اخر الاخبار

حملة مكافحة النكوص في الصين ماذا تعني؟ وما سببها؟ ومن أين أتت؟

يضم قاموس “أكسفورد” الإنجليزي تسعة تعريفات مُنفصلة لكلمة ”النكوص”. في مجال الرياضيات، الذي يستخدم بالعربية مرادفة لها هي “الانعكاس”، وتعني هذه الكلمة تحوّلاً يُعادل معكوسه ويُعطي هويته الرياضية عند تطبيقه على نفسه. وفي علم التشريح، تُشير الكلمة إلى انكماش الأعضاء البشرية مع التقدم في السن.

في الاقتصاد، كما أشارت تريسي ألواي في نشرة (Odd Lots)، يرتبط المصطلح بالعالم الأنثروبولوجي كليفورد غيرتز لوصف الحالات التي لا تُحقق فيها زيادة المُدخلات (زيادة في العمالة) ناتجاً مُتناسباً (محصولاً أكبر أو ابتكاراً أعظم).

لكن لا يعبر أي من هذه التعريفات بدقة عن المقصود بحملة شاملة يشنّها الرئيس الصيني شي جين بينغ لمناهضة النكوص. حتى في الصين، هناك بعض الالتباس حول معنى الكلمة. أما في الغرب، فقد ضاعت محاولات فهمها مع ترجماتها.

اقتصاد الصين يحتاج إلى دعم.. مِن أين سيأتي؟

تمثل مُناهضة النكوص أولوية للحزب الشيوعي في الوقت الراهن، وهي أهم هناك حتى من الصراع التجاري مع الولايات المتحدة. لقد دفع ذلك حكومة شي إلى التصالح مع القطاع الخاص بعد سنوات من تضييق الخناق على الشركات التي خرجت عن المسار، وحقق خلال العام الماضي تحولاً مذهلاً في الأوضاع المالية للبلاد.

 وُصفت الأسهم الصينية بأنها “غير صالحة للاستثمار” في الغرب في أعقاب الجائحة، لكنها ارتفعت 50% خلال 12 شهراً خلت. وبفضل مناهضة النكوص الاقتصادي، عادت الروح المعنوية إلى هونغ كونغ وشنغهاي وشنجن.

ومع ذلك، يبقى سؤال واحد: ما هو “النكوص الاقتصادي”؟

النكوص الاقتصادي والاقتصاد

بالمعنى الاقتصادي البحت، يُعرّفه تشي لو، كبير الاستراتيجيين الآسيويين في بنك ”بي إن بي باريبا“ في هونغ كونغ، على النحو التالي:

منافسة مفرطة وقاهرة للذات بين الشركات الصينية على موارد وفرص محدودة. وقد أدت هذه الظاهرة إلى تناقص العوائد والإفراط في الإنتاج وحروب أسعار شرسة، فتفاقمت الضغوط الانكماشية، ما جلب أطول فترة انكماش اقتصادي منذ التسعينيات.

باختصار، تهدف هذه الحملة إلى الحد من فائض الطاقة الإنتاجية وضمان عدم وقوع الصين في فخ الانكماش الاقتصادي الذي اجتاح اليابان قبل ثلاثة عقود. كما أنها وسيلة لمكافحة مشاكل الفعل الجماعي التي تُعيق جميع الاقتصادات.

طفرة الأسهم الصينية ليست تكراراً لمشهد 2015

إن تصويرها كحملة امتداد لتاريخ الحزب الشيوعي الطويل في تقديم التحولات السياسية الكبرى على أنها حملات شعبية ضد أعداء داخليين محددين. إنها تخلف حركات ماو المناهضة لليمين والمثقفين، أو حملة التطهير لمكافحة الفساد التي استخدمها شي للسيطرة على جهاز الدولة بعد توليه السلطة عام 2012.

من ناحية عملية، صرّح رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ بأوضح بيان حول ما تنوي الحكومة فعله حيال ذلك في خطاب ألقاه في مارس:

”سنتحرك بوتيرة أسرع لتطوير وتحسين المؤسسات والقواعد الأساسية لهذا الغرض. سنقضي على الحمائية المحلية وتجزئة السوق، ونزيل الاختناقات والعقبات، كتلك التي تعيق التدفقات الاقتصادية من حيث الوصول إلى الأسواق والخروج منها، بالإضافة إلى تخصيص عوامل الإنتاج، وسنتخذ خطوات شاملة لمعالجة المنافسة التي تشبه سباق الفئران.“

سباق الفئران

تلعب إشارة لي إلى “سباق الفئران” على مغزى مناهضة النكوص كما يفهمه الصينيون، حيث يُنظر إليه على أنه موضوع اقتصادي أقل جدلاً. الكلمات الجذرية هي ”فان نيجوان“ (fǎn nèi juǎn)، والتي تعني حرفياً الاستسلام، أو الوقوع في دوامة تشديد سلبية. الفهم الشائع لـ ”نيجوان“ هو نمط حياة بائس، إذ يعمل الناس بجهد أكبر من أجل مكافآت أقل فأقل. 

لذا، فإن الحملة ضدها هي محاولة لإبعاد الناس عن عجلة الهامستر. ومثل ”لنعد لأميركا عظمتها”، فهو شعار قوي وبسيط يمكن للجميع التماهي معه.

قال أندرو ميثفين، كاتب مدونة (RealTime Mandarin)، إن المصطلح انتشر على نطاق واسع في المجتمع الصيني السائد خلال الوباء، “خاصة بين الشباب في المناطق الحضرية”. يصف “المنافسة الشديدة والإجهاد المفرط في العمل والتعليم، التي لا تؤدي إلى تقدم أو مكافآت ذات معنى”، ويأتي مع “مشاعر الإرهاق والوقوع في الفخ، والإجبار على العمل في بيئة تنافسية جداً“.

أسهم الصين تومض بإشارات مقلقة وسط صعود لا يدعمه الاقتصاد

على المستوى العملي، يشير ميثفين إلى الشركات التي تقول إنها تحارب النكوص عن طريق الحد من العمل الإضافي، وتلزم جميع الموظفين بمغادرة مكاتبهم بحلول الساعة 6:20 مساءً.

جميعنا نُدرك هذه المشكلة، ولكن في بيئة الصين التنافسية الشرسة، حيث يضطر الناس للعيش دون شبكة أمان اجتماعي، قد يكون الشعور بالإيقاع في فخ شديداً. ويتزامن هذا مع اقتصادٍ، رغم كل شيء، يواصل نموه بما يتماشى مع هدف نمو بنسبة 5% عاماً بعد عام – وهو معدلٌ لا تحلم به دولٌ في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية.

شي والقطاع الخاص

إن التوترات في النموذج الصيني، حيث يستخدم النظام الشيوعي القطاع الخاص ودافع الربح لتحقيق النمو، أمرٌ لا مفر منه. لكن حملة شي الصارمة في عامي 2021 و2022 كانت القشة التي قصمت ظهر البعير في نظر كثير من المستثمرين الدوليين. لقد أثارت مناهضة النكوص حماسهم لأنها تُجبر الحكومة على العمل بإيجابية مع الشركات الخاصة مجدداً. وهكذا، يصبح للاستثمار في الشركات الصينية مبررات أكثر بكثير.

كما يثير الاهتمام أن الصناعات ذات أكبر قدر من التراجع هي بالضبط تلك التي تتمتع بإمكانات نمو أكثر جاذبية. على سبيل المثال، في قطاع الطاقة الشمسية، انخفض معدل استغلال الطاقة الإنتاجية إلى ما بين 40% و50%، وبات أكثر من 90% من الشركات خاسراً، وانخفضت الأرباح بأكثر من 20% على أساس سنوي في الربع الثاني، وفقاً لكيم كوان تشو من شركة ”فيليب إنفست“ (Phillip Invest).

جولينا ليو: قطاع السيارات الصيني واسع بدرجة لا تخدم مصلحته

يغذي هذا ما يسميه لاري هو، الخبير الاقتصادي لدى ”ماكواري“ في هونغ كونغ، “تراجع جانب الطلب“. مع انخفاض الأرباح، تنخفض الأجور وينغلق المستهلكون على أنفسهم فيتدنى شراؤهم. هذه إحدى أكبر المشاكل المُقبلة، إذ يوجد في الصين حوالي 120 شركة تصنع سيارات، وكثير منها تحميه حكوماتها المحلية.

قال هو: “إنها مشكلة عمل جماعي. إذا أغلقت نصفها، فستُسبب كثيراً من البطالة”. إن التغلب على المقاومة المحلية، وتجنب رد فعل الطلب مع انخفاض إنفاق القوى العاملة المُسرّحة، سيُشكّل تحدياً كبيراً.

علاوة على ذلك، تُهيمن مخاوف القطاع الخاص على الصناعات الأكثر تضرراً من التراجع الاقتصادي. في أول حزمة تحفيز كبيرة لشي، عام 2015، كانت الشركات التي تحتاج إلى مساعدة في الغالب شركات تملكها الدولة، في قطاعات تقليدية مثل الصلب أو البناء؛ أما هذه المرة، فيرى المصرفيون الاستثماريون والمستثمرون فرصاً أكبر بكثير للنمو.

تُقدّم بكين لهم المساعدة لإجبارهم على الاندماج في الشركات سريعة النمو؛ فماذا عساهم أن يطلبوا أكثر من ذلك؟ هذا يعني أيضاً أن خطاب السياسيين السلبي الشرس قد خُفّف بل وانقلب.

ميل للادخار بسبب غياب شبكة أمان مجتمعية

في تشابه غريب مع دونالد ترمب، اكتشف شي حاجته إلى سوق أسهم قوية. قبل عقد، كانت الصين تتوق إلى انضمام أسهمها من الفئة “أ” إلى مؤشر ”إم إس سي آي للأسواق الناشئة“ كوسيلة لجذب رأس مال دولي جديد، وهو ما كانت الصناعات التقليدية في أمسّ الحاجة إليه. الآن، أصبح الأمر أكثر تركيزاً على المستهلك المحلي، الذي يعتمد عليه الحزب لتحقيق نمو طويل الأجل.

في ظل غياب شبكة أمان اجتماعي متينة، هناك ميل طبيعي للإفراط في الادخار، ما يُبطئ الاقتصاد. إذا كانت المدخرات تُستثمر في منتجات مرتبطة بالأسهم تُعزز الثروة بسرعة مع مرور الوقت، فستكون هناك فرصة أكبر بكثير لامتلاك ثقة الإنفاق.

سوق الأسهم الصينية بقيمة 11 تريليون دولار تشهد انتعاشاً هادئاً

بعد موجة التخارج المكثفة التي قادتها الأسواق العالمية في عامي 2021 و2022، والتي انخفضت خلالها الأسهم الصينية المُدرجة في الولايات المتحدة بنسبة 76%، تلقى شي والقيادة درساً قاسياً. بينما يُدرك المستثمرون المحليون أن الأسهم من الفئة “أ” قد تكون أفضل فرصة لهم لادخار التقاعد، يُدرك الأجانب أن الاستثمار الآن يعني أن شي سيدعمهم، ما يُتيح لشانغهاي وهونغ كونغ فرصة انتعاش.

الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن حملة مكافحة النكوص الاقتصادي تُظهر، مجدداً، أن الصين توأم أميركا، وأن تطورها إلى قوة اقتصادية عظمى على مستوى القارة، على الرغم من المظاهر، يسير تقريباً على نفس النهج الذي سلكته الولايات المتحدة قبل أكثر من قرن.

إذا كانت مشكلة الصين تتمثل في المنافسة المفرطة التي تُضعف النمو وتجعل شركاتها عاجزة عن المنافسة عالمياً، فإن مشكلة أمريكا هي العكس تماماً. فهي الآن تحت سيطرة سلسلة من الاحتكارات الراسخة، بقيادة منصات التقنية السبعة الكبرى مثل ”أبل“ و“مايكروسوفت“ و“جوجل“ تابعة شركة ”ألفابت“.

مكاسب تشبه رخصة طباعة نقود

لقد أصبحت هذه المنصات أشبه برخصة لطباعة النقود، واستخدمت أرباحها الطائلة لبناء امتيازات عالمية حقيقية، وجعلت نفسها أكثر مناعة. وتمثلت التكلفة في انعدام المساواة المُنهك اجتماعياً في الولايات المتحدة، حيث تعاني قطاعات أخرى من الاقتصاد من نقص رأس المال.

الرأسمالية لا تُراقب نفسها. لكن في الولايات المتحدة، تكمن الحاجة إلى خلق مزيد من المنافسة، بينما تُعطى الأولوية في الصين للحد منها. وبهذا، فإنها تتبع المسار الذي سلكته الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر.

كان جون بيربونت مورغان، وجون د. روكفلر، وغيرهما من كبار بناة الثقة الأمريكيين في العصر الذهبي، مدفوعين في المقام الأول، بطبيعة الحال، بالمال. لكن مورغان اعتقد أيضاً أنه بإجباره على الاندماج لتشكيل شركات في صناعات مثل الصلب والنفط والسكك الحديدية، كان يقضي على المنافسة المفرطة الضارة، والاستثمارات الضائعة، والطاقة الإنتاجية الفائضة.

لقد كان محقاً في هذا، وقد ساعد بناء الثقة الذي أحدثه الولايات المتحدة بالفعل على تولي زمام القوة الاقتصادية المهيمنة في العالم. زعم ثيودور روزفلت أن مورغان قد بالغ في تجاوزه، ما أدى إلى ولادة حركة مكافحة الاحتكار، وقد عاد التركزّ المفرط اليوم.

لكن في المرحلة الحالية من التطور التي تمر بها الصين، عليها القضاء على المنافسة المفرطة، لا تشجيع مزيد منها. على عكس كل الظاهر، كان مورغان أول من دافع بقوة عن مناهضة النكوص، وشي الآن هو تلميذه الأكثر إخلاصاً. فلا عجب أن الأسواق متحمسة لهذا الأمر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *