اخر الاخبار

“تعفن الدماغ”.. هكذا تسرق تفاهات السوشيال ميديا عقولنا

من رأس يخرج من كرسي مرحاض يغني “سكيبيدي” بصوت صاخب، إلى قرش ينتعل حذاءين وراقصة باليه برأس فنجان كابوتشينو… مقاطع قصيرة عبثية تجتاح شاشاتنا، تسرق منّا الساعات فيما نقلّب بينها بلا وعي، لنكتشف في النهاية أننا أضعنا وقتنا وأرهقنا عقولنا بلا جدوى.

بات هذا الانغماس الرقمي شائعاً جداً في ظاهرة تُعرف باسم “تعفّن الدماغ” (Brain Rot)، والذي يعني: “تدهور مفترض في الحالة الذهنية أو الفكرية للفرد نتيجة الإفراط في استهلاك محتوى تافه أو غير محفّز، لا سيما عبر الإنترنت”، كما يُستخدم هذا المصطلح لوصف المحتوى “الذي يقود إلى هذا التدهور”، وبسبب انتشار هذه الظاهرة بين الجيلين زد وألفا على وجه الخصوص، اختارت جامعة “أوكسفورد” كلمة “تعفن الدماغ” ككلمة العام 2024.

ورغم أن أول استخدام موثّق للمصطلح يعود إلى عام 1854 في كتاب Walden للفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو، في سياق نقدي لانحدار الذوق الثقافي وتفضيل ما هو سهل وضعيف فكرياً، فإنه اليوم يعكس واقعاً رقمياً يغمر المستخدمين بسيل من الفيديوهات القصيرة والميمات والمحتوى المُولّد بالذكاء الاصطناعي.

 فما الذي يجعل هذا المحتوى التافه قادراً على أسر عقول الملايين، وما الذي يترتب على ذلك نفسياً واجتماعياً واقتصادياً؟

من أين يأتي محتوى تعفن الدماغ؟

تصمّم منصات مثل “تيك توك” و”يوتيوب” و”إنستغرام” خوارزمياتها للترويج للمحتوى الأكثر جاذبية حتى لو كان تافهاً أو مكرراً أو يفتقر للقيمة المعرفية، وذلك من أجل إطالة زمن استخدام التطبيق من خلال عرض سيل مستمر من المحتوى المثير بصرياً الذي يحفز الدماغ على إفراز مادة الدوبامين المسؤولة عن الشعور بالرضا، ما يؤدي إلى استهلاك تلقائي ومتكرر يُقلّص القدرة على الانفصال عن الشاشة. كما أن القيام بعدة مهام رقمية معاً، مثل التنقل بين منصات التواصل الاجتماعي، قد يؤدي إلى فرط تحفيز الدماغ.

 ومع ازدياد الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي لتوليد المحتوى، بات من السهل ضخ كميات هائلة من النصوص والصور والمقاطع المصممة لجذب الانتباه اللحظي، ولا تتطلب أي جهد ذهني حقيقي، وهو ما يُعرف باسم المحتوى الرديء المولد بالذكاء الاصطناعي (AI slop).

يُضاف إلى ذلك الإدمان على الألعاب الالكترونية، لدرجة يصعب على المدمن التركيز في جوانب أخرى من حياته.

كيف يؤثر هذا المحتوى على صحتك؟

تشير دراسات علمية إلى أن الاستهلاك المفرط للمحتوى الرقمي السريع والسطحي، مثل الفيديوهات القصيرة أو المحتوى الرديء المولد بالذكاء الاصطناعي، قد تكون له تداعيات على الصحة النفسية.

فقد أظهرت مراجعة منشورة في مجلة World Psychiatry عام 2019 أن الاستخدام المكثف للإنترنت يمكن أن يؤثر على القدرات المعرفية، لا سيما تلك المرتبطة بالانتباه والذاكرة، وقد تنعكس هذه التغييرات في بنية المادة الرمادية في الدماغ.

في السنوات الأخيرة، تصاعدت التحذيرات من فرط استهلاك الأطفال والمراهقين للمحتوى السطحي والرقمي الرديء، الذي بات يؤثّر على مهاراتهم اللغوية وتحصيلهم الدراسي وقدرتهم على التواصل الاجتماعي السليم. 

أظهرت نتائج دراسة دنماركية موسعة نُشرت في 2024 وشملت أكثر من 31 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين سنة وسنتين، أن قضاء أكثر من ساعة يومياً أمام الشاشات المحمولة ارتبط بزيادة ملحوظة في صعوبات الفهم اللغوي. 

كما بينت دراسة لصالح معهد علم النفس في الأكاديمية الصينية للعلوم، نُشرت في مجلة PLOS ONE عام 2024، أن ثمة ارتباطاً سلبياً واضحاً بين الوقت الذي يقضيه طلاب المرحلة الابتدائية على المنصات الرقمية لمشاهدة مقاطع الفيديو القصيرة وأدائهم الأكاديمي.

تعفن الدماغ الإيطالي.. ما هو؟

مؤخراً، اجتاح الإنترنت ما يُعرف بـ”تعفّن الدماغ الإيطالي” (Italian Brainrot)، وهي صيحة رقمية انتشرت عبر منصات مثل “تيك توك” و”إنستغرام”، وتقوم على دمج صور عشوائية في ميمات سريالية ومشوّشة بصرياً، قد تبدو مضحكة لكنها خالية من أي محتوى معرفي أو لغوي حقيقي، تُطلق عليها أسماء من وحي اللغة الإيطالية. فإذا سمعت أطفالاً ومراهقين يرددون كلمات عجيبة مثل “باليرينا كابوتشينا أو ترالاليرو ترالالا وغيرها”، فاعلم أنها قد جاءت من هنا.

اقرأ أيضاً: هل يقتل المحتوى الرديء المولّد بالذكاء الاصطناعي الإنترنت؟

 وقالت المعالجة النفسية شيريل إسكين، في مقابلة مع شبكة “ABC News”، إن هذا النوع من المحتوى شديد الجاذبية لأنه فوضوي وسريع ومضحك. ورغم أنه قد لا يكون مؤذياً بالضرورة، لكن الإدمان عليه قد يؤدي إلى تراجع في التركيز، وتقلبات مزاجية، وصعوبة في الانفصال عن الشاشات، خصوصاً لدى الشباب.

الأمثلة كثيرة على مقاطع قصيرة تقوم على مشاهد مكرّرة لا تحفّز الدماغ؛ من فيديوهات “سكيبيدي”، إلى مقاطع لقطط تعيش كالبشر صُنعت بالذكاء الاصطناعي، وفيديوهات يظهر فيها أطفال يتحدثون كالكبار مولدة بالذكاء الاصطناعي. وهي جميعها محتوى مثالي للخوارزميات حتى تدفعه نحو انتشار سريع وواسع.

فالأطفال الذين كبروا وسط زخم وسائل التواصل الاجتماعي اعتادوا على المحتوى القصير والسريع، ما جعل كثيرين منهم يعانون من قصر مدة الانتباه.

بات لأولئك الأطفال ما يمكن وصفه بلغة خاصة تحتوي كلمات وعبارات جديدة، قد يواجه الأهل صعوبة في فهمها، حتى أن كلمة rizz التي انتشرت بين الشباب بفضل ثقافة الميم، والتي غالباً ما تُربط بمحتوى تعفن الدماغ، كانت اختيرت كلمة “أكسفورد” للعام 2023.

ما الأثر على الاقتصاد؟

يفرض التأثير العميق للمحتوى الرقمي الرديء على عقول الأطفال والمراهقين أعباء متزايدة، تشمل جلسات للعلاج اللغوي والسلوكي، بالإضافة إلى دروس خصوصية لتعويض التأخر الأكاديمي. وهذه التدخلات تثقل كاهل الأسر  وتزيد من الضغط على أنظمة الصحة والتعليم العامة.

لدى الشباب بشكل عام، يتسبب الإدمان على هذا النوع من المحتوى في زيادة مشاعر القلق والاكتئاب والانزعاج، ما يؤدي إلى تراجع الإنتاجية والتحفيز. وأشار معهد نيوبورت للصحة العقلية إلى أن قضاء ساعات طويلة أمام الشاشات يتسبب بـ”تعفّن الدماغ” الناتج عن فرط المعلومات الرقمية، والذي ينعكس سلباً على الصحة النفسية.

وحين يمتد ذلك إلى مكان العمل، سيُضاف إلى كلفة مشكلات الصحة النفسية التي يفاقهما الإرهاق الرقمي. إذ وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية، تتسبب اضطرابات مثل الاكتئاب والقلق في فقدان نحو 12 مليار يوم عمل سنوياً، ما يؤدي إلى خسائر في الإنتاجية تُقدّر بحوالي تريليون دولار أميركي سنوياً.

وفي السياق نفسه، كشف مسح أجرته “The Economist Intelligence Unit” عام 2020 أن 11.2% من المشاركين اعتبروا استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أحد أبرز أسباب تشتّت الانتباه خلال العمل عن بُعد.

كيف تتجنب تعفن الدماغ؟

يشكل ما يُعرف باسم “الديتوكس الرقمي” خطوة فعالة لإراحة الذهن، سواء عبر فترات قصيرة من الانقطاع أو حتى أياماً كاملة بعيداً عن الهاتف، فيما يبقى اللجوء إلى الدعم المتخصص ضرورياً إذا تطور الأمر إلى إدمان فعلي يحتاج إلى خطط علاجية مستدامة.

وينصح معهد نيوبورت بالحدّ من وقت التعرض للشاشة وتنظيم استهلاك المحتوى الرقمي، وإلغاء التطبيقات والتنبيهات المشتّتة وتجنّب استخدام الأجهزة الالكترونية قبل النوم. كما يوصي بانتقاء ما يظهر على المنصات الرقمية، من خلال استبدال الحسابات السلبية بمصادر إيجابية وملهمة تحفظ التوازن النفسي. 

وفي موازاة ذلك، يساعد الانخراط في أنشطة غير رقمية كالرياضة والتطوع وتعلّم هوايات جديدة على استعادة صفاء الذهن، فيما يعزز التواصل الواقعي مع الأصدقاء والعائلة الروابط الاجتماعية ويخفّف الضغوط. ولتقوية القدرات الذهنية، ينصح المعهد بتحدّي العقل عبر تعلّم لغات أو مهارات جديدة وممارسة التمارين الذهنية بدلاً من تصفح منشورات لا تثري الذهن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *