطة، تعاملت الولايات المتحدة مع سوريا بحذر شديد، وأبقت على العقوبات التي فرضت أساساً بسبب ممارسات نظام الأسد. 

سرعان ما بدأ الوضع بالتغير قليلاً. قررت واشنطن منح البلاد “تخفيفاً محدوداً ومؤقتاً” من العقوبات، ما يسمح بشكل رئيسي بإدخال المساعدات الإنسانية، في وقت تبقى السلطة الرسمية والقوات الأمنية تحت وطأة العقوبات.

كما لجأت واشنطن إلى إعداد قائمة مطالب للحكومة السورية الجديدة، من شأن تنفيذها أن يوصل إلى رفع العقوبات. وهذا ما يدل على السياسة القائمة على “الانتظار والترقب”، بحيث تنتظر واشنطن من دمشق تنفيذ المطالب، والتأكد من تحقيق إنجازات ملموسة على الأرض، قبل رفع العقوبات. 

زيارة السعودية قلبت الموازين

ولكن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الخليج عموماً والسعودية خصوصاً، غيرت الموازين، وحوّلت السياسة الأميركية إلى وضع “تلبية التوقعات”، حيث أعلن ترمب عزمه رفع العقوبات، من دون تحديد أي شروط مسبقة، على الأقل علناً، كما سبق وفعلت واشنطن عند إعلانها لائحة المطالب.

بدأت هذه السياسة في التغيّر على أرض الواقع أيضاً، إذ قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إن إدارة ترمب ستقدم لسوريا دفعة اقتصادية من خلال السعي للحصول على إعفاء لمدة 180 يوماً من العقوبات التي فرضها الكونغرس، في إشارة ضمنية إلى قانون “قيصر”.

يمنع هذا القانون الذي أقره الكونغرس لحماية المدنيين في سوريا ومعاقبة سلوك نظام الأسد، أي شخص سواء كان طبيعياً أو معنوياً، من التعامل التجاري مع الحكومة السورية.

وقال روبيو للصحفيين: “في النهاية، إذا أحرزنا تقدماً كافياً، فإننا نود أن نرى إلغاء القانون”. مضيفاً: “لم نصل إلى هذه المرحلة بعد. هذا أمر سابق لأوانه. نريد البدء بالإعفاء الأولي، الذي سيسمح للشركاء الأجانب الراغبين في تدفق المساعدات بالبدء في ذلك دون التعرض لخطر العقوبات”.

حراك دبلوماسي سعودي

لا يمكن اعتبار الرياض كمكان للإعلان الأميركي أمراً غريباً، فالسعودية كثفت الخطى خلال الفترة الماضية لدعم سوريا واقتصادها، تزامناً مع تحركات دبلوماسية واقتصادية فردية وثنائية مع دول أخرى فاعلة في المنطقة مثل قطر وتركيا والإمارات.

التحركات السعودية ترسخت في مدينة العلا، حيث نظمت المملكة “مؤتمر العلا السنوي الأول لاقتصادات الأسواق الناشئة”، وطاولة مستديرة على هامشه ضمت “صندوق النقد” الدولي، وزراء مالية دول المنطقة، بالإضافة إلى وزير خارجية سوريا أسعد الشيباني، حيث ناقشت أولويات دعم اقتصادات المنطقة المتضررة من الصراع في الشرق الأوسط، مع التركيز على سوريا.

في أبريل الماضي، اتخذ “صندوق النقد” أولى خطواته لدعم سوريا من خلال تشكيل مجموعة تنسيقية للعمل على استعادة قدرات الاقتصاد السوري، وإعادة بناء قدرات مصرف سورية المركزي والسياسات الضريبية في البلاد، كما أعلنت السعودية ومؤسسات دولية وإقليمية التزامها بـ”دعم جهود السلطات السورية من أجل التعافي والتنمية”. 

وزير المالية السعودي ورئيس اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية في صندوق النقد الدولي محمد الجدعان أكد آنذاك، على ضرورة الوقوف إلى جانب سوريا التي تخرج من وضع هش عبر توفير الدعم والمشورة، مشدداً على أهمية تقديم الدعم المالي الثنائي ومتعدد الأطراف، وهو موقف أعاد وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان التأكيد عليه منذ أيام، معتبراً أن “المملكة لن تترك سوريا وحدها”.

إلى جانب التحرك الفردي، ساهمت قطر بالتعاون مع المملكة في تقديم الدعم لسوريا، إذ أعلنتا تسديد المتأخرات على دمشق لدى البنك الدولي، وهي خطوة بالغة الأهمية في حال أرادت المؤسسة المقرضة تمويل البلاد. 

كما قدمت قطر شحنات من الغاز إلى البلاد، ومنحة لمدة ثلاثة أشهر من شأنها أن تغطي كلفة خمس الرواتب الحكومية المدنية. تركيا بدورها قدمت دعماً ملحوظاً لسوريا سواء محلياً أو في الساحات الدولية، في حين تتطلع الإمارات لتوقيع اتفاقية شراكة اقتصادية مع سوريا، وفق وزير الدولة للتجارة الخارجية ثاني الزيودي في مقابلة مع “الشرق”.

تغيّر في المشهد السوري

التغيّر في السياسة الأميركية تبعه تغيّر في السياسة السورية أيضاً. إذ أكد الرئيس السوري منذ اللحظة الأولى لتسلمه السلطة، عزمه تغيير شكل الاقتصاد من الاشتراكية إلى السوق المفتوحة.

كما أكد وزير المالية السوري محمد يسر برنية في مقابلة سابقة مع “الشرق” على سعي بلاده لإجراء إصلاح اقتصادي بلا قروض يعتمد على الدعم الفني المقدم من المؤسسات التمويلية الدولية والدول الصديقة.

في خطاب له بعد إعلان ترمب بشأن رفع العقوبات، شدد الشرع على أن البلاد “ملتزمة بتعزيز المناخ الاستثماري وتطوير التشريعات الاقتصادية وتقديم التسهيلات”، لتمكين رؤوس الأموال من التدفق إلى البلاد للمساهمة في إعادة الإعمار، مضيفاً أن البلاد ترحب بجميع المستثمرين، ودعاهم إلى “الاستفادة من الفرص المتاحة في مختلف القطاعات”.

الشرع شدد أيضاً على أن سوريا ستكون “أرض السلام، ولن تكون ساحة لصراع النفوذ ولا منصة للأطماع الخارجية”، مشدداً على عدم السماح بـ”تقسيم البلاد، فسوريا لكل السوريين”، موجهاً الشكر للدول التي وقفت مع سوريا مثل السعودية وقطر والإمارات وتركيا.




تطورات متسارعة

التغيّر في السياستين، أسفر عن تحركات اقتصادية سريعة. فبعد يوم من إعلان ترمب عزمه رفع العقوبات، وقعت “موانئ دبي” عقداً لتطوير وتشغيل محطة متعددة الأغراض في ميناء طرطوس، بقيمة 800 مليون دولار.

تعتبر هذه الصفقة الأكبر التي تعقدها الحكومة السورية الجديدة حتى الآن، وتأتي بعد أسبوعين من إعلان “CMA CGM” الفرنسية، ثالث أكبر شركة شحن حاويات عبر البحر في العالم، تطوير وتشغيل ميناء اللاذقية في سوريا بقيمة 230 مليون يورو.

وسيمتد العقد لفترة 30 عاماً، وستضخ CMA CGM مبلغ 30 مليون يورو في السنة الأولى، واستثماراً إضافياً إجمالياً قدره 200 مليون يورو في السنوات الأربع التالية. على أن تبدأ ثمرة العقد بعد 5 سنوات من تجهيز البنية التحتية وإعادة تهيئة المرفأ.

رقابة أميركية دقيقة

في المحصلة، يبدو أن واشنطن تتعامل وفق قناعة تفيد بأن خيار الإبقاء على العقوبات وانتظار تغييرات في سوريا غير مجد، خصوصاً أنها تشل عملياً الاقتصاد المدمر إثر أكثر من عقدين من الحرب.

ويبدو أنها تتجه نحو رفع العقوبات أولاً ثم البناء على تصرفات الحكومة السورية لتحديد ما إذا كانت ستعيد فرضها أم تزيلها نهائياً. وهذا قد يمنح سوريا متنفساً اقتصادياً تحتاجه بشدة، ولكنه في الوقت ذاته يضعها تحت رقابة أميركية دقيقة، ويجعل أي انتكاسة مدخلاً محتملاً لإعادة فرض العقوبات.

 




 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *