خلاف فول الصويا بين الصين وترمب يكدس محاصيل المزارعين الأميركيين

في كل خريف، يحصد المزارعون الأميركيون محصولاً هائلاً من فول الصويا يُغطي مساحات تفوق مساحة ولاية أريزونا، إلا أن هذا العام شهد انسحاب الصين، أكبر مشترٍ بالنسبة لهم.
ففي مارس، فرضت بكين رسوماً جمركية انتقامية على السلع الزراعية الأميركية، ما أغلق فعلياً الباب أمام واردات فول الصويا الأميركية للمُشترين التجاريين قبل انطلاق موسم الحصاد. هذه الخطوة منحت الصين ورقة ضغط في حربها التجارية مع الرئيس دونالد ترمب، عبر استهداف المزارعين الذين يمثلون شريحة رئيسية من قاعدته الانتخابية.
الصين، التي اشترت العام الماضي فول صويا أميركياً بقيمة 13 مليار دولار، أي أكثر من 20% من إجمالي المحصول، لاستخدامه في علف الحيوانات وزيت الطهي، لم تُسجّل حتى الآن شحنة واحدة من محصول هذا الخريف الوفير.
ومن المقرر أن يلتقي ترمب ونظيره الصيني شي جين بينغ الأسبوع المقبل سعياً للتوصل إلى اتفاق تجاري.
مزارعون أميركيون تحت الضغط بسبب الصين
لا يجد كثير من المزارعين سهولةً في انتقاد ترمب، لكن مع تكدّس فول الصويا داخل الصوامع وخزانات التخزين، بات من الصعب عليهم ألا يشعروا بأنهم ضحايا في حرب لم يخوضوها باختيارهم. ويخشى هؤلاء أن تُخلّف هذه الحرب آثاراً طويلة الأمد، حتى في حال التوصل إلى اتفاق، إذ تبدو الصين عازمة على شراء المزيد من فول الصويا من البرازيل والأرجنتين بدلاً من الولايات المتحدة. ورغم قبولهم بالمساعدات الحكومية خلال النزاع التجاري، إلا أنهم يفضلون بيع محصولهم.
إدارة ترمب تستأنف صرف الدعم للمزارعين وسط استمرار الإغلاق الحكومي.. التفاصيل هنا.
قال كالب راغلاند، المزارع من ولاية كنتاكي ورئيس الجمعية الأميركية لفول الصويا (American Soybean Association): “الكثير على المحك بالنسبة لكلا البلدين، ونحن في حال أفضل عندما نجد سبلاً للعمل معاً بدلاً من الانغماس في هذه الحرب التجارية”. وأوضح أن سكان المناطق الريفية الأميركية، الذي كانوا من أبرز مؤيدي ترمب، بحاجة إلى الدعم الآن.
وأضاف راغلاند: “نُشجع الرئيسان ترمب وشي على إعطاء أولوية للجلوس إلى طاولة المفاوضات. نعتقد أن الفرصة لا تزال سانحة لتسوية الأمور، لكننا بحاجة إلى أن يبدأ التفاوض والتوصل إلى اتفاق تجاري عادل ومستدام يعيد الاستقرار إلى السوق”.
مقاطعة بكين لفول الصويا الأميركي
أدرك ترمب ما يجري، فخلال منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي هذا الشهر، وصف مقاطعة بكين الفعلية لفول الصويا الأميركي بأنها “عمل عدائي اقتصادي”، وجعل من استئناف مشتريات فول الصويا أحد أبرز مطالبه في المفاوضات التجارية. وتسعى الإدارة الأميركية في الوقت نفسه إلى إبرام اتفاقات مع دول أخرى لشراء المزيد، غير أن مسؤولي القطاع يُشككون في قدرة أي من هذه الصفقات على سد الفجوة التي خلّفتها الصين.
وقالت وزيرة الزراعة بروك رولينز هذا الأسبوع إن الحكومة ستستأنف توزيع مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار عبر وكالة خدمات المزارع (Farm Service Agency)، بعد أن توقفت بسبب الإغلاق الفيدرالي المستمر.
قال ترمب للصحفيين في 19 أكتوبر على متن طائرة الرئاسة “إير فورس وان” إن “الصين استخدمت مزارعينا كورقة تفاوضية، وهذا ما لا أريده. مزارعونا رائعون، وخاصة مزارعو فول الصويا، وأريدهم أن يبدأوا بشراء فول الصويا، على الأقل بالكميات التي كانوا يشترونها سابقاً”.
ومع ذلك، فإن التوصل إلى اتفاق خلال الأسبوع أو الشهر المُقبل سيترك جزءاً كبيراً من محصول هذا الخريف دون مشترين. فشركات الطحن الصينية غطت بالفعل معظم احتياجاتها من الإمدادات لهذا العام، وتعمل حالياً على تأمين احتياجات العام المقبل، وفقاً لوسطاء وتجار يراقبون نشاط الصناعة هناك.
استراتيجية الصين تجاه فول الصويا
استراتيجية الصين في فول الصويا ليست خالية من المخاطر. فالاعتماد المتزايد على البرازيل يعني تكاليف أعلى وتعرّضاً أكبر لتقلبات الطقس في أميركا الجنوبية. كما أن هناك احتمالاً بأن يُؤدي التوصل إلى اتفاق مع ترمب إلى تدفّق مفاجئ لفول الصويا الأميركي إلى الصين، ما يؤدي إلى انخفاض الأسعار لدى المصنّعين الصينيين. بدأت أسعار وجبة فول الصويا في البلاد بالانخفاض بالفعل وسط تكهنات بأن المحادثات قد تُحفز عودة الشحنات الأميركية.
مع ذلك، يبقى الهدف الطويل الأمد لبكين هو التنويع، أي تقليص اعتمادها على منافسها الجيوسياسي الرئيسي. وتمتلك الصين العديد من مصادر الإمدادات الأخرى التي يمكنها الاستفادة منها.
أميركا والصين.. حرب الزيت والفول
في هذا السياق، يقول فاندرلي سيلفا أتايدس، وهو مزارع بولاية بارا البرازيلية، إن العالم قد يواجه بالفعل فائضاً في المعروض. وبينما يرحب باهتمام الصين المتزايد بمحصول بلاده، إلا أنه وزملاءه المزارعين لا يزالون يعانون من ضعف هوامش الربح وارتفاع أسعار الفائدة.
وأوضح أتايدس: “أعتقد أننا نزرع فول الصويا بكثرة، وهناك فائض هائل منه في السوق”.
تأثير استراتيجية الصين داخل أميركا
لم تقتصر تداعيات دبلوماسية بكين تُجاه فول الصويا على المزارعين الأميركيين فحسب. ففي مثل هذا الوقت من العام، كان يُفترض أن تتحرك عربات القطارات المحمّلة بفول الصويا من السهول الكبرى والغرب الأوسط الأميركي نحو موانئ الساحل الغربي، حيث تُخزَّن البذور الزيتية في صوامع تمهيداً لتحميلها على متن السفن. لكن بعد أن بلغ حجم الشحنات بين البلدين نحو 25 مليون طن متري العام الماضي، توقفت هذه الحركة فجأة هذا الموسم.
قال إريك لارسون، المدير العام لتعاونية التخزين والمناولة “جيمس فالي غرين” (James Valley Grain) في داكوتا الشمالية: “داكوتا الشمالية ومينيسوتا وداكوتا الجنوبية بُنيت لتحميل قطارات الشحن المتجهة إلى (شمال غرب المحيط الهادئ) لخدمة السوق الآسيوية، بلا جدال أو استثناء. أما هذا العام، فلا وجود لذلك تماماً”.
بدلاً من ذلك، حملت التعاونية قطارين من فول الصويا مُتجهين إلى المكسيك، وآخر انتهى به المطاف في بنغلاديش. ومع ذلك، لا يمكن لأي من البلدين أن يحل محل الصين. وقال لارسون إن الانقطاع كان شاملاً لدرجة أن أي وفد تجاري صيني لم يزر التعاونية هذا الموسم، إذ كانت تستضيف عادةً زيارة واحدة على الأقل. وأعرب عن اشتياقه للحديث معهم.
وقال لارسون بإحباط: “كل هذا شأن جيوسياسي خارج عن سيطرتنا. وعندما تُنشر تغريدة واحدة، تزداد الأمور سوءاً”.
كيف يواجه المزارعون الأميركيون ضغط الصين؟
كان مزارعو فول الصويا يدركون أن مثل هذا السيناريو قد يحدث. فقد أوقفت بكين شراء الإمدادات الأميركية من هذا المحصول أكثر من مرة خلال الولاية الأولى لترمب، وسط الخلافات التجارية بين البلدين. ثم فاجأت الصين الأسواق بشراء 3 ملايين طن متري قبيل اجتماع بين شي والرئيس الأميركي السابق جو بايدن، في خطوة اعتُبرت على نطاق واسع بادرة حسن نية.
تعليقاً على الأمر، قال كورت هارمان، الرئيس التنفيذي لشركة “كولومبيا غرين إنترناشونال” (Columbia Grain International) المتخصصة في شحن الحبوب: “في عامي 2018 و2019، حصلنا بالفعل على لمحة عمّا يمكن أن تكون عليه الأمور. كنا نأمل أن تسفر المفاوضات عن اتفاق يجنّبنا العودة إلى هذا الوضع، لكننا وجدنا أنفسنا نعيشه من جديد”.
استعداداً لأي نزاع تجاري، زرع بعض المزارعين كميات أقل من فول الصويا هذا العام، بينما سعى آخرون لتأمين مشترين في وقت أبكر من المعتاد. فقد باع المزارع ستيف سوانهورست من ولاية داكوتا الجنوبية نحو 40% من محصوله خلال الصيف، متوقعاً أن تؤدي الاضطرابات التجارية إلى تراجع الأسعار.
وقال: “فكّرت أنه من الأفضل أن أبيع عندما لا يزال بإمكاني تحقيق بعض الربح”. ويفكر سوانهورست حالياً في تحويل جزء من أراضيه إلى زراعة الذرة العام المقبل، وهي استراتيجية شائعة للبقاء.
لتقليص العجز.. ترمب يطالب الصين بشراء 4 أضعاف شحنات فول الصويا
رغم المقاطعة الفعلية من جانب بكين، لم تنخفض أسعار فول الصويا الأميركية، لكن العقود الآجلة بقيت تدور حول 10.30 دولار للبوشل، وهو مستوى لا يتيح للمزارعين تحقيق أرباح مجزية حتى مع وجود مشترين. في المقابل، تؤدي الرسوم الجمركية المفروضة على الصلب والألمنيوم إلى رفع التكاليف بالنسبة لمصنعي المعدات، ما يُبقي أسعار الآلات وقطع الغيار مرتفعة.
شبح أزمة الثمانينيات للزراعة الأميركية
بالنسبة للبعض، فإن مزيج الحرب التجارية والتضخم وانخفاض أسعار السلع يعيد إلى الأذهان فترات عصيبة عاشها قطاع الزراعي الأميركي من قبل. إذ يُشبّه جون بارتمان، المزارع من ولاية إلينوي، الوضع الحالي بفترة الثمانينيات، حين أدى ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة وتراجع الصادرات إلى أزمة زراعية شاملة. وقد خرجت آنذاك العديد من العائلات من قطاع الزراعة بالكامل.
وقال بارتمان، البالغ من العمر 47 عاماً: “لقد أمضيت مُعظم حياتي أدرس الدورات الاقتصادية وما يمر به المزارعون خلال فترات ركود الاقتصاد الزراعي، وهذا بالضبط ما يحدث الآن”.
رغم أن بارتمان تمكّن من بيع معظم محصول فول الصويا الذي حصده مؤخراً من الحقول الممتدة شمال غرب شيكاغو، إلا أنه لا يزال يشعر بالاستياء من ترمب. فقد قال: “ما فعله كان مدمراً تماماً لمجتمع المزارعين. نظامنا الحالي يعتمد على عامل واحد فقط هو الطلب. وإذا غاب الطلب، فإن دخل المزرعة يذهب أدراج الرياح”.
يأمل كثيرٌ من المزارعين أن تعمل الولايات المتحدة على تنويع أسواقها التصديرية، فيما يرى آخرون فرصاً في التوسع باستخدام فول الصويا لإنتاج الوقود الحيوي. ومع ذلك، يعترفون بأن هذه التحولات تستغرق سنوات، وهي لا تساعد كثيراً عندما يكون المحصول الحالي مكدساً في المخازن أو مغطى تحت الأغطية البلاستيكية.
وقال هارمان، من “كولومبيا غرين”: “عندما يعتمد جزء كبير من المحاصيل الأميركية على التصدير، فهناك جوانب من أجندة “أميركا أولاً” لا تنجح تماماً في الزراعة. من الجيد تعزيز الإنتاج الأميركي، لكن هذا الإنتاج يحتاج إلى أسواق تستوعبه”.



