تكنولوجيا المخ حقيقة قائمة وليست مرعبة كما تظن
رجل في منتصف العمر يعمل في خدمات الطوارئ في الولايات المتحدة ويعاني من الاكتئاب والأفكار الانتحارية منذ 17 عاماً، لم يكن يستطيع النوم في معظم الليالي، وبسبب توتره الشديد وسرعة الانفعال، كانت زوجته وابنته المراهقة تبالغان في الحذر في أقوالهما وأفعالهما كأنهما تسيران على قشر البيض، وذلك قبل أن يتخذ هذا الرجل قراراً عشوائياً لا يعرف عواقبه.
طلب منه باحثون في جامعة واشنطن أن يشارك في دراسة حول زراعة في المخ يحتمل أن تعالج حالته. وهي فرصة انتهزها إريك (اسم مستعار طلب مني أن استخدمه أثناء حديثه معي لإخفاء هويته).
لم يتوتر إلا قبل يومين فقط من الجراحة. ويتذكر قائلاً: “خطر ببالي أنني سأزرع شيئاً قريباً جداً من مخي”.
يصادف هذا الشهر مرور عام منذ أن أصبح إريك من أوائل البشر الذين جربوا تلك الشريحة، التي طورتها شركة “إينر كوزموس” (Inner Cosmos)، وهي شركة ناشئة في سكوتس فالي بكاليفورنيا بالقرب من سانتا كروز.
كانت النتائج واعدة. فعلى مدى الأشهر الستة الماضية، انخفضت درجاته في اختبار “مونتغمري-أسبرغ لتقييم الاكتئاب” (MADRS)، الذي يقيس شدة الاكتئاب، مما يشير إلى دخوله في مرحلة التعافي من المرض. حتى عائلته لاحظت هذا التغيير، كما أخبرني إريك بذلك في أول مقابلة له منذ زرع الشريحة.
أزمة مرضى الاكتئاب
ثلث مرضى الاكتئاب تقريباً لا يستجيبون لمضادات الاكتئاب، وكان إريك واحداً من هؤلاء. وعلى مدى سنوات طويلة، كان أفضل خيار أمامهم هو إجراء طبي عمره 40 عاماً يسمى التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة (TMS)، حيث يجلس المريض على كرسي بينما يتم تثبيت ذراع مغناطيسية على رأسه، لإرسال نبضات إلى مناطق معينة من المخ لمدة 30 دقيقة تقريباً.
يختلف ذلك عن العلاج بالصدمة الكهربائية الذي يؤدي إلى حدوث نوبات تشنج في مختلف أجزاء المخ. ورغم أن التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة فعال، حيث ينجح مع حوالي 60% من المرضى، فإن معظمهم يعانون من ترتيبات الانتقال إلى المستشفى كل يوم لمدة شهر أو أكثر لإجراء ذلك.
رقاقة إريك عبارة عن قرص مستدير ومسطح، يُزرع فوق جمجمته مباشرة، ويجلعه قادراً على إجراء هذه العملية بنفسه في أي وقت يشاء من خلال تفعيل الرقائق بجهاز منفصل يحمله في اليد.
قال إريك إنه شعر في البداية بإحساس يشبه ذلك الذي يشعر الإنسان به عند الضغط بالإبهام في راحة اليد. أما الآن فهو بالكاد يشعر بها، ويمكنه تنشيط شريحة “إينر كوزموس” المزروعة أثناء جز العشب في حديقته أو تناول القهوة، على الرغم من أنه لا يستخدمها أثناء القيادة.
زراعة رقائق الدماغ
بدأت واجهات الدماغ والحاسوب (BCIs)، التي يشار إليها أيضاً باسم التكنولوجيا العصبية أو رقائق الدماغ، تكشف عن نفسها، وقد ساهم إطلاق إيلون ماسك لشركة “نيورالينك” (Neuralink) في تحفيز السوق عندما ساعدت الشركة أول مريض مصاب بشلل رباعي، هو نولاند أربو، على تصفح الإنترنت وممارسة ألعاب الكمبيوتر. وضخت شركات رأس المال المغامر 953 مليون دولار في شركات التكنولوجيا العصبية الناشئة العام الماضي.
كان أول ظهور لهذا المجال في القرن التاسع عشر، عندما اكتشف الطبيب الفرنسي بول بروكا أن منطقة معينة من المخ تتحكم في الكلام، مما وضع الأساس لدراسة الآلات التي يمكن أن تستهدف مناطق أخرى من الدماغ لعلاج الاضطرابات.
رغم أن عمليات زراعات الدماغ كانت موجودة منذ أكثر من عشرين عاماً، مع التركيز بشكل أساسي على المرضى المصابين بالشلل، فإن العامين الماضيين شهدا قفزة نحو أجهزة أكثر تطوراً تعد بعلاج مجموعة واسعة من الحالات بإجراءات أبسط. فشركة “سينكرون” (Synchron)، وهي شركة ناشئة يدعمها جيف بيزوس وبيل غيتس، تتيح للأشخاص الذين لا يستطيعون الحركة تقريباً تشغيل فأرة الكمبيوتر، ويتم إدخال الجهاز إلى المخ عبر الأوعية الدموية دون الحاجة إلى إجراء جراحة في الدماغ. وتقوم شركة أخرى تدعى “بارادروميكس” (Paradromics) بتثبيت مجموعة من الأقطاب الكهربائية الصغيرة على سطح المخ.[i]
علاج بدون اختراق الجمجمة
اكتشفت شركة “إينر كوزموس” طريقة لعلاج مشاكل الصحة العقلية دون الدخول إلى المخ على الإطلاق. ويقول ميرون غريبتز، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي للشركة: “إنها أقل توغلاً من زراعة قوقعة الأذن”، مضيفاً أن العملية التي شارك فيها إريك تضمنت كشط الطبقة الخارجية من الجمجمة دون اختراقها، مما يعني أن العملية ليست مقتصرة على جراحي الأعصاب.
(كتب مخترعو الرقاقة ورقة بحثية تمت مراجعتها من قبل الأقران في عام 2021، صنفوا فيها هذه التقنية على أنها “تقنية دمج وتضمين” لا “تقنية اختراق”).
بعد الانتهاء تقريباً من الدراسة التي أجريت على ثلاثة مرضى، من بينهم إريك، يتحدث غريبيتز الآن مع “إدارة الغذاء والدواء” الأميركية (FDA) حول دراسة أكبر لفاعلية الشريحة قد تشمل عشرات أو حتى مئات المرضى المصابين بالاكتئاب. ويقول إن التجارب التي تجريها الشركة على البشر هي أول تجارب تسمح بها “إدارة الغذاء والدواء” الأميركية لجهاز يعالج الاكتئاب منذ 20 عاماً تقريباً.
في ضوء الانتشار الواسع لحالات التوتر والاكتئاب في عصرنا، فإن هذا التقدم الذي تحقق في مجال التكنولوجيا العصبية ليس وحده ما يمس القلب ويثير الحماس وإنما أيضاً إمكانية أن تحل هذه التكنولوجيا مشكلة مقاومة العلاج في مجال الصحة النفسية.
عندما نستطيع زرع جهاز بسهولة نسبية لإزالة غشاوة الاكتئاب، فإن الأمر يستحق أن نتبنى هذه التطورات حتى لو كانت فكرة التحول إلى إنسان نصف آلي تثير الرعب في قلوب بعضنا.
زحف الذكاء الاصطناعي
تزداد خطورة هذه التطورات وتصبح أشد رعباً مع زحف أنظمة الذكاء الاصطناعي الأقوى التي لا تسمح لزراعات الدماغ بالمزامنة مع الإنترنت فحسب وإنماً أيضاً بمعالجة بعض البيانات الشخصية الأشد عمقاً، ناهيك عن التأثير على أفكار الشخص نفسه.
ليس هذا ضرباً من الخيال العلمي. فقد طلب ماسك من علمائه في شركة “نيورالينك” أن يعملوا تحت “هوس الشعور بالضرورة العاجلة” لتزويد ودعم مرضى المستقبل بقدرات الذكاء الاصطناعي. كما يرى غريبيتز، رائد الأعمال الذي أسس قبل ذلك شركة لنظارات الواقع المعزز، أن زراعات المخ ستساعد البشر يوماً ما على العمل مع الذكاء الاصطناعي “بطريقة تعاونية أكثر”.
أشك في إمكانية أن يتحقق هذا النوع من التعاون في يوم من الأيام في ضوء حقيقة أن المخ لا يزال لغزاً غامضاً إلى حد بعيد حتى بالنسبة لعلماء الأعصاب. إلا أن الحل المؤقت المتمثل في استخدام هذه الواجهات لعلاج الاضطرابات المزمنة حل واعد بما فيه الكفاية. وقصة إيريك هي مثال آخر على أن الخطوات الأولى لتكنولوجيا المخ في الطب السائد تجلب الأمل في الوقت الراهن، لا عالم الواقع المرير (ديستوبيا).
هوامش
[i] تعمل شركة “نيورالينك” التابعة لإيلون ماسك، والتي جمعت 687 مليون دولار، وفقاً لموقع “بيتش بوك” (Pitchbook)، على وظائف الدماغ السطحية فقط مثل التحكم في الحركة، ولكنها في النهاية تريد التعمق أكثر في وظائف المخ للتعامل مع المزاج والشهية والإدمان والألم والنوم، كما قال رئيس جراحي الأعصاب في الشركة، ماثيو ماكدوغال، في بودكاست العام الماضي. “نود أن نصل إلى تلك النقطة في نهاية المطاف”.