روسيا توقف إمدادات الغاز لأوروبا عبر أوكرانيا في بداية العام الجديد
أوقفت روسيا تصدير الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا، لتغلق بذلك خطاً ظل يعمل لخمسة عقود بعد رفض كييف عبور أي إمدادات من شأنها أن تمول آلة الحرب الروسية.
أكد الطرفان وقف التدفقات يوم الأربعاء بعد انتهاء أجل اتفاقية عبور رئيسية، ما سيفرض على عدد من دول وسط أوروبا التي طالما اعتمدت على الغاز الروسي الحصول على الوقود الأعلى سعراً من جهات أخرى، الأمر الذي يفاقم الضغط على الإمدادات خلال فترة تستهلك فيها المنطقة المخزون المخصص للشتاء بأسرع وتيرة منذ سنوات.
وعلى الرغم من أن التدفقات المارة عبر ذلك المسار لا تشكل سوى 5% من احتياجات المنطقة، ما تزال الدول تعاني من تبعات أزمة الطاقة الناتجة عن غزو روسيا لجارتها أوكرانيا. أدى التوقف المرتقب للإمدادات في الآونة الأخيرة إلى ارتفاع الأسعار في السوق، إذ صعدت بأكثر من 50% على أساس سنوي. أصبحت القارة الآن أكثر عرضة لتقلبات السوق مع اعتمادها المتزايد على الغاز الطبيعي المسال العالمي.
فقدان إيرادات روسيا
بالنسبة لروسيا، فإن فقدان أحد مساري أنابيب الغاز المتبقيين إلى أوروبا سيؤدي إلى خفض إيراداتها بحوالي 6 مليارات دولار سنوياً، وفقاً لحسابات “بلومبرغ”. أما أوكرانيا، فستفقد رسوم العبور وتتخلى عن موقعها الاستراتيجي الطويل الأمد كقناة لتوفير الطاقة بأسعار معقولة لحلفائها الغربيين.
قالت تاتيانا ميتروفا، الباحثة في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا: “إنهاء عبور الغاز ليس مجرد تعديل في سلسلة الإمداد، بل هو الانهيار الرمزي لعصر كامل”. أضافت: “جزء كبير من شبكة أنابيب الغاز التي بُنيت في الحقبة السوفيتية، والتي كانت تنقل الغاز من سيبيريا إلى أوروبا، أصبح الآن مجرد أطلال لما كانت عليه سابقاً”.
تمكن معظم عملاء شركة “غازبروم” الروسية في وسط أوروبا من تأمين مصادر بديلة للإمدادات، ولكن بتكلفة أعلى.
أوضحت شركة الغاز الأكبر في سلوفاكيا، “سلوفينسكي بلينارينسكي بريمييسيل” (Slovensky Plynarensky Priemysel)، أنها ستدفع حوالي 90 مليون يورو (93 مليون دولار) إضافية سنوياً لضمان استقرار الواردات عبر مسارات بديلة. كما حذرت الشركة من أن أوروبا بأكملها أصبحت أكثر عرضة للخطر في حال حلول شتاء قارس.
انتهاء اتفاق عبور الغاز
أوقفت شركة “غازبروم” الروسية الإمدادات في أول أيام العام الجديد بعد انتهاء أجل اتفاقية العبور، وأشارت إلى غياب “الإمكانية الفنية والقانونية” لتصدير الشحنات وسط “الرفض المتكرر الصريح من الجانب الأوكراني لتمديد العمل بهذه الاتفاقيات”.
بدورها، أكدت وزارة الطاقة الأوكرانية وقف الإمدادات، وأشارت إلى أن تدفقات الغاز الروسي توقفت عن عبور أراضيها اعتباراً من الساعة السابعة صباحاً بالتوقيت المحلي. كما أكدت الشركة المشغلة للشبكة في سلوفاكيا عدم تلقيها أي كميات من الغاز.
ورغم عدم وجود خطر نقص فوري في أوروبا، فإن التوقف قد يجعل تخزين الإمدادات أكثر صعوبة قبل موسم التدفئة المقبل. بدأت مخزونات المنطقة في التراجع بسرعة، حيث أصبحت ممتلئة الآن بأقل من 75%.
ومع تقلص تدفقات الغاز عبر الأنابيب من روسيا إلى أوروبا، من المرجح أن يكثف الرئيس فلاديمير بوتين جهوده لزيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال، وهو هدف طالما كان يطمح إلى تحقيقه بشكل شخصي.
على الرغم من دعوات بعض الدول الأوروبية لحظر إمدادات الغاز المسال من موسكو، فإن المنطقة تشتري كميات قياسية. ومع ذلك، تواجه خطط روسيا لتوسيع صادرات الغاز المسال مزيداً من العقوبات الغربية. لكن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب قد يسعى لتعديل هذه العقوبات في إطار أي جهود محتملة لإنهاء الحرب.
في أنحاء أوروبا، يشكل فقدان بعض إمدادات الغاز الروسي الأساسية عبر الأنابيب تهديداً بزيادة فواتير المنازل والصناعات، في وقت تسعى المنطقة للتعافي من أسوأ أزمة تكلفة معيشة منذ عقود.
سلوفاكيا الأكثر تضرراً
شنت عدة دول حملة مريرة للإبقاء على تدفق الوقود (الروسي).
رئيس الوزراء السلوفاكي، روبرت فيكو، ناشد الشهر الماضي الحلفاء الأوروبيين لإيجاد طريقة لاستمرار تدفق الغاز، مشيراً إلى أن بلاده تجني ما يصل إلى 500 مليون يورو سنوياً من رسوم العبور. كما هدد أوكرانيا بإمكانية قطع الكهرباء عنها، ما أثار تساؤلات حول أمن الطاقة في المنطقة. قال فيكو، الأربعاء، إن توقف الغاز سيكون له “آثار كارثية علينا جميعاً في الاتحاد الأوروبي”.
من جهته، رفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينكسي أي اتفاق سيؤدي في نهاية المطاف إلى تحويل إيرادات إلى الحكومة الروسية خلال الحرب المستمرة. صرّح بوتين الأسبوع الماضي بأن أي اتفاق جديد لنقل الغاز عبر أوكرانيا سيكون أمراً صعباً.
قال جوناثان ستيرن، الباحث البارز في معهد أكسفورد لدراسات الطاقة: “كنا نعلم أن اتفاقية العبور لن يتم تجديدها”. وأضاف: “السؤال هو ما إذا كان أي طرف في أوروبا، وخاصة السلوفاكيين الذين سيكونون الأكثر تضرراً، سينجح في التوصل إلى اتفاق لمواصلة تلقي بعض الغاز”.
وضعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين هدفاً سياسياً يتمثل في التخلي عن الوقود الأحفوري الروسي بحلول 2027، وقالت سابقاً إن انتهاء أجل اتفاقية عبور الغاز سيكون له تأثير طفيف لا يذكر على أسواق الطاقة في المنطقة.
أفادت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية بأن “توقف الإمدادات عبر أوكرانيا في الأول من يناير هو الوضع المتوقع والاتحاد الأوروبي مستعد له”، وأن المفوضية -الذراع التنفيذية للاتحاد- تعمل مع الدول الأعضاء منذ أكثر من عام للاستعداد لهذا السيناريو.
خلافات بين روسيا وأوكرانيا
الخلافات بين موسكو وكييف سبق أن تسببت في تعطيل شحنات الغاز إلى العملاء الأوروبيين خلال أشهر الشتاء.
ففي 2009، توقف تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا لحوالي أسبوعين، وتضررت أكثر من 20 دولة خلال الطقس شديد البرودة، إلى أن وقعت الدولتان اتفاقاً لإنهاء النزاع بينهما. وتوقفت الإمدادات لفترة أقصر في 2006.
الاتفاقية التي انتهت صلاحيتها مؤخراً، والتي أُبرمت في 2019، كانت أيضاً نتيجة مفاوضات عُقدت في اللحظات الأخيرة. ومع ذلك، فإن الحرب وعزوف الاتحاد الأوروبي العام عن شراء الغاز الروسي يجعلان التوصل إلى حل سريع أمراً غير مرجح في الوقت الحالي.
استبعاد الحل السريع
رغم ذلك، يعد التوصل إلى حل سريع خلال الفترة الحالية احتمالاً مستبعداً بسبب الحرب، إذ أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي إلى عدم وجود وقت كاف لإبرام اتفاقية قبل نهاية العام. ولفت في حديث منفصل إلى أن الدعوى التي رفعتها شركة “نفتوغاز” (Naftogaz) الأوكرانية، التي تزعم فيها عدم سداد “غازبروم” كامل تكاليف خدمات النقل، تشكل عائقاً آخر.
كذلك حذر عدد من الدول الأوروبية من فكرة وصف الوقود الذي تنقله “غازبروم” بأنه غير روسي، حيث طرحت شركات طاقة في المنطقة سابقاً خيارات مثل نقل ملكية الوقود عند دخوله أوكرانيا، أو اللجوء إلى عملية مبادلة معقدة تتولى فيها شركة الطاقة الأذربيجانية “سوكار” (Socar) دور الوسيط.
ما تزال روسيا تورد الغاز إلى دول مثل صربيا والمجر عبر خط أنابيب آخر؛ “ترك ستريم”، الذي لا يمر عبر أوكرانيا. لكن هذا الخط لا يكفي لتعويض كل التدفقات المنقولة عبر المسار الأوكراني. كما أن الطريق الآخر المار عبر بولندا متوقف حالياً، وكذلك تضرر خط أنابيب “نورد ستريم” الذي يربط بين ألمانيا وروسيا نتيجة التفجيرات التي وقعت في 2022، ولم توافق برلين قط على بدء تشغيل خط “نورد ستريم 2” الأحدث.