تفاؤل بيل أكمان بالبث يصطدم بواقع سوق الموسيقى
يأتي عرض مدير الاستثمار بيل أكمان الذي راهن على مجموعة “يونيفرسال ميوزيك غروب” (Universal Music Group) في عام 2021 كأنه مأخوذ مباشرةً من مقطع ترويجي لفيلم من أفلام السيرة الذاتية لأحد الموسيقيين بعنوان: “أنت بحاجة إلى الطعام والماء لتعيش، لكن الموسيقى تلي ذلك في الأهمية”.
هناك بعض الوجاهة في موقفه، فحتى في أوقاتنا التي تعصف بها الصراعات والاضطرابات الاقتصادية، تجاوزت إيرادات الجولة الحالية للفنانة تايلور سويفت من شركة “يونيفرسال ميوزيك غروب” حاجز المليار دولار، واجتذبت خدمات بث الموسيقى أكثر من 500 مليون اشتراك مدفوع، كما تحقق مبيعات أسطوانات الفينيل السنوية نمواً بنسب من أرقام مزدوجة، ويتحدى سهم شركة “سبوتيفاي تكنولوجي” (Spotify Technology) اضطرابات سوق الأسهم الواسعة.
ولكن هناك شخصية أخرى في السير الذاتية للموسيقيين، وهي مسؤول شركة التسجيلات الموسيقية الذي يعض على السيجار (وهو في العادة رجل) ويخبر البطل بثقة أن أغنيته الأشهر محكوم عليها بالفشل، ما يعني أن أكمان ليس محقاً تماماً في موقفه.
يتباطأ نمو نشاط البث مع تلاشي تأثيرات الجائحة وارتفاع الأسعار، وتتراجع قبضة شركات التسجيلات الكبرى على المشهد الصوتي الذي يزداد تنافسية، فقد أدى نمو مجموعة “يونيفرسال ميوزيك” بمعدل أبطأ من المتوقع إلى تراجع أسهمها وقيمة حصة أكمان البالغة 10.3%، كما تراجعت أسهم مجموعة “وارنر ميوزيك غروب” (Warner Music Group).
ربما تكون الموسيقى صالحة لكل زمان، لكن إعادة ابتكار هذه الصناعة قد تأخرت كثيراً.
تأثير “سبوتيفاي” على سوق الموسيقى
إن ما هو جيد لـ”سبوتيفاي” ليس دائماً جيداً لشركات التسجيلات. فقد عزز تطبيق تشغيل الموسيقي الرقمي السابق من لعبته الخوارزمية، مما زاد من تفاعل وتشجيع المستمعين على اكتشاف أنواع مختلفة- من أصوات الحيتان والضوضاء البيضاء إلى الكتب الصوتية والبودكاست.
تقسيم الأذواق وتصنيفها من خلال قوائم تشغيل مثل “راب كافيار” (Rap Caviar) وحوافز الدفع الزائف غير المعلن لـ”سبوتيفاي” للهروب من الشروط التجارية غير المتوازنة المتمثلة في دفع 70% من كل دولار اشتراك في شكل حقوق ملكية، يعني أن الحصة السوقية لشركات التسجيل الكبرى قد انخفضت على مر السنين إلى أقل من 75%.
ويقول ليور تيبون، رئيس منصة التمويل الموسيقي “ديوتي” (Duetti): “إن السوق أصبحت أكثر تفتيتاً، وأصبح العثور على النجم القادم أصعب كثيراً”.
لا تزال الشركات الكبرى تتمتع بقدر هائل من القوة والنفوذ –تخيل القيمة التي تقدمها “سبوتيفاي” بدون كتالوغاتها–كما لا ينبغي تجاهل قدرتها على النجاة من أزمات وجودية مثل اختفاء القرص المضغوط.
غير أن ما يدعو إلى القلق هو أنها أسقطت الكرة من أيديها. وربما افترضت خطأً أن بإمكانها أن تسترخي وتعيش على رصيد أعمالها العظيمة مع نمو سوق البث الموسيقي، حيث يتعين على شركات الإنتاج أن تكافح بقوة أكبر في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، ومدفوعات حقوق الملكية غير المتكافئة واكتشاف الفنانين عبر الإنترنت.
شبكات التواصل صانعة الأذواق الجديدة
خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي هي صانعة الأذواق الجديدة، فلم يكن تكتيك الضغط الذي اتبعته “يونيفرسال ميوزيك غروب” لسحب كتالوغها من شركة “تيك توك” بمثابة انتصار، خاصة عندما قررت تايلور سويفت إعادة موسيقاها أولاً. وقد أدى الخلاف إلى خسارة شهر من إيرادات للشركة.
كل هذا كان له تأثير على الموسيقيين الذين وقعوا في مرمى نيران حروب البث. فقد انهارت تكلفة إنتاج الموسيقى وتحميلها، وكذلك تكلفة الوصول إليها والاستماع إليها.
هذا أمر رائع بالنسبة للمستهلكين، ولكن بالنسبة للنجوم الطموحين فهذا يعني زيادة المنافسة على اهتمام وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى إيرادات حقوق الملكية التي لا تتجاوز أجزاء من بنس واحد.
وجد تقرير صادر عن شركة “ميديا ريسيرش” للأبحاث، استناداً إلى دراسة استقصائية شملت أكثر من 300 مؤلف للأغاني، أن الغالبية العظمى منهم يكسبون أقل من 10 آلاف دولار سنوياً.
قد تزداد الأمور سوءاً، فقد يؤدي انخفاض عائدات “سبوتيفاي” من اشتراكات الكتب الصوتية المجمعة إلى حرمان مؤلفي الأغاني من 150 مليون دولار من المدفوعات في العام المقبل، وفقاً لتقديرات مجلة “بيلبورد” (Billboard).
هذه المشكلات قابلة للإصلاح من الناحية النظرية. فمن الواضح أن الموسيقى منخفضة التكلفة من الناحية الموضوعية، فلا تزال إيرادات البث والاشتراكات أقل بكثير من ذروة عصر الأقراص المدمجة بعد تحييد أثر التضخم، ومع ذلك تقدم محتوى مقابل كل دولار أكثر بكثير مما كان ممكناً في ذلك الوقت.
الصراع الصفري يعرقل نمو السوق
من الواضح أيضاً أن الصراع الصفري بين منصات البث ومالكي المحتوى كان عائقاً أمام نمو السوق بشكل عام وأمام مكافأة الفنانين بشكل عادل، حيث تتحفز المنصات على زيادة أرباحها من مصادر أخرى. كتب محللو مجموعة “ماكواري غروب” في تقرير صدر في يونيو الماضي، أنه من الناحية النموذجية، ستجد شركات التسجيل والمنصات أرضية مشتركة للتخلص من الاحتيال في البث، ولدفع أجور أفضل للفنانين، وإيجاد طرق لتقليل عملية تسليع البث لدرجة دفع المعجبين المتفاعلين إلى العزوف عنها. فإذا أمكن للتلفزيون أن يدفع مقدماً مقابل المحتوى، واستطاع الاتحاد الوطني لكرة السلة الترويج لرياضييه بشكل صحيح، فإن قطاع الموسيقى أيضاً يستطيع أن يفعل ذلك.
ولكن ذلك يعتمد على قدرة الشركات على تغيير أساليبها أيضاً. فالإنصات بآذان صاغية كان مهارة المديرين التنفيذيين المسؤولين عن الفنانين والذخيرة الفنية، وربما يجب التركيز الآن على استخدام أفضل التقنيات لاكتشاف ورعاية الفنانين الذين لا تجد فيهم الشركات الكبرى كفاءة من حيث التكلفة.
من الجدير بالذكر أن شركة “وارنر” (Warner) قد قامت للتو بترقية إليوت غرينج، وهو ابن الرئيس التنفيذي لمجموعة “يونيفرسال ميوزيك” لوسيان غرينج، الذي يبلغ من العمر 30 عاماً، ليصبح رئيساً لمجموعة “أتلانتيك ميوزيك غروب”.
ويُعتبر غرينج الأب الملقب بـ”القطب الأخير”، أسطورة حية، إذ اشتهر بنهوضه وإطفاء الأنوار أثناء الاجتماعات للدلالة على عالم بلا أغانٍ ناجحة، أما غرينج الابن، فسُجل له آخر نجاح من خلال مغنية الراب آيس سبايس التي تغني على طريقة “تيك توك”، وقد سخر من شركات الإنتاج الكبرى، ووصفها بأنها بطيئة ومشتتة وغير قادرة على المنافسة- باستثناء ما يتعلق بنفوذها المالي.
وعلى الرغم من أننا لم نصل بعد إلى “لحظة نابستر”، التي تشير إلى نقطة التحول في العلاقة مع التكنولوجيا، فلا ينبغي لأحد أن يشعر بالارتياح إزاء فرص استقرار نمو البث في صناعة نادراً ما تكون فيها التهيئة والأنماط ثابتة إلى الأبد.
إن تدهور شركة “هيبنوسيس سونغز فند” (Hipgnosis Songs Fund) وبيعها، والتي ادعى رئيسها الكاريزمي ميرك ميركورياديس أن الموسيقى هي الذهب أو النفط الجديد، يكشف عن ثمن المبالغة في التوقعات.
هناك الكثير من المحتوى، وكلما أصبحت الموسيقى شكلاً من أشكال الخلفية الصوتية –مثل قائمة التشغيل التي تعتمد على الخوارزميات التي ربما كنت تستمع إليها وأنت تقرأ هذا المقال– كان من الصعب إقناع الناس بأن يدفعوا مزيداً من المال مقابلها. قد تكون الموسيقى ضرورة، ولكن ربما أساء أكمان تقدير مخاطر تحويلها إلى سلعة.